«تركيا إردوغان» تتأرجح بين تقلباتها الداخلية وأزماتها الخارجية

بابا جان وداود أوغلو إلى إطلاق حزبيهما... و«إس 400» تبقي على التوتر مع واشنطن

«تركيا إردوغان» تتأرجح بين تقلباتها الداخلية وأزماتها الخارجية
TT

«تركيا إردوغان» تتأرجح بين تقلباتها الداخلية وأزماتها الخارجية

«تركيا إردوغان» تتأرجح بين تقلباتها الداخلية وأزماتها الخارجية

وسط تطورات سياسية داخلية ضاغطة عنوانها السعي إلى بلورة رؤية جديدة للتغيير تلبي مطالب قطاعات واسعة من الشعب التركي، تشهد السياسة الخارجية منعطفات دقيقة على جبهات متعددة تدفع بعلاقات تركيا مع كثير من القوى الإقليمية الدولية إلى التدهور السريع. ومع اعتبار هذه القطاعات أن تركيا باتت رهينة لحكم الفرد الواحد والحزب الواحد لما يقرب من عقدين من الزمان، يرى مراقبون أن كل هذه التطورات - سواءً الداخلية أو الخارجية - ترتبط في الأساس بسياسات حكومة الرئيس رجب طيب إردوغان وخطابه، الذي يتجاوز في كثير من المناسبات القواعد الدبلوماسية المتعارف عليها في علاقات الدول. بل إن هذا الخطاب يكلّف تركيا خسائر كبيرة سواء لناحية عزلتها في محيطيها الإقليمي والدولي أو لناحية استمرار الهزّات التي تعصف باقتصادها.
في المشهد الداخلي التركي، أوشك نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية والاقتصاد الأسبق علي بابا جان، المدعوم من رئيس الجمهورية السابق عبد الله غُل، على إطلاق حزبه الجديد بعد استقالته من حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي كان أحد مؤسسيه. وعلى الخطى نفسها، يسير رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو في طريق إعلان حزبه الجديد.
مولد الحزبين المرتقبين يشكل أوسع حركة انشقاق لرفاق إردوغان القدامى الذين شاركوه تأسيس حزب العدالة والتنمية، وكانوا من عوامل قوته خلال سنوات ازدهاره، وذلك قبل أن يبدأ رحلة تراجعه التي بلغت ذروتها منذ التوجه إلى إقرار النظام الرئاسي عبر الاستفتاء في أبريل (نيسان) 2017 ثم الانتخابات المحلية في نهاية مارس (آذار) الماضي. وفي الأخيرة، كما هو معلوم، تكبّد حزب إردوغان خسائر موجعة في كبريات الولايات التركية وفي مقدمتها المعقل الأهم (إسطنبول).
- نفق مظلم
لخّص علي بابا جان الوضع الذي وصلت إليه تركيا مع انفراد إردوغان بالحكم في ظل النظام الرئاسي الجديد. وكان هذا النظام قد دخل حيز التنفيذ عقب الانتخابات البرلمانية والرئاسية المبكرة التي أجريت في 24 يونيو (حزيران) 2018. ووفق كلام بابا جان فإن البلاد شهدت تعاظم الأزمات في جميع المجالات.
وجاء ظهور بابا جان أخيراً، وهو أول ظهور إعلامي له منذ ما يقرب من 5 سنوات، ليردّ على كثير من التساؤلات بشأن ما إذا كانت جهود إطلاق الحزبين الجديدين قد توارت، أو أن رفاق إردوغان القدامى صرفوا النظر عن مشاريعهم، وهذا بعدما استعاد إردوغان بعض شعبيته المفقودة من خلال إعادة شحن الشعور القومي خلال فترة عملية «نبع السلام» العسكرية في شمال شرقي سوريا.
جاء حديث بابا جان، في مقابلة مع قناة «خبر تورك» الإخبارية. وفيه كشف أن جهوده وفريقه لإطلاق حزبهم الجديد مستمرة و«أنها بلغت أمتارها الأخيرة»، وأن الحزب وبرنامجه سيتبلوران مع حلول نهاية شهر ديسمبر (كانون الأول) الجاري، من ناحية. ومن ناحية ثانية، سلّط الحديث الضوء مرة أخرى، وبوضوح تام، على أسباب انفصال بابا جان عن حزب إردوغان وإطلاق حزبه بتأكيده أن «تركيا دخلت في نفق مظلم في جميع المجالات بسبب حكم الرجل الواحد الذي أضر بالبلاد»، من الناحية الأخرى.
وتابع بابا جان أنه استقال من حزب العدالة والتنمية الحاكم، في يوليو (تموز) الماضي، بعد خلافات عميقة «عندما وجد انحرافاً من الحزب في القيم، وليس في المبادئ فقط، فضلاً عن التعسف في اتخاذ القرارات داخل الحزب». وأضاف: «الأزمات تعاظمت في كل المجالات، وشعرنا أن البلاد دخلت نفقاً مظلماً مع تزايد مشاكلها في كل قضية كل يوم... وبالتالي بدأنا جهودنا لإنشاء حزب جديد».
تحاشى الوزير السابق اللامع، الذي يتسم بأسلوبه الهادئ الرصين ونظرته العميقة للأوضاع في البلاد، انتقاد إردوغان بشكل مباشر، رغم هجوم إردوغان عليه وعلى كل من انشقوا أو استقالوا من الحزب ووصفهم بالخونة، غير أنه كرّر مرات خلال اللقاء أن «غياب الديمقراطية في ظل حكم الرجل الواحد أضر بالبلاد». وتابع بابا جان، الذي كان أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية الحاكم وأصغر وزير خارجية في تاريخ تركيا - إذ تولى المنصب وعمره 36 سنة فقط - ثم إنه كان نائباً لإردوغان عندما كان رئيساً للوزراء ومسؤولاً عن الملف الاقتصادي بالكامل حتى عام 2013، فقال: «اقتضى الأمر الخروج بتحدٍ جديدٍ (في إشارة إلى تأسيسه حزباً جديداً) لحل المشكلات والأزمات التي تواجهها البلاد. انسلخنا عنه (الحزب الحاكم) مخافة أن نشارك في إلحاق ضرر بالبلاد ونظامها».
- العودة إلى الديمقراطية
علي بابا جان أجاب عن كثير من التساؤلات التي تشغل الشارع التركي، ومنها دور الرئيس السابق عبد الله غُل في الحزب الجديد. ثم أشار إلى أن «الاستعدادات جارية على قدم وساق لإطلاق الحزب، والرئيس غُل أكد من قبل أنه لا يرغب في أن يكون له أي منصب بالحزب الجديد، لكنه يدعمنا من الخارج بخبراته وتجاربه، لأن رؤيته تتفق مع رؤيتنا قلباً وقالباً، وأنا ألتقي به في الشهر مرة أو مرتين... لن يشارك بنشاط في الحزب لكنه يعمل مستشاراً أو أخاً كبيراً».
وتابع: «كذلك فإننا نلتقي بكل من لهم مكانة سياسية لها اعتبارها في تركيا، وهدفنا الاستفادة من جميع الخبرات، والوصول إلى كيان نستطيع من خلاله تمثيل مختلف أطياف المجتمع».
ثم قال: «ستتواصل استعداداتنا حتى نهاية ديسمبر (كانون الأول) المقبل، وسنقطع خلال هذه الفترة مسافة جديدة، ونأمل أن نصل إلى نقطة جيدة في هذا الصدد. إننا نرغب في أن تتشكل سياسة الحزب الجديد بمشاركة الجميع ممن يسيرون معنا».
في أي حال، ظهور بابا جان في هذه المقابلة، بعد استقالته من حزب العدالة والتنمية في يوليو (تموز)، كان لافتاً. ولقد أرجع البعض خطوته السياسية إلى خلافات عميقة حول رؤية الحزب للمشاكل التي تمر بها البلاد. ولفت نفر من هؤلاء إلى «انحراف حزب إردوغان عن مبادئه وتراجع الاقتصاد والديمقراطية والحريات، وشعور بابا جان بحاجة الأجيال الجديدة في تركيا إلى حركة جديدة تعبر عن تطلعاتهم للمستقبل». ورأى هؤلاء في هذا أنه اختراق كبير لحصار إعلامي خانق من جانب وسائل الإعلام التي تتركز غالبيتها العظمى في يد حزب إردوغان.
بابا جان، فعلاً أعرب عن رغبته في إعادة بعض السلطات إلى البرلمان والعدول عن التعديلات الدستورية الأخيرة التي أدخلت في عام 2017، والتي مكنت الرئيس رجب طيب إردوغان من إحكام قبضته على البلاد عبر النظام الرئاسي الذي طبق العام الماضي. ومما قاله في هذا الصدد: «ليس من الصحيح استمرار النظام السياسي الحالي... نحن نعمل على إنشاء نظام برلماني مناسب، يعطي الأولوية لفصل السلطات ولعمليات التدقيق والتوازنات»، مشيراً إلى أنَّ تركيا تعاني من مشكلة فيما يتعلّق بحرية التعبير وقضايا العدالة والاقتصاد. ومعلوم أن بابا جان كان قد عمل في الحكومة خلال الفترة التي نما فيها الاقتصاد التركي 3 أضعاف عقب الأزمة المالية عام 2001. وفي حينه، شهدت تركيا طفرة اقتصادية غير مسبوقة قبل أن تعود إلى مسار التراجع الذي وصل إلى ذروته بدءاً من العام الماضي.
- خطوات أسرع لداود أوغلو
وبخطوات أسرع، يواصل رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو وضع اللمسات الأخيرة على مشروع حزبه الجديد. وعنه يقول مقربون منه إنه سيخرج إلى النور قبل بداية العام الجديد، وإنه تم بالفعل استئجار المباني والمقر الرئيسي للحزب في أنقرة، بالإضافة إلى مركز مؤقت لفرع الحزب في إسطنبول.
داود أوغلو كان قد شغل منصب رئيس الوزراء بين عامي 2014 و2016 قبل أن يختلف مع إردوغان. ولقد وجه هذا العام انتقادات حادة للرئيس إردوغان والإدارة الاقتصادية لحزب العدالة والتنمية، متهماً إياهم بتقويض الحريات الأساسية وحرية الرأي والديمقراطية.
وفي 13 سبتمبر (أيلول) الماضي، أعلن داود أوغلو تقديم استقالته من حزب العدالة والتنمية الذي يحكم تركيا منذ عام 2002. وقال في ذلك الوقت، إن الحزب لم يعد قادراً على حل مشاكل البلاد، ولم يعد يسمح بالحوار الداخلي فيه. وانضم إليه بعض الشخصيات السياسية السابقة، وعدد من المسؤولين الكبار في القطاع العام المتوقع أن يلعبوا أدواراً مهمة في حزبه.
ومن ثم، يلقى تحرك بابا جان وداود أوغلو ترحيباً واسعاً في الأوساط السياسية والشعبية بسبب تدهور وضع الحريات والحقوق الأساسية والضغوط الاقتصادية الكبيرة التي يعانيها السواد الأعظم من الشعب التركي. وفي قمة المصاعب الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد في السنوات الخمس الأخيرة، والتي بلغت ذروتها مع انهيار الليرة التركية في أغسطس (آب) 2018.
- تعقيدات خارجية
وسط هذه التطورات الداخلية تتواصل التعقيدات في كثير من الملفات الخارجية في مقدمتها الخلافات المعلقة بين أنقرة وواشنطن في كثير من الملفات. في مقدمة هذه الملفات إصرار تركيا على المضي قدماً في تشغيل منظومة الصواريخ الروسية «إس 400»، وهو ملف ينتظر الاشتعال في أي وقت حال قررت واشنطن فرض عقوبات على تركيا بموجب قانون مكافحة أعداء أميركا بالعقوبات «كاتسا» الذي يعاقب به من يتعاملون في مبيعات كبيرة للسلاح مع روسيا.
وكانت تركيا قد أجرت أخيراً أولى التجارب على المنظومة بتنفيذ طلعات جوية تجريبية بطائرات «إف 16» لاختبار نظام الرادارات في المنظومة الروسية. وهو أمر جدّد غضب واشنطن التي عبرت عن قلقها من هذه التجارب، ودفعها بالتعهد لبحث الأمر خلال اجتماعات حلف شمال الأطلسي (ناتو) في لندن. ولقد أكدت وتؤكد واشنطن دائماً قلقها من استخدام تركيا هذه المنظومة التي لا تتناسب مع أنظمة الناتو الدفاعية ومقاتلات «إف 35» الأميركية.
- عقوبات محتملة
وفي هذا الاتجاه، دعا السيناتور الأميركي الديمقراطي كريس فان هولين، إلى فرض عقوبات على تركيا فوراً بعد أن أجرت تجارب على منظومة «إس 400»، ومواصلتها ارتكاب جرائم في مناطق الأكراد في شمال سوريا. وقال هولين إنه «بعد أسبوعين من زيارته البيت الأبيض، كان إردوغان يحشر أنفه مع الرئيس دونالد ترمب والولايات المتحدة والناتو، ويعبر خطاً أحمر آخر باستخدام صواريخ (إس 400) الروسية... القانون الحالي يتطلب من ترمب فرض عقوبات على تركيا، يجب على وزير الخارجية مايك بومبيو أيضاً مواجهة تركيا بشأن انتهاكاتها الأخيرة (للمنطقة الآمنة) والهجمات ضد الأكراد».
وعن تصريحات وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، التي أعرب فيها عن القلق بشأن التجارب التي أجرتها تركيا الاثنين والثلاثاء الماضيين على منظومة «إس 400»، قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو: «إننا لم نشترِ هذا المنتج كي نحتفظ به في المستودع، نحن بحاجة إليه... نواصل الحديث مع الولايات المتحدة حول منظومة (إس 400) لكن لا يمكننا قبول أسلوب قائم على الإملاءات». ومن جانبه، قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار إن بلاده ستبحث عن بدائل في حال لم تحصل على مقاتلات «إف 35» الأميركية، مؤكداً أن أنقرة ستفعل منظومة «إس 400» الروسية بشكل مستقل عن منظومات حلف «الناتو».
وتسلمت تركيا الدفعة الأولى من المنظومة الروسية في يوليو (تموز) الماضي، لكنها أعلنت على لسان إردوغان، أنه سيتم تشغيلها بالكامل، خلال أبريل (نيسان) المقبل، في حين تطالب واشنطن بعدم استخدامها لتنافرها مع أنظمة الناتو الدفاعية ومقاتلات «إف - 35» الأميركية التي تسعى تركيا حتى الآن للحصول عليها.
- التقارب مع روسيا
وفي حين يستمر التوتر مفتوحاً مع الولايات المتحدة بسبب صفقة «إس 400»، فإن الصفقة نفسها تشكل إحدى ركائز التقارب التركي - الروسي، الذي يمتد أيضاً إلى التنسيق في سوريا سواء فيما يتعلق بإدلب أو شرق الفرات أو العملية السياسية المتأرجحة، فضلاً عن العلاقات الثنائية التي يسعى الطرفان للحفاظ على قوة الدفع فيها لارتباطهما بمصالح اقتصادية أبرز جوانبها التنسيق في مجال الطاقة.
لكن مراقبين يرون، مع ذلك، أن روسيا تتحرك في سوريا انطلاقاً من رؤيتها التي فرضتها على تركيا، والتي سمحت للنظام بالعودة إلى جنوب إدلب ومناطق شرق الفرات التي ترغب تركيا في إقامة منطقة آمنة واسعة فيها تحت سيطرتها. لكن روسيا تعمل في اتجاه تقييد هذه الرغبة وحصر التحركات التركية في نطاق ضيق لا يزيد كثيراً على الاحتياجات الأمنية التي يغطيها «اتفاق أضنة» الموقع بين تركيا وسوريا في 1998.
- تصعيد للأزمات
ويبدو أن أزمات السياسة الخارجية لتركيا لا تتوقف عند حد، فبشكل مفاجئ وقعت تركيا مع «حكومة الوفاق» الليبية برئاسة فايز السراج مساء الأربعاء الماضي، مذكرتي تفاهم تتعلقان بالتعاون العسكري وتحديد مناطق الولاية البحرية. وأثار هذا الاتفاق العسكري اعتراضات واسعة على المستويين الإقليمي والدولي، فأي اتفاقات تتعلق بالتسليح في ليبيا تشكل خرقاً لقرارات مجلس الأمن بفرض حظر السلاح.
أما الاتفاق البحري فإنه يشكل أمراً غير مفهوم للمتابعين في ظل عدم وجود حدود بحرية مشتركة بين تركيا وليبيا، ما أثار التساؤلات حول الهدف منه في ظل الأزمة التي أشعلتها تركيا مع الأطراف الإقليمية والدولية ودول منطقة شرق البحر المتوسط ممثلة في مصر واليونان وقبرص التي وقعت اتفاقية لترسيم الحدود البحرية فيما بينها، عبر عمليات تنقيب بحري عن النفط والغاز الطبيعي. وفي حين تقول قبرص إنها تقع ضمن منطقتها الاقتصادية الخالية تتمسك تركيا بأنها تقع ضمن جرفها القاري وبأنها تقوم بهذه العمليات للدفاع عن حقوق القبارصة الأتراك في الشطر الشمالي الجزيرة القبرصية.
الخطوة التركية مع «حكومة الوفاق» أثارت غضباً داخلياً في ليبيا من جانب «الحكومة المؤقتة» في شرق البلاد، وغضباً إقليمياً لدى الدول صاحبة الحق القانوني في المنطقة، والاتحاد الأوروبي الذي بدأ بالفعل فرض حزم تدريجية من العقوبات على تركيا التي يؤكد أنها تقوم بعمليات غير قانونية في شرق المتوسط.
أيضاً، يثير اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين الجانبين التركي والليبي قلق دول شرق المتوسط، التي دعمتها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي في تأسيس منتدى «غاز شرق المتوسط» بمبادرة من القاهرة، التي توترت علاقتها بأنقرة منذ سقوط حكم الإخوان المسلمين في 2013.
ولقد أقر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، أوائل الشهر الماضي، بالإجماع، الإطار القانوني الذي يسمح بفرض عقوبات على تركيا، نتيجة تنقيبها غير الشرعي عن الغاز في السواحل القبرصية واليونانية. ويرى مراقبون أن تركيا أرادت بهذه الخطوة استباق المؤتمر الدولي المرتقب في برلين حول السلام في ليبيا، لإدخال نفسها طرفاً مؤثراً في المعادلة الليبية.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».