«تركيا إردوغان» تتأرجح بين تقلباتها الداخلية وأزماتها الخارجية

بابا جان وداود أوغلو إلى إطلاق حزبيهما... و«إس 400» تبقي على التوتر مع واشنطن

«تركيا إردوغان» تتأرجح بين تقلباتها الداخلية وأزماتها الخارجية
TT

«تركيا إردوغان» تتأرجح بين تقلباتها الداخلية وأزماتها الخارجية

«تركيا إردوغان» تتأرجح بين تقلباتها الداخلية وأزماتها الخارجية

وسط تطورات سياسية داخلية ضاغطة عنوانها السعي إلى بلورة رؤية جديدة للتغيير تلبي مطالب قطاعات واسعة من الشعب التركي، تشهد السياسة الخارجية منعطفات دقيقة على جبهات متعددة تدفع بعلاقات تركيا مع كثير من القوى الإقليمية الدولية إلى التدهور السريع. ومع اعتبار هذه القطاعات أن تركيا باتت رهينة لحكم الفرد الواحد والحزب الواحد لما يقرب من عقدين من الزمان، يرى مراقبون أن كل هذه التطورات - سواءً الداخلية أو الخارجية - ترتبط في الأساس بسياسات حكومة الرئيس رجب طيب إردوغان وخطابه، الذي يتجاوز في كثير من المناسبات القواعد الدبلوماسية المتعارف عليها في علاقات الدول. بل إن هذا الخطاب يكلّف تركيا خسائر كبيرة سواء لناحية عزلتها في محيطيها الإقليمي والدولي أو لناحية استمرار الهزّات التي تعصف باقتصادها.
في المشهد الداخلي التركي، أوشك نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية والاقتصاد الأسبق علي بابا جان، المدعوم من رئيس الجمهورية السابق عبد الله غُل، على إطلاق حزبه الجديد بعد استقالته من حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي كان أحد مؤسسيه. وعلى الخطى نفسها، يسير رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو في طريق إعلان حزبه الجديد.
مولد الحزبين المرتقبين يشكل أوسع حركة انشقاق لرفاق إردوغان القدامى الذين شاركوه تأسيس حزب العدالة والتنمية، وكانوا من عوامل قوته خلال سنوات ازدهاره، وذلك قبل أن يبدأ رحلة تراجعه التي بلغت ذروتها منذ التوجه إلى إقرار النظام الرئاسي عبر الاستفتاء في أبريل (نيسان) 2017 ثم الانتخابات المحلية في نهاية مارس (آذار) الماضي. وفي الأخيرة، كما هو معلوم، تكبّد حزب إردوغان خسائر موجعة في كبريات الولايات التركية وفي مقدمتها المعقل الأهم (إسطنبول).
- نفق مظلم
لخّص علي بابا جان الوضع الذي وصلت إليه تركيا مع انفراد إردوغان بالحكم في ظل النظام الرئاسي الجديد. وكان هذا النظام قد دخل حيز التنفيذ عقب الانتخابات البرلمانية والرئاسية المبكرة التي أجريت في 24 يونيو (حزيران) 2018. ووفق كلام بابا جان فإن البلاد شهدت تعاظم الأزمات في جميع المجالات.
وجاء ظهور بابا جان أخيراً، وهو أول ظهور إعلامي له منذ ما يقرب من 5 سنوات، ليردّ على كثير من التساؤلات بشأن ما إذا كانت جهود إطلاق الحزبين الجديدين قد توارت، أو أن رفاق إردوغان القدامى صرفوا النظر عن مشاريعهم، وهذا بعدما استعاد إردوغان بعض شعبيته المفقودة من خلال إعادة شحن الشعور القومي خلال فترة عملية «نبع السلام» العسكرية في شمال شرقي سوريا.
جاء حديث بابا جان، في مقابلة مع قناة «خبر تورك» الإخبارية. وفيه كشف أن جهوده وفريقه لإطلاق حزبهم الجديد مستمرة و«أنها بلغت أمتارها الأخيرة»، وأن الحزب وبرنامجه سيتبلوران مع حلول نهاية شهر ديسمبر (كانون الأول) الجاري، من ناحية. ومن ناحية ثانية، سلّط الحديث الضوء مرة أخرى، وبوضوح تام، على أسباب انفصال بابا جان عن حزب إردوغان وإطلاق حزبه بتأكيده أن «تركيا دخلت في نفق مظلم في جميع المجالات بسبب حكم الرجل الواحد الذي أضر بالبلاد»، من الناحية الأخرى.
وتابع بابا جان أنه استقال من حزب العدالة والتنمية الحاكم، في يوليو (تموز) الماضي، بعد خلافات عميقة «عندما وجد انحرافاً من الحزب في القيم، وليس في المبادئ فقط، فضلاً عن التعسف في اتخاذ القرارات داخل الحزب». وأضاف: «الأزمات تعاظمت في كل المجالات، وشعرنا أن البلاد دخلت نفقاً مظلماً مع تزايد مشاكلها في كل قضية كل يوم... وبالتالي بدأنا جهودنا لإنشاء حزب جديد».
تحاشى الوزير السابق اللامع، الذي يتسم بأسلوبه الهادئ الرصين ونظرته العميقة للأوضاع في البلاد، انتقاد إردوغان بشكل مباشر، رغم هجوم إردوغان عليه وعلى كل من انشقوا أو استقالوا من الحزب ووصفهم بالخونة، غير أنه كرّر مرات خلال اللقاء أن «غياب الديمقراطية في ظل حكم الرجل الواحد أضر بالبلاد». وتابع بابا جان، الذي كان أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية الحاكم وأصغر وزير خارجية في تاريخ تركيا - إذ تولى المنصب وعمره 36 سنة فقط - ثم إنه كان نائباً لإردوغان عندما كان رئيساً للوزراء ومسؤولاً عن الملف الاقتصادي بالكامل حتى عام 2013، فقال: «اقتضى الأمر الخروج بتحدٍ جديدٍ (في إشارة إلى تأسيسه حزباً جديداً) لحل المشكلات والأزمات التي تواجهها البلاد. انسلخنا عنه (الحزب الحاكم) مخافة أن نشارك في إلحاق ضرر بالبلاد ونظامها».
- العودة إلى الديمقراطية
علي بابا جان أجاب عن كثير من التساؤلات التي تشغل الشارع التركي، ومنها دور الرئيس السابق عبد الله غُل في الحزب الجديد. ثم أشار إلى أن «الاستعدادات جارية على قدم وساق لإطلاق الحزب، والرئيس غُل أكد من قبل أنه لا يرغب في أن يكون له أي منصب بالحزب الجديد، لكنه يدعمنا من الخارج بخبراته وتجاربه، لأن رؤيته تتفق مع رؤيتنا قلباً وقالباً، وأنا ألتقي به في الشهر مرة أو مرتين... لن يشارك بنشاط في الحزب لكنه يعمل مستشاراً أو أخاً كبيراً».
وتابع: «كذلك فإننا نلتقي بكل من لهم مكانة سياسية لها اعتبارها في تركيا، وهدفنا الاستفادة من جميع الخبرات، والوصول إلى كيان نستطيع من خلاله تمثيل مختلف أطياف المجتمع».
ثم قال: «ستتواصل استعداداتنا حتى نهاية ديسمبر (كانون الأول) المقبل، وسنقطع خلال هذه الفترة مسافة جديدة، ونأمل أن نصل إلى نقطة جيدة في هذا الصدد. إننا نرغب في أن تتشكل سياسة الحزب الجديد بمشاركة الجميع ممن يسيرون معنا».
في أي حال، ظهور بابا جان في هذه المقابلة، بعد استقالته من حزب العدالة والتنمية في يوليو (تموز)، كان لافتاً. ولقد أرجع البعض خطوته السياسية إلى خلافات عميقة حول رؤية الحزب للمشاكل التي تمر بها البلاد. ولفت نفر من هؤلاء إلى «انحراف حزب إردوغان عن مبادئه وتراجع الاقتصاد والديمقراطية والحريات، وشعور بابا جان بحاجة الأجيال الجديدة في تركيا إلى حركة جديدة تعبر عن تطلعاتهم للمستقبل». ورأى هؤلاء في هذا أنه اختراق كبير لحصار إعلامي خانق من جانب وسائل الإعلام التي تتركز غالبيتها العظمى في يد حزب إردوغان.
بابا جان، فعلاً أعرب عن رغبته في إعادة بعض السلطات إلى البرلمان والعدول عن التعديلات الدستورية الأخيرة التي أدخلت في عام 2017، والتي مكنت الرئيس رجب طيب إردوغان من إحكام قبضته على البلاد عبر النظام الرئاسي الذي طبق العام الماضي. ومما قاله في هذا الصدد: «ليس من الصحيح استمرار النظام السياسي الحالي... نحن نعمل على إنشاء نظام برلماني مناسب، يعطي الأولوية لفصل السلطات ولعمليات التدقيق والتوازنات»، مشيراً إلى أنَّ تركيا تعاني من مشكلة فيما يتعلّق بحرية التعبير وقضايا العدالة والاقتصاد. ومعلوم أن بابا جان كان قد عمل في الحكومة خلال الفترة التي نما فيها الاقتصاد التركي 3 أضعاف عقب الأزمة المالية عام 2001. وفي حينه، شهدت تركيا طفرة اقتصادية غير مسبوقة قبل أن تعود إلى مسار التراجع الذي وصل إلى ذروته بدءاً من العام الماضي.
- خطوات أسرع لداود أوغلو
وبخطوات أسرع، يواصل رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو وضع اللمسات الأخيرة على مشروع حزبه الجديد. وعنه يقول مقربون منه إنه سيخرج إلى النور قبل بداية العام الجديد، وإنه تم بالفعل استئجار المباني والمقر الرئيسي للحزب في أنقرة، بالإضافة إلى مركز مؤقت لفرع الحزب في إسطنبول.
داود أوغلو كان قد شغل منصب رئيس الوزراء بين عامي 2014 و2016 قبل أن يختلف مع إردوغان. ولقد وجه هذا العام انتقادات حادة للرئيس إردوغان والإدارة الاقتصادية لحزب العدالة والتنمية، متهماً إياهم بتقويض الحريات الأساسية وحرية الرأي والديمقراطية.
وفي 13 سبتمبر (أيلول) الماضي، أعلن داود أوغلو تقديم استقالته من حزب العدالة والتنمية الذي يحكم تركيا منذ عام 2002. وقال في ذلك الوقت، إن الحزب لم يعد قادراً على حل مشاكل البلاد، ولم يعد يسمح بالحوار الداخلي فيه. وانضم إليه بعض الشخصيات السياسية السابقة، وعدد من المسؤولين الكبار في القطاع العام المتوقع أن يلعبوا أدواراً مهمة في حزبه.
ومن ثم، يلقى تحرك بابا جان وداود أوغلو ترحيباً واسعاً في الأوساط السياسية والشعبية بسبب تدهور وضع الحريات والحقوق الأساسية والضغوط الاقتصادية الكبيرة التي يعانيها السواد الأعظم من الشعب التركي. وفي قمة المصاعب الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد في السنوات الخمس الأخيرة، والتي بلغت ذروتها مع انهيار الليرة التركية في أغسطس (آب) 2018.
- تعقيدات خارجية
وسط هذه التطورات الداخلية تتواصل التعقيدات في كثير من الملفات الخارجية في مقدمتها الخلافات المعلقة بين أنقرة وواشنطن في كثير من الملفات. في مقدمة هذه الملفات إصرار تركيا على المضي قدماً في تشغيل منظومة الصواريخ الروسية «إس 400»، وهو ملف ينتظر الاشتعال في أي وقت حال قررت واشنطن فرض عقوبات على تركيا بموجب قانون مكافحة أعداء أميركا بالعقوبات «كاتسا» الذي يعاقب به من يتعاملون في مبيعات كبيرة للسلاح مع روسيا.
وكانت تركيا قد أجرت أخيراً أولى التجارب على المنظومة بتنفيذ طلعات جوية تجريبية بطائرات «إف 16» لاختبار نظام الرادارات في المنظومة الروسية. وهو أمر جدّد غضب واشنطن التي عبرت عن قلقها من هذه التجارب، ودفعها بالتعهد لبحث الأمر خلال اجتماعات حلف شمال الأطلسي (ناتو) في لندن. ولقد أكدت وتؤكد واشنطن دائماً قلقها من استخدام تركيا هذه المنظومة التي لا تتناسب مع أنظمة الناتو الدفاعية ومقاتلات «إف 35» الأميركية.
- عقوبات محتملة
وفي هذا الاتجاه، دعا السيناتور الأميركي الديمقراطي كريس فان هولين، إلى فرض عقوبات على تركيا فوراً بعد أن أجرت تجارب على منظومة «إس 400»، ومواصلتها ارتكاب جرائم في مناطق الأكراد في شمال سوريا. وقال هولين إنه «بعد أسبوعين من زيارته البيت الأبيض، كان إردوغان يحشر أنفه مع الرئيس دونالد ترمب والولايات المتحدة والناتو، ويعبر خطاً أحمر آخر باستخدام صواريخ (إس 400) الروسية... القانون الحالي يتطلب من ترمب فرض عقوبات على تركيا، يجب على وزير الخارجية مايك بومبيو أيضاً مواجهة تركيا بشأن انتهاكاتها الأخيرة (للمنطقة الآمنة) والهجمات ضد الأكراد».
وعن تصريحات وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، التي أعرب فيها عن القلق بشأن التجارب التي أجرتها تركيا الاثنين والثلاثاء الماضيين على منظومة «إس 400»، قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو: «إننا لم نشترِ هذا المنتج كي نحتفظ به في المستودع، نحن بحاجة إليه... نواصل الحديث مع الولايات المتحدة حول منظومة (إس 400) لكن لا يمكننا قبول أسلوب قائم على الإملاءات». ومن جانبه، قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار إن بلاده ستبحث عن بدائل في حال لم تحصل على مقاتلات «إف 35» الأميركية، مؤكداً أن أنقرة ستفعل منظومة «إس 400» الروسية بشكل مستقل عن منظومات حلف «الناتو».
وتسلمت تركيا الدفعة الأولى من المنظومة الروسية في يوليو (تموز) الماضي، لكنها أعلنت على لسان إردوغان، أنه سيتم تشغيلها بالكامل، خلال أبريل (نيسان) المقبل، في حين تطالب واشنطن بعدم استخدامها لتنافرها مع أنظمة الناتو الدفاعية ومقاتلات «إف - 35» الأميركية التي تسعى تركيا حتى الآن للحصول عليها.
- التقارب مع روسيا
وفي حين يستمر التوتر مفتوحاً مع الولايات المتحدة بسبب صفقة «إس 400»، فإن الصفقة نفسها تشكل إحدى ركائز التقارب التركي - الروسي، الذي يمتد أيضاً إلى التنسيق في سوريا سواء فيما يتعلق بإدلب أو شرق الفرات أو العملية السياسية المتأرجحة، فضلاً عن العلاقات الثنائية التي يسعى الطرفان للحفاظ على قوة الدفع فيها لارتباطهما بمصالح اقتصادية أبرز جوانبها التنسيق في مجال الطاقة.
لكن مراقبين يرون، مع ذلك، أن روسيا تتحرك في سوريا انطلاقاً من رؤيتها التي فرضتها على تركيا، والتي سمحت للنظام بالعودة إلى جنوب إدلب ومناطق شرق الفرات التي ترغب تركيا في إقامة منطقة آمنة واسعة فيها تحت سيطرتها. لكن روسيا تعمل في اتجاه تقييد هذه الرغبة وحصر التحركات التركية في نطاق ضيق لا يزيد كثيراً على الاحتياجات الأمنية التي يغطيها «اتفاق أضنة» الموقع بين تركيا وسوريا في 1998.
- تصعيد للأزمات
ويبدو أن أزمات السياسة الخارجية لتركيا لا تتوقف عند حد، فبشكل مفاجئ وقعت تركيا مع «حكومة الوفاق» الليبية برئاسة فايز السراج مساء الأربعاء الماضي، مذكرتي تفاهم تتعلقان بالتعاون العسكري وتحديد مناطق الولاية البحرية. وأثار هذا الاتفاق العسكري اعتراضات واسعة على المستويين الإقليمي والدولي، فأي اتفاقات تتعلق بالتسليح في ليبيا تشكل خرقاً لقرارات مجلس الأمن بفرض حظر السلاح.
أما الاتفاق البحري فإنه يشكل أمراً غير مفهوم للمتابعين في ظل عدم وجود حدود بحرية مشتركة بين تركيا وليبيا، ما أثار التساؤلات حول الهدف منه في ظل الأزمة التي أشعلتها تركيا مع الأطراف الإقليمية والدولية ودول منطقة شرق البحر المتوسط ممثلة في مصر واليونان وقبرص التي وقعت اتفاقية لترسيم الحدود البحرية فيما بينها، عبر عمليات تنقيب بحري عن النفط والغاز الطبيعي. وفي حين تقول قبرص إنها تقع ضمن منطقتها الاقتصادية الخالية تتمسك تركيا بأنها تقع ضمن جرفها القاري وبأنها تقوم بهذه العمليات للدفاع عن حقوق القبارصة الأتراك في الشطر الشمالي الجزيرة القبرصية.
الخطوة التركية مع «حكومة الوفاق» أثارت غضباً داخلياً في ليبيا من جانب «الحكومة المؤقتة» في شرق البلاد، وغضباً إقليمياً لدى الدول صاحبة الحق القانوني في المنطقة، والاتحاد الأوروبي الذي بدأ بالفعل فرض حزم تدريجية من العقوبات على تركيا التي يؤكد أنها تقوم بعمليات غير قانونية في شرق المتوسط.
أيضاً، يثير اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين الجانبين التركي والليبي قلق دول شرق المتوسط، التي دعمتها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي في تأسيس منتدى «غاز شرق المتوسط» بمبادرة من القاهرة، التي توترت علاقتها بأنقرة منذ سقوط حكم الإخوان المسلمين في 2013.
ولقد أقر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، أوائل الشهر الماضي، بالإجماع، الإطار القانوني الذي يسمح بفرض عقوبات على تركيا، نتيجة تنقيبها غير الشرعي عن الغاز في السواحل القبرصية واليونانية. ويرى مراقبون أن تركيا أرادت بهذه الخطوة استباق المؤتمر الدولي المرتقب في برلين حول السلام في ليبيا، لإدخال نفسها طرفاً مؤثراً في المعادلة الليبية.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.