رؤية لوتشيانو فلوريدي لفلسفة عصر الثورة الرابعة

العالم مادة وطاقة... ومعلومات

رؤية لوتشيانو فلوريدي لفلسفة عصر الثورة الرابعة
TT

رؤية لوتشيانو فلوريدي لفلسفة عصر الثورة الرابعة

رؤية لوتشيانو فلوريدي لفلسفة عصر الثورة الرابعة

شهدت سنة 1948 حدثاً ثورياً عظيماً مثّل انعطافة جوهرية في تأريخ العلم عندما نشر كلود شانون، أستاذ «معهد ماساتشوستس للتقنية»، ورقة بحثية بعنوان: «النظرية الرياضياتية للمعلومات». كانت تلك الورقة البحثية الفريدة من نوعها أول معالجة رياضياتية أنيقة ومكتملة لموضوعة «المعلومات» التي تبدو عصية على الإخضاع لأي نوع من المعالجات الكمية، وإذا ما وضعنا في حسابنا أن نوربرت فينر، أستاذ الرياضيات في المعهد ذاته، نشر كتاباً في السنة ذاتها بعنوان: «السيبرنيتيكا: السيطرة والاتصال في الحيوان والآلة»، فسنعرف على وجه الدقة الأسباب الكامنة وراء اعتبار سنة 1948 سنة عجائبية بحقّ؛ إذ إنّ كلّ التطورات الحداثية التالية التي أفضت إلى عصر الحداثة الرقمية وصعود اقتصادات المعرفة إنما هي بعض الجوانب التقنية للتطبيقات التي تمثل المعلومات مادتها الأولية الخام، وليس أبلغ دلالة في هذا المقام من أن يذهب بعض العلماء ومنظّري فلسفة العلوم والتقنية لاعتبار المعلومات هي الجوهر الأساسي الذي تتأسس عليه كلّ الحضارة البشرية.
لعلّ مفردة «المعلومات»؛ سواءٌ جاءت مفردة أم بصيغة التوصيف الملحق بعبارة «الثورة المعلوماتية»، هي المفردة التقنية الأكثر تداولاً بين العامّة؛ ومع ذلك ثمة خلط مفاهيمي بينها وبين مفردات «البيانات» و«المعرفة» وحتى «الخبرة». يبدو أمراً محسوماً في المفهوم الجمعي أنّ من حاز معلومات كثيرة في ميدان معرفي؛ فقد صارت له خبرة - حتى ولو بقدر ما - في ذلك الميدان.

- من هو لوتشيانو فلوريدي؟
لوتشيانو فلوريدي (Luciano Floridi«1964) هو أستاذ فلسفة وأخلاقيات المعلومات في جامعة أكسفورد، ويعمل أيضاً مديراً لـ«مختبر الأخلاقيات الرقمية» في الجامعة ذاتها. يشغل البروفسور فلوريدي، بالإضافة إلى موقعه الأكاديمي هذا، مواقع أكاديمية ومهنية في جامعات ومراكز بحثية عدّة أخرى، ويُعرَفُ عنه تخصصه الأكاديمي البحثي في نطاق فلسفة المعلومات وأخلاقياتها وكذلك في أخلاقيات الكومبيوتر.
نشر البروفسور فلوريدي عدداً من الكتب المرجعية المهمة التي صارت تعدُّ مرجعيات في نطاقها الفلسفي وتُرجمت إلى لغات عدة، ومن هذه الكتب: «دليل راوتليدج المرجعي في فلسفة المعلومات (2016)»، و«أخلاقيات المعلومات (2015)»، و«فلسفة المعلومات (2013)»، و«المعلومات: مقدمة قصيرة جداً (2010)»، و«دليل بلاكويل إلى فلسفة الحوسبة والمعلومات (2003)»، و«الفلسفة والحوسبة: مقدّمة (1999)»، و«الإنترنت: مقالة إبستمولوجية (1997)»، و«الذكاء المُعزّز: دليل الفلاسفة إلى تقنية المعلومات (1996)».

- الانفجار المعلوماتي والتأريخ المكتظّ
يشهد الواقع البشري في أيامنا هذه طوفاناً غير مسبوق من المعلومات أقرب إلى أن يكون «تسونامي» جارفاً اختار له المؤلف توصيف «التأريخ المكتظّ» في إشارة إيحائية واضحة الدلالة على عدم القدرة المتزايدة للكائن البشري على التعامل مع هذا الطوفان المعلوماتي؛ ومن هنا ظهرت الدعوات لكائن «ما بعد الإنسان (post - human)» حيث لن يكون الكائن البشري بوسائله البيولوجية الطبيعية قادراً على معالجة هذا الطوفان، بل سيستلزم الأمر حتماً نوعاً من التعزيز الاصطناعي (رقاقات إلكترونية تُزرع في الدماغ لتعزيز قدرة المعالجة الدماغية، مستشعرات للرؤية... إلخ»، وهنا ستكون الحاجة طاغية لإعادة النظر في أطروحاتنا الفلسفية الخاصة بموضوعات الهوية «الفردية والجمعية»، والذاكرة، والوعي البشري، والسياسات الثقافية، والخصائص الجندرية. تمثّل هذه الأطروحات الثيمات الجوهرية التي يتناولها فلوريدي في كتبه المنشورة.

- معضلة «البيانات الضخمة»
«البيانات الضخمة (Big Data)» باتت الخصيصة الكبرى التي تسِمُ عصرنا، ومن المحتّم أن تتعاظم مفاعيل هذه البيانات «على مستوى الكمّ والتفاصيل النوعية الدقيقة» في العقود القليلة المقبلة، وإذا ما امتلك الكائن البشري القدرة التقنية على معالجة هذا الطوفان المعلوماتي «وهو أمرٌ يبدو محسوماً منذ الآن»، فسنكون أمام «سوبرمان» معلوماتي، وهنا سيكون الدور المؤثر للرؤية الفلسفية في كيفية صياغة فهم الكائن البشري وتوجيهه نحو الغايات الخيّرة ومنعه من الانزلاق في مهاوي التغوّل الرقمي، كما توفّر الذائقة الفلسفية غير الملوثة ترياقاً مضاداً للكائن البشري من الوقوع في لجّة العبودية الرقمية من جانب الحكومات أو الهياكل المؤسساتية العملاقة التي تحتكر النطاق المعلوماتي («غوغل» على سبيل المثال).

- وهمُ السيادة البشرية على النطاق المعلوماتي
من المتوقّع صعود تطبيقات الذكاء الصناعي في العقود القريبة المقبلة، ولم يعُد بعيداً ذلك اليوم الذي يوصفُ بـ«التفرّدية (Singularity)» حيث ستتفوّق الآلات الذكية على الكائن البشري من ناحية القدرة على معالجة الكمّ المعلوماتي الدفّاق والتعامل معه؛ وعليه سيكون أمراً حكيماً منذ الآن التخلي عن الغطرسة البشرية الممثلة في المركزية البشرية بالنسبة للنطاق المعلوماتي والتحلي بروح التواضع والقبول بأن نكون سلسلة في حلقة معلوماتية فحسب، وهذا وجه واحد من الأوجه الكثيرة التي سيؤثر فيها النطاق المعلوماتي المستحدث على الأخلاقيات البشرية.

- الثورة الرابعة: معضلات متشابكة
اختار البروفسور فلوريدي عنوان «الثورة الرابعة» لأحد آخر كتبه المنشورة، وقد قصد من هذه الثورة مستوى مفاهيمياً تكون فيه المعلومات «والتقنيات المتصلة بالصناعات المعلوماتية واقتصاد المعرفة» هي المادة المؤثرة والمحرّكة في هذه الثورة؛ أما الثورات الثلاث السابقة فهي: الكوبرنيكية، والداروينية، والفرويدية، وواضحٌ أنّ المؤلف قصد بهذا التقسيم المفاهيمي تأكيد حقيقة أنّ كلّ ثورة من تلك الثورات الأربع اعتمدت مفهوماً ثورياً جديداً للوجود مثّل باراديغماً (تبعاً لتوصيف فيلسوف العلم توماس كون) غير مسبوق في نظرة الكائن البشري للوجود والكون والحياة بعامة.
لا بد من الإشارة في هذا الشأن إلى أنّ هذا التصنيف المفاهيمي للثورات يتمايز جوهرياً عن الثورات التقنية التي تعتمد على الابتكارات التقنية المستجدة وسيلة في التصنيف؛ وعلى هذا الأساس تكون الثورة الأولى هي ثورة البخار ومثالها الأكبر هو القاطرة البخارية، والثورة الثالثة هي ثورة محرك الاحتراق الداخلي ومثالها السيارة، والثورة الثالثة هي ثورة التقنية المعلوماتية وصناعات المعرفة ومثالها الأعظم هو الكومبيوتر؛ أما الثورة الرابعة طبقاً لهذا التصنيف التقني المحض فهي ثورة الذكاء الصناعي والخوارزميات المتصلة به.
يورد فلوريدي في الفصل الأخير من كتابه هذا عبارة تكشف عن طبيعة المعضلات المشتبكة التي تنطوي عليها الثورة الرابعة التي بتنا نشهد طلائعها:
«...تخلق تقنيات المعلومات والاتصالات بيئة معلوماتية جديدة سوف تقضي فيها الأجيال القادمة معظم وقتها، وإذا كانت الثورات السابقة التي أحدثت الرخاء، لا سيما الزراعية والصناعية منها، قد أحدثت تحولات واسعة النطاق وواضحة للعيان في أنساقنا الاجتماعية والسياسية وبيئاتنا المعمارية، وفي كثير من الأحيان من غير تبصّر كافٍ، فكثيراً ما كانت تصاحبها آثار وتداعيات مفاهيمية وأخلاقية عميقة.
ليست ثورة المعلومات أقل دراماتيكية؛ سواء فُهمت على أنها ثورة ثالثة من حيث خلق الرخاء، أو ثورة رابعة من حيث إعادة صياغة مفهومنا عن أنفسنا، وسوف نكون في مأزق خطير إن لم نأخذ مأخذ الجد حقيقة أننا نخلق البيئات المادية والفكرية الجديدة التي ستستوطنها الأجيال القادمة...».

ثمّ يختتم الفصل بمادة شديدة الإمتاع عن «الحياة في الحيّز المعلوماتي»، نقرأ في خاتمتها العبارات التالية:
«...يبدو أن ثَمَّة شيئاً ما لا سبيل إلى نكرانه؛ ألا وهو أن الفجوة الرقمية ستصير هوة عميقة؛ هوة تولِّد أشكالاً جديدة من التمييز بين أولئك الذين يعيشون وسط الحيز المعلوماتي وأولئك الذين لن يتمكنوا من ذلك، بين المطَّلعين وغير المطَّلعين، بين من يتمتعون بالثراء المعلوماتي وبين من يفتقرون إليه. ستعيد هذه الهوة تشكيل خريطة المجتمع العالمي؛ وهو ما سيؤدي إلى توليد أو توسيع الانقسامات الجيلية، والجغرافية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية...».
كتاب «الثورة الرابعة» مكتوب بلغة إنجليزية تقنية رشيقة عُرف بها البروفسور فلوريدي؛ فهو إلى جانب خبرته الواسعة في الجوانب التقنية لموضوعة المعلومات، فإنه ضليع في الجوانب الفلسفية لها؛ الأمر الذي يمنح كتابه هذا تعزيزاً فكرياً كبيراً ويجعله مادة مشاعة لطَيفٍ واسع من القرّاء على اختلاف مناشطهم العملية ونوازعهم الفكرية.
يُذكر أنّ كتاب «الثورة الرابعة» للبروفسور لوتشيانو فلوريدي صدر مترجماً عن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية في سبتمبر (أيلول) 2017 بترجمة ممتازة للؤي عبد المجيد السيد، وحسناً فعلت السلسلة بترجمة هذا الكتاب المهمّ وهي المعروفة بترجماتها الممتازة واختياراتها الرصينة المنتقاة لنخبة الكتب المنشورة في العالم، وكم أتمنى أن يحظى هذا الكتاب بمقروئية واسعة في عالمنا العربي لأنه يمثل رؤية متفرّدة لفلسفة عصر الثورة الرابعة.

- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية مقيمة في الأردن


مقالات ذات صلة

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق أجمل ما يحدُث هو غير المُتوقَّع (مواقع التواصل)

من «لم أَبِع كتاباً» إلى «الأكثر مبيعاً»

أكّدت كاتبة بريطانية طموحة أنّ رؤية روايتها تُصبح من أكثر الكتب مبيعاً بعدما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي كان ذلك أمراً «مثيراً جداً».

«الشرق الأوسط» (لندن)

رئيس «أبل» لـ«الشرق الأوسط»: نمو غير عادي للبرمجة في المنطقة

تيم كوك في صورة جماعية مع طالبات أكاديمية «أبل» في العاصمة السعودية الرياض (الشرق الأوسط)
تيم كوك في صورة جماعية مع طالبات أكاديمية «أبل» في العاصمة السعودية الرياض (الشرق الأوسط)
TT

رئيس «أبل» لـ«الشرق الأوسط»: نمو غير عادي للبرمجة في المنطقة

تيم كوك في صورة جماعية مع طالبات أكاديمية «أبل» في العاصمة السعودية الرياض (الشرق الأوسط)
تيم كوك في صورة جماعية مع طالبات أكاديمية «أبل» في العاصمة السعودية الرياض (الشرق الأوسط)

أكد الرئيس التنفيذي لشركة «أبل»، تيم كوك، أن مجتمع برمجة وتطوير التطبيقات في المنطقة ينمو بشكل غير عادي، مشدداً على أهمية دور التطبيقات في معالجة التحديات العالمية.

وأدلى كوك بهذه التصريحات لـ«الشرق الأوسط» على هامش زيارته العاصمة الإماراتية أبوظبي، حيث عقد لقاء خاصاً مع عدد من المطورين، وشجعهم على متابعة شغفهم مع معالجة التحديات في العالم الحقيقي. ونصح كوك المطورين الشباب في المنطقة باحتضان العملية، بدلاً من التركيز على النتائج.

وشدَّد تيم كوك على النمو والديناميكية الملحوظة لمجتمع المطورين في المنطقة، مشيراً إلى وجود قصص للمبدعين المحليين وشغفهم بإحداث فرق في حياة الناس.