مظاهرة «شانيل» الأخيرة تؤكد أن عروض الأزياء تزيد إبهارا بإخراجها المسرحي

في الـ30 من شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، حصل ما لم يكن متوقعا خلال أسبوع باريس لربيع وصيف 2015: مظاهرة نسوية في «لوغران باليه» قادتها عارضات أزياء عالميات مثل كارا ديليفين وجيزيل باندشن وغيرهما، يحملن لافتات تطالب بحقوق المرأة والرجل بأسلوب لا يخلو من التفكه، ويصرخن في أبواق: «ماذا نريد؟» لتكون إجابة بعض الحاضرات المتحمسات: «شانيل». تنسى في لحظة أنك في عرض أزياء، لأن عدوى الحماس الذي كانت تصرخ به عارضات مثل كارا ديلفين وجيزيل باندشن كانت مُعدية، انتقلت مباشرة إلى الحضور. خلفهن ظهر رجل بمظهر داندي يحمل أيضا لافتة كتب عليها: He for She. هذا الرجل هو كارل لاغرفيلد منظم هذه المظاهرة، أو المايسترو وراء هذه الصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام وكانت ضربة معلم، من الناحية الدعائية، خصوصا وأن بعض الرسائل المكتوبة على اللافتات لم تخلُ من الطرافة مثل «التويد أفضل من التويت» Tweed Is Better Than Tweet و«اصنع الموضة لا الحرب»، «إرم شانيل نمبر 5 عوض القنابل»، «السيدات أولا «Ladies first» وما شابه من الرسائل التي لا تخلف أدنى شك بأن المسألة لا تتعدى إخراجا مسرحيا وفنيا. طبعا هناك من أخذها محمل الجد، وفتح جدلا حول ما إذا كان من حق الموضة أن تتعامل مع موضوع حساس مثل المطالبة بحقوق المرأة ومساواتها مع الرجل أم لا، مستشهدا بأن لكارل لاغرفيلد سوابق في هذا الصدد، من ناحية أنه يحاول بين الفينة والأخرى أن يعكس أحداثا سياسية واجتماعية في عروضه. فهو الذي قال منذ نحو ست سنوات تقريبا إن المصمم لا يعيش بمعزل عن واقعه، عندما قدم تشكيلة محتشمة للغاية، بعد أن شعر بحسه السادس والقوي أن هناك أسواقا نامية لها متطلبات تختلف عما كان يقدمه باقي المصممين من أزياء تكشف أكثر مما تستر. وسرعان ما لمسوا قوة ملاحظته واقتدوا به. هذه المرة، قد يربط البعض مظاهرة الأناقة التي نظمها في شارع شانيل الراقي بـ«لو غران باليه» بالأحداث التي شهدتها هونغ كونغ في نفس التوقيت مطالبين بحقهم في انتخاب مرشحهم الخاص، وأيضا بالخطاب الذي ألقته الممثلة الشابة إيما واتسون في الأمم المتحدة، مطالبة فيه بحقوق المرأة ومتحدثة فيه عن معاناة مستمرة في عالم الرجل.
بيد أن مظاهرة شانيل، شئنا أم أبينا، تبقى مسرحية أكثر منها مظاهرة حقيقية تطمح إلى تغيير الأوضاع. بل يمكن القول إنها بهار ضروري في زمن أصبحت فيه الموضة تعتمد على الإنستغرام والتغريدات والصورة الآنية. لهذا شكلت صور العارضات وهن يحملن اللافتات ويصرخن في أبواق مغلفة بلوغو شانيل، مادة دسمة للكل، لأنها كانت مبتكرة ومدهشة في الوقت ذاته، أرسلت قشعريرة في الأبدان، وانتزعت الابتسامات حتى من المخضرمات، اللواتي لا بد وأنهن تذكرن المظاهرات التي قمن بها في الستينات للمطالبة بحقوقهن في الحياة والعمل. ما أكده عرض شانيل أيضا هو قوة الإخراج المسرحي الذي باتت تتطلبه عروض الأزياء لجذب الانتباه والحصول على تغطيات عالمية. فالأزياء وحدها لا تستطيع أن توصل الرسالة المطلوبة، وليس أدل على هذا من عروض «هيرميس» التي لا تثير أي حماس إعلامي، رغم أن الأزياء التي تقدمها الدار في غاية الرقي والجمال. صحيح أن بيوت أزياء قليلة تحسب على أصابع اليد الواحدة لها الإمكانيات لتنظيم عروض ضخمة مماثلة، نذكر منهم لوي فويتون، التي نشرت صحيفة «ذي نيويورك تايمز» في عام 2011، أن عرضها تكلف مليون دولار أميركي، أي أن كل ثانية منه تكلفت 1.750 دولار، إلا أن كل من استطاع أن يقدم فكرة مبتكرة لا يتأخر. فحتى عرض بسيط يتطلب ميزانية كبيرة لا يقدر عليها مصمم صاعد، أو ليس له من يدعمه ويسنده ماديا. فتكلفة الإضاءة وحدها قد تكلف ما بين 25.00 و40.000 دولار أميركي، عدا عن تكاليف الماكياج والشعر والكاميرات وعارضات الأزياء والمصورين المعتمدين لالتقاط صور خاصة بالمصمم يوزعها فيما بعد على وسائل الإعلام، ومدير الإخراج والديكورات، والموسيقى، وبطاقات الدعوة وغيرها، مما يجعلها تفوق الـ100 ألف دولار أميركي بكثير.
بالنسبة لدار شانيل، فإن الأمر يتعدى الجانب التسويقي والترويجي، لأن هذه العروض تحفز على المزيد من الإبداع، حسب ما صرح به برونو بافلوفسكي، الرئيس التنفيذي للدار في لقاء سابق مع «الشرق الأوسط» قائلا بأن هذه العروض «جزء من استراتيجية تهدف إلى إحداث صدى يتوافق مع الجانب الإبداعي الذي يخلقه مصممها كارل لاغرفيلد في جانب الأزياء.. مما يساعد على تشكيل صورة شاملة تتشعب تأثيراتها وتصب إلى المجالات الأخرى، بمعنى أنها بمثابة نقطة انطلاق، أو مقدمة لقصة محبكة ومتفرعة الجوانب». لكن لا ينكر بافلوفسكي أن الأزياء تبقى هي الأهم، لأنها هي التي تجد طريقها إلى المحلات، فيما تكمن أهمية العرض «في خلق أدوات نستعملها فيما بعد للدعاية أو لتزيين الواجهات وغيرها، أي أنها نوع من الاستمرارية تربط العرض بوسائل التواصل الأخرى».
الملاحظ في عروض شانيل تحديدا أنها تزيد إثارة موسما بعد موسم، الأمر الذي يجعل الكل يستشهد بها إعجابا، أو يخاف عليها من ناحية أن تنضب أفكارها يوما ولا تكون بمستوى التوقعات، وهو ما يشكل تحديا كبيرا لأي دار. لكن بالنظر إلى ما يفعله كارل لاغرفيلد في كل موسم، فلا خوف من هذا على الإطلاق. فهو لا يتوقف عن مفاجأتنا، بدليل أنه في الموسم الماضي حول «لوغران باليه» إلى سوبر ماركت ضخم شغل العالم وألهم واجهات عدة محلات في شوارع الموضة. هذه المرة وعندما نظم مظاهرته النسوية، شغل العالم أيضا، وفتح باب الجدل ما إذا كان من الممكن أن تحدث الموضة تغيرات اجتماعية وسياسية بهذه الرسائل التي أصبح يزايد بعض المصممين بعضهم البعض عليها، بدءا من فيفيان ويستوود، التي لا يخلو عرض من عروضها من قضية سياسية أو بيئية إلى جون بول غوتييه الذي كان يحتفل بالمرأة البدينة والمتقدمة في السن في محاولة لتكسير التابوهات والنظرة التقليدية للجمال. لكن إذا كانت ويستوود وغوتييه متحمسان لقضية معينة، ويحاولان تغيير هذه القوالب، فإن عرض شانيل كان مسرحية فنية، أو بهار لذيذ لزيادة عنصر الإبهار. وحتى إذا أخذت المظاهرة بجدية، فإن تأثيرها إيجابي في كل الأحوال، لأن عدد عاشقات شانيل يفوق مئات الملايين، وبالتالي فإن جيل الفتيات الصغيرات سيشاركن في هذا الحوار المفتوح، بشكل أو بآخر، ليستكمل كارل لاغرفيلد ما بدأته كوكو شانيل في العشرينات من القرن الماضي. فهي التي حررت المرأة من القيود التي كانت تكبلها، على شكل كورسيهات تشد الجسم وتسبب لها ضيق التنفس، ومنحتها في المقابل فساتين ناعمة وجاكيتات من التويد وبنطلونات واسعة من الجرسيه مستوحاة من خزانة وأقمشة الرجل، كما قدمتها للبنطلون الواسع. من هذا المنطلق يمكن القول بأن ما قام به لاغرفيلد ما هو إلا ثورة على التابوهات، التي تقيد حرية المرأة في الاختيار وتبني الأسلوب الذي يناسبها بسبب إملاءات الموضة والثقافة الاستهلاكية السائدة، مما يفسر العدد الهائل من الاقتراحات والخيارات، التي قدمها لها. فتنوعها يجعل من الصعب أن لا تجد المرأة، أيا كان أسلوبها وثقافتها وبيئتها، ما يناسبها منها، وكأنه يقول لنا «لتحيى الأناقة الشخصية، والحق في الأسلوب الخاص». فأحيانا ما لا يقال ويتجسد في الأفعال، في هذه الحالة من خلال 85 قطعة، أبلغ مما كتب على اللافتات.

* ثورة كوكو شانيل في العشرينات
* في العشرينات، قرأت كوكو شانيل التغيرات الاجتماعية والثقافية، وترجمتها في ثورة أناقة غير مسبوقة غيرت من خلالها وجه الموضة ونظرة المرأة إليها تماما. من مخلفات هذه الثورة، نذكر:
1 - البنطلون: رغم أن المرأة اضطرت لارتدائه خلال الحرب العالمية الأولى للقيام بأعمال كان يقوم بها الرجل، إلا أن شانيل لعبت دورا كبيرا في جعله جزءا من خزانتها، كقطعة موضة. على المستوى الشخصي، كانت تلبسه واسعا في دوفيل في الصيف عوض ملابس البحر لأنها كانت لا تريد كشف جسدها. كان مظهرها لافتا ما شجع باقي النساء على تبنيه. الطريف أن كوكو شانيل ندمت على هذا الإبداع في آخر أيامها، لأنها صرحت بأن ارتداء 70 في المائة من النساء للبنطلون في مناسبات المساء والسهرة أمر محزن بالفعل.
- قماش الجيرسيه: كان قصرا على الرجل وعلى الملابس الداخلية، لكنها انتبهت إلى عمليته وانسيابيته، فاستعملته في قطع منفصلة متعددة، من البنطلون إلى الجاكيت. طبعا لا يمكن أن ننسى أن استعمالها له كان أيضا من باب التقشف، لأن الخامات المترفة شحت خلال الحرب، ما جعلها تفكر في أقمشة متوفرة ورخيصة بالمقارنة
- شانيل نمبر 5: في عام 1921 أطلقت أول عطر بمكونات اصطناعية تغلب عليه رائحة الورد والياسمين. قبلها كانت كل العطور خاصة جدا ومصنوعة من خلاصات طبيعية. لم تكتف شانيل بهذا، بل وضعت عليه اسمها، ما كان غير مسبوقا في ذلك الوقت، لكنه أكد نظرتها التسويقية الفذة. فالعطر لا يزال الأكثر مبيعا لحد الآن ما يجعل اسم شانيل أشهر من نار على علم حتى بالنسبة لمن لا تستطيع اقتناء حقيبة يد أو جاكيت تويد.
- اللؤلؤ الاصطناعي والإكسسوارات غير الحقيقية: خضت المتعارف عليه ومزجت بين الأحجار الأصلية والاصطناعية الرخيصة وكأنها تريد دمقرطة الموضة وإعطاء المرأة، بغض النظر عن إمكاناتها، فرصة الاستمتاع بها، فضلا عن أن استعمالها لطبقات متعددة من اللؤلؤ شكل تناقضا رائعا مع تصاميمها البسيطة وجعل المرأة الثرية أيضا تدخل لعبة المزج بين الغالي والرخيص.
- الفستان الأسود الناعم: يصعب حاليا تصور خزانة المرأة من دونه، لكن الأسود في وقتها كان حكرا على مناسبات الحداد وغير مقبول اجتماعيا في المناسبات العادية. في عام 1926 غيرت هذه القاعدة واقترحته بتصميم يغطي نصف الساق أصبح مثل الزي الرسمي للمرأة الأنيقة في كل أنحاء العالم. مع الوقت، تغيرت تصاميمه وخاماته، إلا أن فكرته لا تزال تضج بالأناقة والأنوثة الراقية، ولا يزال يرتبط باسمها رغم أن معظم المصممين من هيبار جيفنشي إلى زاك بوسن تفننوا فيه.
تايور التويد: كانت أول مصممة تستوحي تصاميم نسائية من خزانة الرجل، وكان أول جاكيت صممته واسعا من دون ياقة وبأكمام مفصلة، لمس وترا حساسا بداخل المرأة التي كانت خارجة لتوها من الحرب وبدأت تحاول دخول مجال العمل مع الرجل، رغم غرابته. سرعان ما اكتسب التايور الذي قدمته أناقة هوليوودية بفضل نجمات الستينات، ثم بعد ظهور جاكلين كينيدي به.