منافسات صعبة وتوقّعات حاسمة في ترشيحات «غولدن غلوبز»

حَوَت مفاجآت وقلبت تكهنات وحملت بعض الدهشة

مارتن سكورسيزي يتوسط لقطة خلال تصوير «الآيرلندي»
مارتن سكورسيزي يتوسط لقطة خلال تصوير «الآيرلندي»
TT

منافسات صعبة وتوقّعات حاسمة في ترشيحات «غولدن غلوبز»

مارتن سكورسيزي يتوسط لقطة خلال تصوير «الآيرلندي»
مارتن سكورسيزي يتوسط لقطة خلال تصوير «الآيرلندي»

اعتلت الدّهشة وجوهاً كثيرة عندما خرجت ترشيحات «جمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» صباح أول من أمس، وهي خالية من روبرت دي نيرو في عداد المرشّحين لجائزة «غولدن غلوبز» كممثل أول عن دوره في فيلم «الآيرلندي».
صحف ومواقع أمس، الثلاثاء، عكست هذه الدهشة كون الجميع توقّع العكس تماماً، بمن فيهم مراقبو المجلات المتخصصة بالصناعة والإنتاج السينمائيين مثل «ڤاراياتي» و«ذَ هوليوود ريبورتر».
على أنّ الواقع يُشير إلى أنّ ترشيحات واحدة من أهم جوائز السنة، وهي جوائز «غولدن غلوبز»، التي ستوزع في الخامس من الشهر المقبل جوائزها للمرة السابعة والسبعين، جاءت مليئة بالمفاجآت الإيجابية والسلبية، وأنّ استبعاد دي نيرو من الترشيح في سباق أفضل ممثل درامي، ليس الوحيد الكفيل برفع حاجبي المتابع تعجباً.
واحدة من أهم المفاجآت السارة للبعض، والمثيرة للحذر لدى البعض الآخر، اقتحام شركة «نتفلكس» لإنتاج الأفلام المنزلية عقر دار الجمعية بما مجموعه 17 ترشيحاً. هذا يشمل فيلم «الآيرلندي» الذي قام دي نيرو ببطولته.
هناك ثلاثة ترشيحات لأفلام أنتجتها نتفلكس في سباق أفضل فيلم درامي وهي «الآيرلندي» و«قصة زواج» و«الباباوان» (The Two Popes). وترشيح رابع إنّما في سباق أفضل فيلم كوميدي- موسيقي وحظى به فيلم «دولمايت هو إسمي».
باقي الترشيحات التي كان لنتفلكس نصيب بها توزعت في سباقات مختلفة مثل أفضل إخراج وأفضل سيناريو وأفضل تمثيل نسائي أول وأفضل تمثيل رجالي أول، كما أفضل تمثيل رجالي مساند. لكنّ محور كل ذلك يبقى فيلم مارتن سكورسيزي الذي حصد خمسة ترشيحات وطارت السادسة من بين يدي بطله دي نيرو.
الترشيحات الخمسة التي نالها «الآيرلندي»، توزعت في سباقات أفضل فيلم وأفضل مخرج (سكورسيزي)، وأفضل ممثل مساند (آل باتشينو وجو بيشي) وأفضل سيناريو (ستيڤن زايليان).
فيلم كونتن تارنتينو «ذات مرة في هوليوود»، نال ثلاثة ترشيحات، الأول في مجال أفضل فيلم كوميدي أو موسيقي، والثاني في مجال أفضل ممثل مساند (براد بت)، والثالث في مجال أفضل ممثل في فيلم كوميدي (ليوناردو ديكابريو).
وفي ميدان الإخراج ظهرت خمسة أسماء كلها رجالية وغابت الأسماء النسائية. تحديداً غريتا غرويغ مخرجة «نساء صغيرات»، الذي نجده في قائمة أفضل فيلم درامي. وتمّ ترشيح الفيلم ذاته لجائزة أفضل موسيقى مكتوبة خصيصاً (وضعها ألكسندر دسبلات).
على أنّ الهرج والمرج الذي يصاحب هذا الحماس للإجابة على أسئلة مطروحة، ربما خفّف من وقع المفاجآت، وعلامات الدّهشة تتبدّد عند التعرض لكل مسابقة على حدة لمعرفة مكنوناتها ولماذا تكوّنت على هذا الأساس ومن هو الفيلم أو السينمائي الذي يمكن لنا التكهن بأنّه في مقدّمة أترابه.

الأفلام
هناك أربع مسابقات للأفلام السينمائية في ترشيحات الـ«غولدن غلوبز»: أفضل فيلم درامي وأفضل فيلم كوميدي- موسيقي وأفضل فيلم أجنبي (هناك مسابقة أفضل فيلم تلفزيوني، لكنّ سباق التلفزيون يستحق تحقيقاً منفصلاً).
1 - أفضل فيلم درامي
> 1917
> The Irishman
> Joker
> Marriage Story
> The Two Popes
من البداية كان من المتوقع دخول «الآيرلندي» و«جوكر» و«قصة زواج» إلى عرين هذه المسابقة. هي على التوالي أفلام عصابات ودراما عن الوجه البشع من البطولة وأخرى عن الوجه البشع من الزواج. هذا لأن مخرجي هذه الأفلام ضمنوا تصميماً جاذباً من المعالجات والأسماء الواردة في خانة التمثيل.
ولكن هناك حصانان سوداوان في هذه الحلبة وليس واحداً: فيلم سام منديس «1917» المدهش، و«البابوان» الجيد (إخراج فرناندو ميرييلس).
إذا حكم أعضاء جمعية «ذَ هوليوود فورِن برس» حسب الرغبة في تفضيل العنوان الرنان، فإنّ خيارهم سينجلي عن واحد من الأفلام الثلاثة المذكورة آنفاً (ولو أن «ذَ جوكر» يضعف حيال «الآيرلندي» بعض الشيء). أما لو جاء الحكم لصالح اللغة الفنية المستخدمة فإن «1917» سيفوز في هذه المسابقة.
2 - أفضل فيلم كوميدي أو موسيقي
> Dolmite is My Name
> Jojo Rabbit
> Knives Out
> Once Upon a Time in Hollywood
> Rocketman
حتى الآن يتقدّم «ذات مرة في هوليوود» على أترابه المذكورة. فيلم كونتن تارنتينو نظرة ساخرة وعاشقة في الوقت نفسه على هوليوود الستينات. لكنّ هذا التقدّم ليس ضمانة بفضل وجود فيلمين جيدين هما «سكاكين مسلولة» و«دولمايت هو اسمي».
هذا الناقد لا يرى في الفيلم الهزيل فنياً «جوجو رابيت» والفيلم الموسيقي «روكتمان» احتمالات كبيرة.
3 - أفضل فيلم أجنبي
> The Farewell
> Les Misérables
> Pain and Glory
> Parasite
> Portrait of a Lady on Fire
فيلم «الوداع» (إخراج لولو وانغ)، كوميديا عائلية عذبة من النوع الذي يرتاح فيه المرء كثيراً إذا ما كان من هواة النوع ويتقلب في كرسيه إن لم يكن. أقوى منه صنعة فيلم لادج لي الفرنسي «البائسون» الذي شهد عرضه الأول في مهرجان «كان» (فاز بجائزة لجنة التحكيم مناصفة مع فيلم آخر).
المنافسة القوية ستكون بين الفيلم الإسباني «ألم ومجد» لبدرو ألمودوڤار (بطولة أنطونيو بانديراس الذي يخوض منافسة أفضل ممثل درامي أول أيضاً عن هذا الفيلم)، و«فطري» لبونغ دجون - هو (كوريا الجنوبية) وهو نال أعلى بقليل مما استحق من اهتمام وتقدير وهو بدوره من عروض مهرجان «كان»، بل فاز بذهبيته الأولى.
أمّا «صورة لسيدة على النار» لسيلين شياما فهو إيطالي - فرنسي، وسبق له أيضاً أن عُرض في مهرجان «كان» من دون جوائز رئيسية (نال جائزة «كوير بالم» للأفلام المثلية).
بذلك فإنّ الفيلمين القويين والأكثر احتمالاً للفوز في هذه الفئة هما «ألم ومجد» و«فطري».
4 - أفضل فيلم أنيميشن
> Frozen 2
> How to Train Your Dragon‪:‬ The Hidden World
> The Lion King
> Missing Link
> Toy Story 4
السؤال هنا مطروح على نحو عريض: «فروزن 2» حديث وما يزال في البال وأثار إعجاباً لا بأس بحجمه. «ذَ ليون كينغ» تجاوز أرقاماً كبيرة في «شباك» التذاكر. لكن «توي ستوري 4» هو الأجود. الأسوأ فنياً هو «كيف تدرب تنينك: العالم المخفي». أمّا «العلاقة المفقودة» فيحط بين «ذَ ليون كينغ» و«فروزن 2» قلقاً.
المخرجون
هناك مسابقة واحدة للمخرجين سواء حققوا أفلاماً درامية أو موسيقية أو كوميدية والغلبة هنا لأفلام الدرامية.
> Parasite لبونغ دجون - هو
> 1917 لسام مندز
> Joker لتود فيليبس
> The Irishman لمارتن سكورسيزي
> Once Upon a Time in Hollywood لكونتن تارنتينو.
الملاحظة الأولى أنّ فيلم كونتِن تارنتينو هو الوحيد الذي نال كذلك ترشيحاً بين الأفلام الكوميدية بينما توارى مخرجو باقي أفلام تلك الفئة. والملاحظة الثانية أنّ الكوري بونغ دجون - هو حط هنا كالمخرج الوحيد أيضاً من بين مخرجي مسابقة الفيلم الأجنبي.
الملاحظة الثالثة والأخيرة أنّ سام مندز ومارتن سكورسيزي وتود فيليبس هم الآتون من دائرة أفضل فيلم روائي بينما تم تغييب نوا بومباك (مخرج «قصة زواج») ودكستر فلتشر (مخرج «روكتمان») عن هذه القائمة.
هذا يعزز احتمال أن يأتي الفائز واحداً من اثنين: مارتن سكورسيزي وسام مندز.

الممثلون في الأدوار الأولى
هناك فرعان لممثلي الأدوار الأولى: فرع درامي وفرع كوميدي. نبدأ بالدرامي
1 - أفضل ممثل في دور أول في فيلم درامي:
> كرستيان بايل عن Ford v Ferrari
> أنطونيو بانديراس عن «مجد وألم»
> أدام درايفر عن «قصة زواج»
> واكين فينكس عن «جوكر»
> جوناثان برايس عن «البابيان».
وجود كريستيان بايل وغياب شريكه في البطولة مات دامون يثير بعض الاستغراب. لكنّه وجود مستحق ولو أنّ المنافسة هنا قوية بين سواه: واكين فينكس وأنطونيو بانديراس. أدام درايفر لا نراه مؤهلاً على صعيد الموهبة وحدها. جوناثان برايس أفضل منه أداء وانسياقاً طبيعياً، لكنّه أضعف كجاذبية جماهيرية.
2 - أفضل ممثل في دور أول في فيلم كوميدي أو موسيقي:
> دانيال كريغ في Knives Out
> رومان غريفِن ديڤيز في «جوجو رابِت».
> ليوناردو ديكابريو في «ذات مرة في هوليوود»
> تارون إيغرتن في «روكتمان»
> إيدي ميرفي في «دولمايت هو اسمي»
نرى المنافسة متعادلة بين دانيال كريغ وليوناردو ديكابريو وإيدي ميرفي، لكنّها محتملة بين ديكابريو وميرفي. الممثلان الآخران أقرب لأن يخرجا بنيل الترشيحات فقط.

الممثلات في الأدوار الأولى
1 - أفضل ممثلة في دور أول في فيلم درامي:
> سينثيا إريڤو عن Harriet
> سكارلت جوهانسن عن «قصة زواج».
> ساويرس رونان عن Little Women
> تشارليز ثيرون عن Bombshell
> رنيه زلڤيغر عن Judy
لحين بدت رنيه زلڤيغر كما لو أنّها «جوكر» «سيقش» جميع المنافسات. لعبت دور المغنية والممثلة جودي غارلاند على نحو أثار إعجاب النقاد. ولكن مع وجود أداء جيد من تشارليز ثيرون وسكارلت جوهانسن فإنّ الكرة قد تتدحرج لصوب إحداهما بعيداً عن رنيه.
الممثلة التي تستحق الجائزة فعلياً هي الأفرو - أميركية سينيثيا إريڤو عن دورها الصّعب الذي أدته جيداً في فيلم «هارييت».
2 - أفضل ممثلة في دور أول في فيلم كوميدي أو موسيقي:
> أوكوافينا عن The Farwell
‫> كيت بلانشت عن Where’d You Go Bernadette?‬
> أنا دي أرماس عن Knives Out
> بيني فلدستين عن Booksmart
> إيما تومسون عن Late Night
هناك ممثلة شابة وجيدة وقديرة في موهبتها البكر اسمها أنا دي أرماس وتستحق الفوز وهي ما زالت شابة عن أدائها الرائع واللافت في «سكاكين مسلولة». كيت بلانشِت وإيما تومسون تجلبان القدر المناسب من الأداء الخارج من خبرة وربما تحظى إحداهما بالجائزة في هذا الإطار.

الممثلون والممثلات في الأدوار المساندة
2 - أفضل ممثل مساند:
> توم هانكس عن A Beautiful Day in the Neighbourhood
> أنطوني هوبكنز عن «الباباوان»
> آل باتشينو عن «الآيرلندي»
> جو بيشي عن «الآيرلندي»
> براد بت عن «ذات مرّة في هوليوود».
من المثير أن يدخل آل باتشينو وجو بيشي عن فيلم واحد. لكن إذا ما كان لا بد من التفضيل فإن جو بيشي هو من يستحق بينهما. ليس لأنّه عائد من اعتزال فقط، بل أساساً لأنّ الممثل الوحيد في «الآيرلندي» الذي لم يكن عليه أن يستعرض شيئا بل أقبل بحضوره فقط. بعده يأتي دور أنطوني هوبكنز وهو شخصية محبوبة من قِبل أعضاء الجمعية ثم براد بت الذي يتوسط الاحتمالات.
2 - أفضل ممثلة مساندة:
> كاثي بايتس عن Richard Jewell
> آنيت بانينغ عن The Report
> لورا ديرن عن «قصة زواج».
> جنيفر لوبيز عن Hustlers
> مارغوت روبي عن «بومبشل».
هناك ثلاث ممثلات تجاوزن الخمسين من العمر وتستحق كل واحدة منهن جائزة: كاثي بايتس وأنيت بانينغ ولورا ديرن، وقد تذهب الجائزة إلى إحداهن بالفعل (أرجح كاثي بايتس). مارغوت روبي هي الأفضل من بين الممثلتين الأصغر من خط الخمسين.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)