باريس تريد مؤازرة أوروبية ميدانية لحضورها العسكري في أفريقيا

فرنسا تبحث عن مخرج لانغماسها في حرب ضد الإرهاب لا تنتهي في منطقة الساحل الأفريقي. بدأتها في عام 2013 لمنع قوات جهادية من النزول من شمال مالي للسيطرة على العاصمة باماكو ولتحويلها لعاصمة للجهاد الإسلامي في غرب أفريقيا. وبعد سبع سنوات، ورغم نجاحها الأولي، ما زالت القوات الفرنسية المسماة، منذ بداية عام 2014 «عملية برخان» حاضرة في مالي وكما في عدد آخر من بلدان الساحل وهي تسعى، وفق ما أعلنه رئيس الحكومة أدورا فيليب مؤخرا، من أجل «توفير الأمن والاستقرار». والحال، أن مقتل 13 جنديا فرنسيا، بينهم ستة ضباط وستة صف ضابط، في ارتطام طوافتين خلال عملية مطاردة لجهاديين في جنوب شرقي مالي أي في المنطقة الأخطر إرهابيا في أفريقيا والمسماة «الحدود الثلاثة» (مالي، النيجر، بوركينا فاسو) يبين أن القضاء على الإرهاب لم يتحقق وأن الأمن ما زال مفقودا والاستقرار بعيد المنال. وترى باريس أن حضورها العسكري يكلفها ثمنا باهظا إنسانيا وماديا. فعملية «برخان» في مالي وحدها تكلفها سنويا 700 مليون يورو. لكن ما يقلق المسؤولين هو نمو شعور معاد للحضور الفرنسي الذي أخذ ينظر إليه على المستوى الشعبي على أنه صورة مبطنة لـ«الاستعمار الجديد» وأن باريس تبحث عن مصالحها أولا. وأكثر فأكثر، تزداد «الأخبار الزائفة» التي تتناول فرنسا على شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. ومرة بعد أخرى، تضطر السفارات الفرنسية في بلدان الساحل الخمسة إلى نفي هذه الأخبار. وما يزيد الوضع الفرنسي تأزما، أن باريس تشعر، رغم المساندة اللوجيستية الأوروبية والاستخبارية الأميركية، أنها «وحيدة» في حربها على الإرهاب في هذه المنطقة من العالم. ولم يتردد الرئيس إيمانويل ماكرون من التأكيد أن بلاده تخوض الحرب «نيابة» عن الأوروبيين وأن «السياق الحالي في بلدان الساحل يقودنا إلى النظر في الخيارات الاستراتيجية كافة».
لم يفهم ما إذا كان انسحاب القوات الفرنسية من بين «الخيارات». والجدير بالإشارة أن الرأي العام الفرنسي ما زال يميل بنسبة 58 في المائة إلى بقاء قوة «برخان» مكانها رغم الخسائر الأخيرة التي هي الأكبر التي تلحق بالجيش الفرنسي منذ عام 1983 في بيروت. وفي أي حال، فإن الحكومة الفرنسية، بلسان وزيرة الدفاع، تعتبر أن تحقيق أهداف العملية «سيكون في المدى البعيد» إضافة إلى أن العديد من الخبراء الفرنسيين لا يرون أن الحل المدني وحده كاف بل يتعين أن يترافق مع حل سياسي وشق تنموي. إزاء هذا الوضع، كان على الرئيس ماكرون التحرك مباشرة في اتجاهين: الأول، من خلال طلب المساندة من قبل شركاء فرنسا الأوروبيين الذين دعاهم للانخراط إلى جانب فرنسا ليس فقط لوجيستيا وعبر تدريب القوات المالية والقوة المسماة «G5» الأفريقية المشكلة من موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد بل أيضا العمل الميداني إلى جانب القوة الفرنسية. والاتجاه الثاني، بدعوة قادة البلدان الخمسة إلى قمة في مدينة بو «جنوب غربي فرنسا» في 16 الشهر الحالي. وأعلن ماكرون عن دعوة هؤلاء القادة في ختام القمة الأطلسية التي استضافتها لندن يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين. كان ماكرون واضحا في تحديد الأهداف التي يرمي لتحقيقها من خلال القمة القادمة. فقد أعلن في المؤتمر الصحافي أول من أمس أن «المطلوب، على المدى القصير، إعادة توضيح الإطار والشروط السياسية التي تتحكم بحضورنا في بلدان الساحل مع قادة الدول الخمس الأعضاء في القوة الخماسية» الأفريقية المشتركة. وأضاف ماكرون، بلغة تحذيرية: «لا أستطيع ولا أرغب في وجود الجنود الفرنسيين في بلدان الساحل طالما استمر الغموض بشأن الحركات المعادية لفرنسا» في إشارة لنمو الشعور المعادي لباريس في مالي والنيجر وبوركينا فاسو. ويريد ماكرون من القادة أن يتبنوا «الوضوح» وأن يجددوا الطلب من أجل وجود القوات الفرنسية في بلدانهم وأن يتحملوا «مسؤولية» ذلك سياسيا. وذهب ماكرون، بلهجة تهديدية، إلى اعتبار تبني الأفارقة للحضور العسكري لقوات بلاده «شرطا ضروريا لا بد منه» وإلا «فسيستخلص النتائج» في حال لم يتوافر هذا الشرط. وأخيرا، نفى ماكرون أن تكون لبلاده «مطامع استعمارية جديدة، أو إمبريالية أو اقتصادية» ليؤكد مجددا أن الحضور الفرنسي العسكري هدفه الوحيد «توفير الأمن الجماعي في هذه المنطقة والأمن الفرنسي». وإذ يخرج ماكرون عمليا من النقاش موضوع الانسحاب، فإنه يسعى إلى تأمين حضور عسكري أقوى وأفضل تنظيما، وذلك من خلال إنشاء «تحالف جديد مع شركائنا الأوروبيين والأفارقة».
تكمن مشكلة باريس في أن حضورها العسكري لا يبدو كافيا في بلدان الساحل من أجل محاربة التنظيمات الجهادية المتنوعة رغم أنها أعادت تنظيم قواتها بشكل يجعلها موجهة بشكل رئيسي لمحاربة الإرهاب. وفي السنوات الأخيرة، عادت التنظيمات الجهادية لتنشط في مالي وبوركينا فاسو وتشاد بشكل ينبئ عن مخاطر كبرى، بينما القوة الأفريقية المشتركة لم تصل بعد إلى مرحلة متقدمة من الجاهزية الإدارية والعسكرية. وفي بوركينا فاسو وحدها، سقط منذ عام 2015 ما لا يقل عن 700 قتيل في أعمال عنف وإرهاب، كما أن الجيوش الأفريقية تحولت إلى أهداف روتينية للتنظيمات الجهادية ما يتطلب إعادة النظر فيما تقوم به باريس وأيضا القوتان الأوروبية والدولية في مالي. ما الذي ستسفر عنه القمة الفرنسية - الأفريقية الموعودة بعد عشرة أيام؟ لا شك أن ماكرون سيحصل من القادة الأفارقة الخمسة على ما يريده من التمسك ببقاء القوات الفرنسية وتحمل تبعات ذلك شعبيا وسياسيا، لكن هذا «الإنجاز» سيكون ضعيف الوزن إزاء تدهور الوضع العسكري والأمني. وفي هذا السياق، ترى فرنسا أن الترياق لا يمكن أن يأتي إلا عبر أوروبا وربما من خلال تشكيل قوة «توباكا» من وحدات كوماندوز أعلنت مجموعة من الدول الأوروبية استعدادها للمشاركة فيها؛ ولذا لم يبق أمام باريس سوى الانتظار.