استشعر الجنود الموجودون عند الحفرة الناجمة عن الانفجار أن هناك شيئا خاطئا. وقع الانفجار في أغسطس (آب) 2008 بالقرب من منطقة التاجي في العراق، حيث قاموا فقط بتفجير كومة من قذائف المدفعية العراقية القديمة مدفونة بجانب بحيرة تبدو عكرة. وكشف هذا التفجير - الذي كان جزءا من محاولة لتدمير الذخائر التي يمكن استخدامها في صنع قنابل بدائية الصنع - عن المزيد من القذائف المخبأة.
وأسندت المهمة لـ2 من التقنيين للتخلص من الذخائر بداخل الحفرة. وتسربت مياه البحيرة إلى الحفرة. فلاحظ أحدهم، الذي يُدعى أندرو تي غولدمان، انبعاث رائحة لم يسبق له أن شم مثلها من قبل. قام برفع إحدى الذخائر، فلاحظ وجود معجون زيتي نزّ من إحدى الشقوق بالذخيرة. وعن ذلك، قال قائد فريقه السارجنت إريك جيه دولنج: «إنها لا تشبه تلك الرائحة التي تخرج من مياه البركة».
قام الاختصاصي بمسح القذيفة بورقة الكشف الكيميائي، فتحولت إلى اللون الأحمر، مما ينم عن وجود خردل الكبريت، وهو نوع من المواد المستخدمة في الحرب الكيماوية ويصيب الضحية بحروق في الشعب الهوائية والجلد والعين.
بات الرجال الـ3 في موقف حرج، ثم أمرهم دولنج: «غادروا المكان فورا».
بعد 3 سنوات من إرسال الرئيس جورج دبليو بوش قوات أميركية إلى العراق، كانت القوات قد دخلت بذلك فصلا موسعا، لكنه كان سريا للغاية، من التورط الأميركي الطويل والمرير في العراق.
كما تعرضت القوات الأميركية، جنبا إلى جنب مع القوات العراقية التي تلقت تدريبا على أيدي الولايات المتحدة - في الفترة ما بين 2004 إلى 2011 - لخطر الأسلحة الكيماوية المتبقية من سنوات حكم صدام حسين في السابق، وأصيبوا في 6 وقائع على الأقل جراء تلك الأسلحة الكيماوية.
وفي المجمل، أفادت القوات سرا بأنهم عثروا على نحو 5 آلاف من الرؤوس الحربية الكيماوية، والقذائف وقنابل الطائرات، وفقا للمقابلات التي أُجريت مع عشرات المشاركين في الحرب على العراق، ومسؤولين عراقيين وأميركيين، فضلا عن ملفات استخباراتية تتضمن قدرا كبيرا من المعلومات التي جرى الحصول عليها بموجب قانون حرية المعلومات.
خاضت الولايات المتحدة الحرب، معلنة أنه يتعين عليها تدمير برنامج فعال لأسلحة الدمار الشامل. ورغم ذلك، عثرت القوات الأميركية تدريجيا على بقايا البرامج التي جرى التخلي عنها منذ فترة طويلة، وكانت قد وضعت بالتعاون الوثيق مع الغرب، وعانت في نهاية المطاف منها.
عثرت صحيفة «نيويورك تايمز» على 17 فردا من أفراد الجيش الأميركي و7 من ضباط الشرطة العراقيين ممن تعرضوا لإصابات جراء غاز الأعصاب أو غاز الخردل عقب عام 2003. ومن جانبهم، أشار مسؤولون أميركيون إلى أن الحصيلة الفعلية للقوات التي تعرضت لذلك كانت أعلى قليلا، ولكن يمثل هذا العدد الرسمي المصنف من جانب الحكومة.
ومنذ بداية اندلاع الحرب، لم يجر الإعلان عن مواجهات الولايات المتحدة مع الأسلحة الكيماوية في العراق أو حتى تعميمها على نطاق الجيش. وتحمل هذه المواجهات الآن آثارا مقلقة مع سيطرة «داعش» (الجماعة المنشقة عن تنظيم القاعدة) على الكثير من الأراضي التي عثر فيها على الأسلحة.
وحجبت الحكومة الأميركية المعلومات عما توصلت إليه، حتى عن القوات التي أرسلتها لتخوض طريق المتاعب وكذلك الأطباء العسكريين.
وفي هذا الصدد، قال الضحايا والمشاركون في الحرب، إن السرية التي تنتهجها الحكومة حالت دون تلقي بعض القوات، التي تتولى المهام الأكثر خطورة في الحرب، الرعاية الطبية المناسبة والاعتراف الرسمي بإصابتهم.
من جهته، قال سارجنت سابق بالجيش أصيب بحروق جراء غاز الخردل في عام 2007 وحرم من تلقي العلاج في المستشفى والإجلاء الطبي إلى الولايات المتحدة رغم مطالبة قائده بذلك: «شعرت وكأنني حيوان تجارب وليس جنديا مصابا».
وأُطلع الكونغرس الأميركي على بعض المعلومات، بينما وُجهت تعليمات إلى القوات والضباط بالتزام الصمت أو الإدلاء بروايات مضللة عما عثروا عليه. ومن جانبه، قال جارود لامبر، وهو قائد في الجيش تقاعد أخيرا وكان مطلعا على أكبر عملية اكتشاف للأسلحة الكيماوية أثناء الحرب: «أُمرت بالإدلاء بمعلومات لا تشكل أهمية»، موضحا أنهم عثروا على أكثر من 2400 صاروخ مزود بغاز الأعصاب في عام 2006 في مجمع الحرس الجمهوري سابقا.
بدوره، قال جارود تايلور، وهو رقيب سابق في الجيش كان له ضلع في تدمير قذائف الخردل التي تسببت في حرق 2 من جنود المشاة التابعين له، إنه يضحك حين يسمع ما يشير إلى «عدم وقوع إصابات على الإطلاق» جراء «تلك الأشياء التي لم تكن موجودة». ولفت إلى أنه جرى تضليل الرأي العام لعقد من الزمن، قائلا: «من العجيب الحديث عن عدم وجود أي أسلحة كيماوية في العراق»، مضيفا: «لقد كانت موجودة بكثرة».
ورفض الأميرال جون كيربي، المتحدث باسم وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل، الإفصاح بمعلومات عن وقائع معينة ذُكرت بالتفصيل في التحقيق الذي أجرته «نيويورك تايمز»، أو مناقشة المسائل المتعلقة بالرعاية الطبية وعدم تقديم ميداليات للجنود الذين تعرضوا للإصابة. وعن ذلك، أشار إلى أن الممارسات المتعلقة بنظام الرعاية الصحية والمكافآت كانت قيد المراجعة، وتوقع هيغل أن تقوم الأجهزة المعنية بمعالجة كل أوجه القصور.
وفي سياق متصل، قال: «يرى هيغل أن كل الجنود يستحقون الحصول على أفضل دعم طبي وإداري ممكن». وأضاف: «لقد كان، بالتأكيد، يساوره القلق حيال أي دليل أو ادعاء بعدم تلقيهم مثل هذا الدعم. ويتوقع من القادة على كل المستويات السعي جاهدين لتصحيح الأخطاء التي جرى الوقوع فيها، أينما وحيثما وقعت».
إن اكتشاف هذه الأسلحة الكيماوية لا يدعم الأساس المنطقي للغزو الأميركي للعراق؛ فعقب شن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية عام 2001، أصر بوش على أن صدام حسين لديه برنامج سري فعال لأسلحة دمار شامل، في تحد للإرادة الدولية والخطر العالمي. فيما أوضح مفتشو الأمم المتحدة أنهم لم يتمكنوا من العثور على أدلة تبرهن على صحة تلك الادعاءات.
وبعد ذلك، بدأت القوات الأميركية - عقب فترة الاحتلال التي دامت طويلا - تواجه ذخائر كيماوية قديمة موجودة في مخابئ سرية وقنابل مزروعة على الطريق.
وإجمالا، كانت قذائف المدفعية من عيار 155 ملم أو صواريخ من عيار 122 ملم من بقايا برنامج الأسلحة التي أسرع العراق في إنتاجها أثناء حقبة الثمانينات خلال الحرب الإيرانية - العراقية.
وأوضح المشاركون في الحرب، أن كل الأسلحة التي عثر عليها كان قد جرى تصنيعها قبل عام 1991، وكانت الأسلحة تبدو متسخة وعليها لون الصدأ ومتأكلة، وكان من الصعب تصنيف جزء كبير من تلك الأسلحة أسلحة كيماوية على الإطلاق؛ فقد كان بعض تلك الأسلحة فارغا، رغم أن الكثير منها لا يزال يحتوي على غاز الخردل الفعال أو ما تبقى من غاز السارين. وكان من الصعب استخدام الكثير منها وفقا لتصميمها، وعندما جرى تفكيكها، انتشرت مواد كيماوية على مساحة محدودة، وذلك بحسب ما أفاد به من قاموا بتجميع الغالبية العظمى منها.
وأفاد المشاركون في الحرب بأن تحليل تلك الرؤوس الحربية والقذائف كان يؤكد - في واقعة تلو الأخرى - على الإخفاقات الاستخباراتية. بداية، لم تعثر الحكومة الأميركية على ما كانت تبحث عنه في بداية الحرب. ثم فشلت بعد ذلك في إعداد قواتها والجسم الطبي على النحو اللازم للتعامل مع الأسلحة القديمة التي عثرت عليها.
وبينما يشهد العراق اضطرابات من جديد جراء أعمال العنف، انهارت المكاسب الأمنية التي تحققت في السابق في خضم إراقة الدماء السنية - الشيعية، فضلا عن صعود «داعش»، تسلط تلك الوقائع المخيفة والتي دامت طويلا، الضوء على المخاطر المستمرة للأسلحة الكيماوية المتروكة في البلاد.
تتجمع الكثير من الوقائع المتعلقة بالأسلحة الكيماوية حول أنقاض منشأة المثنى، المركز المعني بإنتاج الأسلحة الكيماوية أثناء حقبة الثمانينات.
ومنذ شهر يونيو (حزيران)، سيطر «داعش» على المجمع. وأوضحت الحكومة العراقية، في رسالة أرسلتها إلى الأمم المتحدة هذا الصيف، أنه لا يزال هناك أكثر من نحو 2500 صاروخ كيماوي متأكلة تحت الأرض، وأوضحت كاميرات المراقبة للمسؤولين العراقيين قيام دخلاء بنهب المعدات قبل تدمير الكاميرات من جانب مسلحين.
من جهتها، ترى الحكومة الأميركية أن الأسلحة المتروكة لم تعد تشكل تهديدا، لكن ما أوضحه ما يقرب من 10 سنوات من الخبرة في زمن الحرب أن الذخائر الكيماوية العراقية القديمة ما تزال، في كثير من الأحيان، تشكل خطرا، لا سميا عندما يعاد استخدامها من أجل شن هجمات محلية كتصنيع القنابل بدائية الصنع على شاكلة ما فعله المتمردون بحلول عام 2004.
وأفاد المشاركون في اكتشافات الأسلحة الكيماوية بأن الولايات المتحدة حالت دون الكشف عما عُثر عليه من الأسلحة لأسباب عدة، بما فيها أن الحكومة لا تود الاعتراف أكثر بأنها كانت مخطئة. وعن ذلك، قال لامبر: «إنهم كانوا بحاجة إلى القول إنه عقب أحداث 11 سبتمبر، استخدم صدام قذائف كيماوية»، مضيفا: «كل هذا يعود إلى حقبة ما قبل عام 1991».
وأشار آخرون إلى أن الولايات المتحدة تواجه إحراجا آخر، ففي 5 من أصل 6 وقائع أصيب فيها الجنود جراء الأسلحة الكيماوية، كان يبدو أن الذخائر قد صممت في الولايات المتحدة، وجرى تصنيعها في أوروبا وجرى تشغيلها عبر خطوط الإنتاج الكيماوية التي بنيت في العراق من قبل شركات غربية.
من جهتهم، أعرب المسؤولون عن منع انتشار الأسلحة النووية عن أن تعامل البنتاغون مع الكثير من الرؤوس الحربية والقذائف التي عثر عليها كان يمثل انتهاكا لاتفاقية الأسلحة الكيماوية. فحسب هذه الاتفاقية يتعين الحصول على تلك الأسلحة الكيماوية والإبلاغ عنها وتدميرها بطريقة دقيقة تستغرق وقتا طويلا، إلا أن البنتاغون لم يتبع تلك الخطوات، لكنه يرى أنه يحترم روح الاتفاقية.
بدورها، قالت جنيفر إيلزيا، المتحدثة باسم البنتاغون: «جرى التعامل مع هذه الأسلحة المشتبه بها بموجب الظروف التي أملت التدمير الفوري لها من خلال الحاجة لضمان أن الأسلحة الكيماوية لا يمكن أن تشكل تهديدا للشعب العراقي، والدول المجاورة وقوات التحالف أو البيئة». وأضافت: «الاتفاقية لم تضع في تصورها الظروف الموجودة في العراق».
ورغم ذلك، قال الكثير من المشاركين إن الولايات المتحدة فقدت مسار تتبع الأسلحة الكيميائية التي عثرت قواتها عليها، وتركت كميات كبيرة منها غير مؤمنة، ولم تحذر الناس منها - العراقيين والقوات الأجنبية على حد سواء - في الوقت الذي نسفت فيه على عجل الذخائر الكيماوية في الهواء الطلق. وفي أوائل عام 2009، وإثر تحريض من الولايات المتحدة، انضم العراق إلى معاهدة الأسلحة الكيميائية. ومنذ تلك اللحظة، استعادت حكومة العراق الوليدة مسؤولية تأمين وتدمير أي ذخائر كيميائية متبقية منذ عهد صدام حسين. واتخذ العراق خطوات أولية حيال تلك الالتزامات؛ إذ وضع خطة لدفن المستودعات الملوثة في منشأة المثنى، التي لا تزال توجد بها بقايا المخزونات الكيماوية، في الخرسانة الإسمنتية. وحينما قام 3 من صحافيي مجلة «التايمز» بزيارة منشأة المثنى في عام 2013، كانت مجموعة من ضباط وجنود الشرطة العراقية تحرس المدخل. وكان هناك مستودعان خلفيان يحتويان على سلائف السيانيد وصواريخ السارين القديمة. وكانت المنطقة التي عثر بها المارينز على قذائف غاز الخردل في عام 2008 بعيدة عن الأنظار، ومحمية بواسطة الشجيرات والحرارة الوامضة. ولم تكن هناك قوات تحرس المدخل.
المجمع، الذي لم يدفن بعد، يقع الآن تحت سيطرة تنظيم داعش.
خدمة «نيويورك تايمز»






