سانا مارين... أصغر رئيسة وزراء في العالم

تترأس حكومة فنلندية غالبيتها من النساء... ولا تتوقف كثيراً عند السن وكونها امرأة

سانا مارين...  أصغر رئيسة وزراء في العالم
TT

سانا مارين... أصغر رئيسة وزراء في العالم

سانا مارين...  أصغر رئيسة وزراء في العالم

عندما وقفت رئيسة وزراء فنلندا الجديدة سانا مارين وسط زعماء الأحزاب الأربعة الأخرى الذين تتشارك معهم الحكومة الائتلافية لالتقاط صورة جماعية تحتفل بها بتسلمها المنصب، لم تكن تعلم أن الصورة تلك ستحظى بانتباه عالمي، وتطبع على صفحات جرائد في أنحاء العالم من آسيا إلى أميركا.
فنلندا دولة أوروبية شمالية صغيرة، لا يزيد عدد سكانها على الـ5 ملايين ونصف المليون، وليست دولة عظمى تؤثر بسياستها الخارجية، كما أن سياستها الداخلية هادئة لا تجذب كثيراً من الاهتمام العالمي عادة. ولكن هذه الصورة كانت مختلفة، فجميع رؤساء الأحزاب نساء، وكلهن شابات لا تزيد أعمارهن على الـ34، باستثناء إحداهن التي تبلغ من العمر 55 سنة.
ورغم أن العالم طبعها بأنها أصغر رئيسة وزراء في العالم، فإن مارين نفسها تقول إنها لم تُلق انتباهاً يوماً لسنها، ولا لواقع أنها سيدة، بل تفكر بالأسباب التي دفعتها لدخول السياسة. ولكن إذا كانت هي لا تهتم بكونها سيدة شابة وصلت إلى المنصب الأعلى في الدولة، ونجحت بأن تحكم وإلى جانبها سيدات من سنها يرأسن أحزاب الائتلاف، بحكومة معظمها سيدات، فإن هذه الصورة ودلالاتها لم تخفَ حتى على خصومها السياسيين. وكتب رئيس وزراء فنلندا السابق المنتمي لحزب المحافظين ألكسندر ستاب على «تويتر» يقول: «إن حزبي ليس في الحكومة، ولكني أحتفل بأن زعماء الأحزاب الخمسة في الحكومة هن سيدات. هذا يظهر أن فنلندا دولة عصرية متقدمة. غالبية الحكومة التي رأستها أنا كانت أيضاً مؤلفة من النساء. ذات يوم، لن يعود للجنس أهمية في الحكومة. وحتى ذلك الحين، نبقى في الريادة».

قبل أسبوع من اختيار الحزب الاشتراكي الفنلندي سانا مارين (34 سنة) لترأس حكومة فنلندا، كانت هي ما تزال وزيرة النقل والاتصالات في حكومة الزعيم الاشتراكي أنتي رينه. وفي اللحظات الدراماتيكية التي كانت تحيط برينه، بعد أشهر قليلة على تسلمه منصبه، والتي دفعته للاستقالة، كانت مارين في بروكسل تشارك باجتماع أوروبي.
وعلى عجل، استدعيت للعودة إلى بلادها التي باتت في مأزق سياسي. فالرئيس رينه خسر ثقة أحزاب شريكة في حكومته الائتلافية بسبب تعاطيه مع أزمة الإضرابات التي شلت البلاد. فاستقال من منصبه كرئيس للوزراء، على أن يختار الحزب بديلاً له ليرأس الحكومة. وهكذا، وقع الاختيار على مارين البالغة من العمر 34 سنة لخلافته.
وبعد يوم من موافقة البرلمان على تسميتها رئيسة للوزراء، عادت مارين إلى بروكسل لتشارك في اجتماع قادة الاتحاد الأوروبي، ولكن ليس كوزيرة هذه المرة، بل كرئيسة للوزراء تتبادل أطراف الأحاديث مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي شوهد وهو يقدم لها التهاني بحرارة، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وغيرهما من الزعماء الأوروبيين.

أولويات الرئيسة

هناك في بروكسل أيضاً، عاد الصحافيون ليسألوها عن سنها، وواقع أن الحكومة الفنلندية أغلبها من النساء، إذ تضم 12 امرأة و7 رجال، فأجابت: «لا أركز على هذا الأمر، فأمامنا كثير من العمل في الوقت الحالي علينا إنجازه». وبالفعل، فأمام رئيسة الوزراء الشابة كثير من العمل.
داخلياً، تواجه مارين أزمة إضرابات عمالية كبيرة أطاحت بسلفها، سيكون عليها التعاطي معها بأسلوب مغاير يمكنها من الحفاظ على ثقة حكومتها، وهي لن تضيع كثيراً من الوقت لكي تتحدث عن الأزمة الأولى التي تواجهها، وتقول إنها لن تقارب المفاوضات مع العمال بأفكار مسبقة، وإنها تقف إلى جانب ذوي الدخل المحدود، مضيفة: «البلاد لا تحتمل استمرار الإضرابات».
والواقع أن العدالة الاجتماعية أحد الأسس التي تسير مارين في حياتها السياسية، فهي تعد من الجناح اليساري داخل الحزب الاشتراكي، حتى أنها تحيي أعضاء الحزب عندما تتوجه إليهم بالقول «أيها الرفاق». ومن ثم، فهي من أشد المؤيدين للنظام الاجتماعي في البلاد، وقد تحدثت أكثر من مرة عن كيف قدم لها النظام سنداً عندما كانت بحاجة إلى ذلك في صباها.

النشأة والبدايات

نشأت مارين في عائلة فقيرة، وربّتها والدتها بمفردها بعدما انفصلت عن والدها وهي في سن صغيرة، لإدمانه على الكحول. وكتبت هي نفسها تقول إنها «قصة عائلة مليئة بالحزن، ولكن بفضل النظام الاجتماعي لفنلندا والتشجيع من الأساتذة المتطلبين» تمكنت من تخطي الصعاب، والتخرج من جامعة تامبيري (شمال العاصمة هلسنكي)، لتصبح الأولى في عائلتها التي تتخرج في جامعة. وفي سن الـ15، عملت مارين في فرن، وكانت توزع المجلات لكي تحصل على مصاريف الجيب التي لم تكن والدتها قادرة على إعطائها إياها.
وتروي الرئيسة الشابة أنها بدأت الاهتمام بالسياسة عندما كانت تبلغ من العمر 20 سنة، من خلال الحركات والمنظمات الشبابية. وفي عام 2012، انتخبت عضواً في بلدية تامبيري حيث كانت تعيش، رغم أنها مولودة في العاصمة هلسنكي.
ولم تكن حينذاك قد تجاوزت سن الـ27، وكان هذا المنصب هو الذي شكل مفتاح صعودها السريع بعد ذلك، إذ إنها ترأست مجلس البلدية - في المدينة التي تعد من أكبر مدن البلاد - بين عامي 2013 و2017. ويروي متابعو مسيرتها أنها رغم صغر سنها عرفت بصرامتها، وقدرتها على إدارة جلسات مجلس البلدية بشكل حازم فعّال. وينتشر شريط لها وهي ترأس إحدى الجلسات التي تناقش إنشاء ترام جديد، وتبدو وهي تعبر عن امتعاضها مراراً من محاولات أعضاء المجلس التسويف وإضاعة الوقت بمداخلات طويلة.

نائبة لزعيم الحزب

وفي عام 2014، انتخبت مارين نائبة لزعيم الحزب الاشتراكي، ونجحت عام 2015 بدخول البرلمان للمرة الأولى وهي في سن الثلاثين. وبعد إعادة انتخابها في وقت سابق من العام الحالي 2019، عيّنت وزيرة للزراعة والاتصالات في حكومة رينه الذي وجد فيها باكراً نجمة صاعدة، فاحتضنها وأدخلها حكومته، ولم تمض أشهر حتى انتخبت لتحل مكانه.
ومن ناحية ثانية، لم تعرقل حياة مارين العائلية طموحها السياسي وصعودها السريع، فهي أم لطفلة عمرها أقل من سنتين، ولكنها تقول عن ذلك، كما تقول عن كونها سيدة وشابة، إنها تفكر بنفسها بهذه الطريقة، بل إن واقع كونها تأتي من عائلة فقيرة، ساعد بتقريبها من الناخبين الذين يشعرون بأنها «واحدة منهم». فقبل تسلمها رئاسة الحكومة، حلت مكان رينه لبضعة أيام خلال الحملة الانتخابية عندما تعرض لوعكة صحية، بصفتها نائبة الحزب. ونجحت بأن تكسب تحالف الأحزاب الرئيسية شعبية إضافية، بعدما كان ينحدر في استطلاعات الرأي، مع تقدم الحزب اليميني المتطرف «فينز».
وبالتالي، ورغم تقدم الحزب اليميني المتطرف «فينز» الذي كسب نسبة أكبر بكثير في الانتخابات الأخيرة مطلع العام على حساب الحزب الاشتراكي، نجح الاشتراكيون بالتحالف مع 4 أحزاب أخرى في تجاوزه، مما مكّنهم من تشكيل الحكومة. ولكن سياسات حكومتها البيئية، وتعهدها الطموح بتحويل فنلندا إلى دولة خالية من الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2035، تبيّن أنها ستكلف الناخبين غالياً.

التحديات الاقتصادية

ولا يساعد مارين كذلك الوضع الاقتصادي في البلاد، فنسبة البطالة مرتفعة بالنسبة لبلد صناعي، وهي ضعفا النسبة في هولندا وألمانيا، كما أن النمو الاقتصادي قد تباطأ. وتعلم مارين ذلك، وهو ما دفعها للتذكير، في أولى الكلمات التي ألقتها بعد انتخابها رئيسة للوزراء، بالعمل لتحقيق هدف حكومتها بخلق 30 ألف وظيفة جديدة. غير أنها قد تعجز عن تحقيق ذلك مقابل الحفاظ في الوقت نفسه على التقديمات الاجتماعية التي كرّرت دعمها لها أكثر من مرة، وتحدثت عن كيف ساعدها نظام الدولة في الأوقات التي كانت بحاجة إليه. فالخدمات الاجتماعية تكلف الخزينة غالياً، والضرائب المرتفعة أصلاً غير كافية لسداد فواتير الصحة والتعليم ومعونات البطالة وغيرها.
ولعل ما يزيد من مشكلات رئيسة الوزراء الجديدة مطالب العمال المتزايدة برفع أجورهم، وهو ما تسبب بموجة الإضرابات التي شلت البلاد، وورثتها مارين عن سلفها. ولكن هؤلاء تحديداً يشكلون «مفتاحاً» انتخابياً مهماً للاشتراكيين، خصوصاً أن كثيراً منهم تحول لدعم الحزب اليميني المتطرف «فينز» الذي يعتمد خطاباً شعبوياً يدغدغ مشاعر العمال. وبحسب البعض، فإن رينه فشل بسبب محاولته اللعب على الأوتار كلها في الوقت نفسه، أي أنه حاول إرضاء العمال بخطاب شعبوي، واليساريين بخطاب اجتماعي، و«الخضر» بخطاب بيئي. لكنه فشل في ذلك، وبدا كأنه يخدع الجميع. وسيكون هذا التحدي أمام مارين، بمحاولة استمالة الطبقات التي تركت الاشتراكيين للأحزاب الأخرى، من دون الظهور بمظهر «المخادع».

الأمن القومي

المشكلات الداخلية للرئيسة الشابة لا تنتهي بالاقتصاد، بل تمتد أيضاً لقضايا تتعلق بالأمن القومي. فواحدة من الأمور التي ينشغل بها الفنلنديون حالياً استعادة مواطنيهم الذين قاتلوا مع «داعش» في العراق وسوريا، ويقبعون حالياً في مخيم الهول لدى الأكراد، ويعتقد أن هناك العشرات من المقاتلين مع عائلاتهم يتنظرون العودة إلى فنلندا. وحتى الآن، تعتمد هلسنكي موقفاً مشابهاً لمواقف الدول الأوروبية الأخرى، برفض استعادتهم بحجة عدم وجود خدمات قنصلية في مناطق الأكراد.
ولم تتمكن مارين من تجاهل هذه القضية في أول ظهور إعلامي لها بعد تسلمها منصبها، إذ سألها صحافيون ما إذا كانت حكومتها قد أخذت قراراً حول كيفية التعامل مع المقاتلين وعائلاتهم، وما إذا كانت عملية إعادتهم قد بدأت، فكان ردها بأنها لا تملك معلومة كهذه لأنها «تسلمت منصبها قبل 6 ساعات فقط». ولكنها أضافت أن الحكومة الماضية التي كانت وزيرة فيها ناقشت الأمر عدة مرات، واستنتجت أن مناقشة الحالات الفردية يعود للمسؤولين الحكوميين، ولكن الحكومة لم تتخذ أي قرار سياسي بإعادتهم إلى فنلندا.
للعلم، وزير خارجية فنلندا بيكا هافيستو الذي تسلم منصبه في يونيو (حزيران) الماضي، وحافظ عليه في الحكومة الجديدة، كان قد أعلن عن تشكيل لجنة خاصة تدرس استعادة 30 طفلاً فنلندياً من مخيم الهول. ولكن قد لا تتمكن هلسنكي قانونياً من استعادة الأطفال من دون أمهاتهن، مما قد يجبرها على استعادة أشخاص يشتبه بأنهم قد قاتلوا إلى جانب «داعش»، وهو ما يتسبب بجدل كبير داخل الحكومة الائتلافية نفسها. فالحزب الوسطي المشارك في الحكومة يخشى استعادة هؤلاء، واستغلال حزب «فينز» اليميني المتطرف لذلك، خصوصاً أنه يحل في الطليعة في استطلاعات الرأي.

استغلال أزمة اللجوء

ورغم أن اللاجئين لا يشكلون أعداداً كبيرة في فنلندا، فإن قصتهم تحولت أيضاً إلى مادة انتخابية للحزب اليميني المتطرف الذي يستغل واقع أن معظم الفنلنديين يؤيدون الحد من أعداد اللاجئين، فيما مارين نفسها تنتقد هذه السياسات التي تطالب بتقليص أعدادهم. وكانت الموجة الأكبر عام 2015، حين وصل إلى فنلندا أكثر من 30 ألف لاجئ، 60 في المائة منهم من العراق. ولكن في العام التالي، ألغى ما يزيد على الـ5 آلاف لاجئ عراقي، معظمهم شبان، طلبات لجوئهم، وقرروا العودة طوعاً إلى العراق، بسبب ما قالوا إنه إحباط من النظام والحياة في فنلندا.
وكانت الحكومة السابقة التي كان يشارك فيها حزب «فينز» المتطرف قد صعبت منح اللجوء، وحددت شمل العائلة بأفراد العائلة المباشرة. ورغم أن سياسة الاشتراكيين مختلفة، فإن مارين قد تجد صعوبة بتليين سياسة الهجرة لصعوبة تمريرها داخل الحكومة الائتلافية، وخوفاً من خسارة المزيد من الأصوات.
سنوات أربع تأمل مارين أن تغير خلالها كثيراً من الأشياء إيجاباً في بلدها، وتقول إن «العمل لن ينتهي حينها، ولكن فنلندا قد تصبح دولة أفضل». وحتى ذلك الحين، وإذا ما نجحت بالاستمرار بعهدها، تبقى مارين ثالث سيدة تحكم فنلندا، وأصغر رئيسات الحكومات في العالم سناً.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.