أزمة الخيال العلمي

هـ. ج. ويلز
هـ. ج. ويلز
TT

أزمة الخيال العلمي

هـ. ج. ويلز
هـ. ج. ويلز

ترى الشخص يقف على الآلة فتغشاه الأشعة من حوله، ويغطي النور جسده فيتم نقله إلى مكان آخر، هذه كانت أشهر اللقطات لمسلسل «رحلة النجوم» (Star Trek)، التي ألفها الكاتب المنتج الأميركي «جين رودنبري» الذي يعد أكثر المنتجين السينمائيين تأثيراً في مجال الخيال العلمي بلا منازع، ويسبق الكاتب المخرج «جورج لوكاس» صاحب «حرب النجوم». فقد كتب في منتصف الستينات مسلسلاً حكي من خلاله قصة سفينة الفضاء «الإنتربريز» التي مهمتها استكشاف الفضاء، فوضع خريطة لأجناس وكائنات مختلفة، لكل منها شكله ورؤيته وثقافته وأسلوب حياته، بل وسياساته، فابتكر ما أطلق عليهم جنس «الكارداسيان» الذين يعيشون في مجتمعات شمولية بثقافة أحادية يسيطر عليها الوسواس السياسي والاجتماعي، ومعهم «الكلينونز»، وهم كائنات محاربة متشدقة بالكرامة وعزة النفس والرغبة في ميتة تفتح لهم آفاق حياة أخرى، وأيضاً «البورج» الذين سيطرت عليهم الآلة، فاستوعبوا كل الكائنات التي وجدوها بشكل آلي-ميكانيكي، وارتبطوا جميعاً بما سماه «الجماعة»، فسيطر عليهم الفكر الواحد والتحرك الواحد بلا أي مشاعر.
كذلك كانت إبداعاته العلمية واضحة، وعلى رأسها محرك السفينة الذي يدار بوقود من «المادة المضادة» (Anti Matter) التي لا تزال تداعب خيال العلماء لاكتشاف كيفية استخدام تفاعل المادة وعكسها لتوليد وقود لا ينفد. كما طرح أول نموذج لـ«التاب» الذي نستخدمه جميعاً اليوم، والذي استخدمه طاقم السفينة لتنظيم العمل اليومي. وقد كانت هذه مجرد نماذج من الأجناس والاختراعات التي ابتكرها هذا العبقري، والتي سرعان ما أصبحت العلامة التجارية للروايات والمسلسلات المتتالية «لرحلة النجوم» إلى اليوم.
والثابت أن «رودنبري» لم يبدأ من العدم، بل انطلق من أرضية خيال علمي ثابتة في المجتمع الغربي، على رأسها رواية «فرانكنشتاين» لميري شللي. ومن بعدها، جاء مبدع الخيال العلمي «جول فيرن» (Vernes) الذي ألف رائعته «عشرين ألف فرسخ تحت الماء». ومن بعدهم، العبقري «ه. ج. ويلز» صاحب رواية «آلة الزمن». ويربط البعض هذا الشغف بالخيال العلمي عند الغرب بانطلاق الثورات الصناعية والعلمية في أوروبا، وهنا حدث للغرب قدر من التشابك بين الأدب والعلم وتطوره، فاستمرت حركة الخيال العلمي، خصوصاً بعد أن وصل الإنسان إلى القمر في القرن الماضي، فربط العقل الغربي بشدة بين هذه الخطوة من ناحية ورواية «من الأرض إلى القمر» التي نُشرت في 1867.
ولكن الصورة تختلف تماماً في مجتمعاتنا، فأدب الخيال العلمي لا يحظى باهتمام يذكر، وهو لا يكاد يخرج عن الجهد الفردي لبعض الروائيين من أمثال «أنيس منصور» و«نهاد شريف» و«نبيل فاروق»، وبدرجة أقل «أحمد توفيق»، وذلك بلا مردود، فجهدهم لم يأخذ البعد المطلوب على الإطلاق على المستوى الثقافي والاجتماعي. وقد حاول البعض التعرض لأسباب هذه الظاهرة بربطها بأزمة النشر التي تواجهها الأمة العربية، فضلاً عن افتقار كثير من الكتاب للخلفية العلمية التي تؤهلهم للخوض في مثل هذه الروايات، بينما أرجعها البعض إلى أن أدب الخيال العلمي غير متأصل في ثقافتنا وبيئتنا.
وأمام هذه الحقيقية التي يوازيها واقع غربي مختلف تماماً، لا بد للعقل العربي أن يستفيق، فيقف وقفة موضوعية للتعرف على سبب ضعف هذا النوع من الفكر الروائي والإنتاج المرئي له وعلاجه، خصوصاً أننا نظل في أغلب الأوقات أسرى لروايات اجتماعية أو سياسية أو تاريخية كثيراً منها فاقد للجاذبية مكرر المضمون، وهنا نتساءل: لماذا نجح الغربيون وفشلنا نحن في خلق مثل هذا النوع من الخيال العلمي، سواء المكتوب أو المرئي؟ وهل نحن مقصرون؟ وهل الأزمة تأتي من قلة العرض أم اضمحلال الطلب الاجتماعي على رواية الخيال العلمي؟ وهنا، قد نجد أنفسنا أمام معضلة فكرية-اجتماعية، فمما لا شك فيه أننا مجتمعات ميتافيزيقية الطابع ارتباطاً بدور الدين فينا، وهو شيء عظيم يقربنا من إنسانيتنا، ومع ذلك فالميتافيزيقية تقف عند حدود الخيال العلمي. ومن ناحية أخرى، يرى البعض أن ارتفاع تكلفة أعمال الخيال العلمي، سواء على الناشر أو عند تحويلها لعمل مرئي، يمثل سبباً مباشراً لأزمة الخيال العلمي في أدبنا، وهو أمر سيحتاج لوقفة واضحة خارج نطاق آليات السوق المعروفة التي يجب ألا تسيطر وحدها على صناعة الأدب والفكر والسينما.
ورغم كل الأسباب التي أوردها المفكرون والروائيون لتراجع أعمال الخيال العلمي في رواياتنا وأعمالنا المرئية، فحقيقة الأمر أنه لا سبب منطقي لهذا التقصير، لا سيما في ضوء انتشار كثير من الروايات والأعمال المرئية مكررة الفكرة، بل والأحداث، حيث تمثل إعادة تدوير لكثير من روايات سالفة، سواء عربية أو أجنبية، بشكل مُحدث. ويبدو لي أن الأزمة تميل في جذورها لعدم إقبال الذوق العربي العام للخيال العلمي، وهو ما يُفقد القارئ والمجتمعات قدراً من الخيال والتحفيز المطلوبين، فنحن لسنا شعوباً بلا خيال، كما يدعى البعض، فأدبنا على مدار الألفيات يعكس ذلك، من شعر ونثر ورواية، وقد آن الأوان لأن نُدخل في ذوقنا العام فكراً يتخطى الخيال المرتبط بالواقع، لا سيما عندما لا يكون الواقع في أحسن حالاته.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.