كتاب فرنسي يحتفي بتجربة طهاة لاجئين من 5 دول

كتاب فرنسي يحتفي بتجربة طهاة لاجئين من 5 دول
TT

كتاب فرنسي يحتفي بتجربة طهاة لاجئين من 5 دول

كتاب فرنسي يحتفي بتجربة طهاة لاجئين من 5 دول

دائماً ما تطالعنا وسائل الإعلام الغربية بالوجه السلبي للمهاجرين واللاجئين وما يمثلونه من إشكاليات كبيرة على أراضي القارة العجوز، بعضها يرتبط بالجانبين الاجتماعي والاقتصادي، إضافة إلى الجانب الأمني في المجتمعات المستقبلة لهم، رغم ذلك هناك كتابات مختلفة ترصد لنا، ليس فقط الجانب الإيجابي للمهاجرين واللاجئين في مجتمعاتهم الجديدة، ولكن إصرار عدد منهم ليس بالقليل على أن يكونوا عناصر فاعلة على مستوى الاندماج الاجتماعي وعلى المستوى الفردي من خلال خبرات فردية لافتة تمثل إضافة نوعية.
هذا الوجه الإيجابي تطالعنا به المؤلفة الفرنسية إتيانتسافارد بطتاب في باكورة إنتاجها الذي صدر هذه الأيام عن دار النشر الفرنسية العريقة «لا مارتينير» بعنوان «من إدلب إلى أديس أبابا... طهاة لاجئون... يوثقون وصفاتهم الخاصة». يقع الكتاب في 256 صفحة من القطع الكبير ويمثل جهداً كبيراً للمؤلفة بدأته منذ عام 2016. ونجحت في توثيق مسار عدد كبير من الطهاة اللاجئين، من خمس دول: سوريا، وإيران، وإثيوبيا، والشيشان ونيبال، وذلك من خلال 70 طبقاً فريداً تمثل وتعكس ثقافة بلدانهم الأصلية، من مطبخ إدلب وما يشتهر به من خضراوات ومحاشٍ وكبة باللحم فريدة من نوعها، إضافة لطبق الفتوش الدمشقي الفريد، مروراً بالفطائر الإثيوبية الشهيرة بعسل النحل، وصولاً للطبق الإيراني المتمثل في طهو «البط» بالمكسرات الإيرانية الفريدة.
تبرز خصوصية هذا الكتاب في كونه لا يلقي الضوء فقط على خبرات متنوعة في مجال الطهو يمتع بها هؤلاء اللاجئون، وإنما أيضاً يوثق رحلاتهم القاسية هرباً من صعوبة الحياة في بلدانهم الأصلية ورفضهم حمل السلاح مثل حالة الشاب فائق الذي رفض حمل السلاح في مسقط رأسه «درعا»، حيث كان يعمل جزاراً، إلى جانب دراسته للإلكترونيات. لقد أصر على ترك بلاده وخاض رحلة محفوفة بالمخاطر، إذ هرب إلى لبنان ومنها إلى تركيا ثم إلى الجزر اليونانية ثم إلى مقدونيا ومنها إلى صربيا والنمسا ليصل إلى ألمانيا. ثم استقر به الحال في فرنسا التي منحته إقامة لمدة عام مع ترخيص بالعمل، وكذلك حالة سارة ضحية تجارة الاتجار بالبشر التي رفضت الاستسلام لواقعها المؤلم وتشبثت بإصرارها على أن تكون نموذجاً فاعلاً في مجتمعها الجديد.
بكاميرا المصور الفرنسي الرائعة «جيوومسيزيرو»، تقدم لنا المؤلفة إتيانتسافارد نماذج من الأطباق الفريدة التي أعدها عدد من طهاة اللاجئين لتؤكد كذلك على أن هناك ثلاثة أبعاد أساسية لخروج هذا الكتاب للنور: إبراز خبرات المطبخ، البعد الثقافي، وكذلك البعد الإنساني لهذه النماذج التي نجحت في التغلب على صعوبة الوضع في مجتمعاتهم الأصلية لأسباب عديدة، بين وضع متأزم وانهيار وطن كامل في سوريا ولأسباب سياسية وأمنية مثلما الحال في إيران.
لا تهدف المؤلفة لأن يكون كتابها مجرد كتاب متخصص في وصفات الطهو بمفهومها التقليدي ولكن تهدف بالأساس إلى التشجع على اندماج المهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة من خلال شعار «المطبخ يجمعنا». وبذلك يشكل هذا الكتاب مساهمة في تغيير الصورة الذهنية للاجئين عن طريق المطبخ لما يمثله من عامل جذب للكثيرين.
وتنقل لنا المؤلفة بعضاً عن الطباخين الخمسة، رشيد نوروزى من إيران، وسارة جمال من أصول إثيوبية، وفريزة إيزاكوفا من الشيشان، وبيشنوجيرنج من نيبال، بالإضافة إلى الشاب فائق من سوريا، إنهم اجتمعوا في باريس حول فكرة واحدة مفادها: التعريف ببلدانهم الأصلية من خلال ثقافة المطبخ الخاصة بهذه البلدان، وتحت شعار أنه «يمكن للفن أن يصلح ما تفسده السياسية»، والمقصود هنا «فن الطهو».
وتذكر المؤلفة الفرنسية أن الفكرة الأساسية لـ«مطبخ المهاجرين» قد بدأت بفكرة صغيرة في أحد أحياء العاصمة الفرنسية باريس في فبراير (شباط) 2016 بمبلغ ضئيل للغاية، إلا أنه في ظل إصرار المهاجرين الخمسة على تغيير الصورة الذهنية للمهاجر في قلب أوروبا، تحول حلمهم إلى واقع ملموس وأصبح مطبخهم الكائن في قلب العاصمة الفرنسية باريس نموذجاً للتعايش والاندماج، بل وصل الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ أضحوا ذائعي الشهرة وعملاء لدى كبرى الشركات والمتاجر الفرنسية، هذا بالإضافة إلى رغبتهم القوية في توسيع دائرة فكرتهم التي تقتصر الآن بشكل أساسي على ثقافات دول الطهاة الخمسة. لذلك يبحثون عن خبرات في هذا المجال لدى أوساط المهاجرين واللاجئين من بلدان أخرى.
في ظل هذه التجربة التي تسجل نجاحاً ملموساً ويتابعها الكثيرون عبر شبكات التواصل الاجتماعي، فقد خصصت صحيفة «نيويورك تايمز» مقالاً حول هؤلاء الطباخين، مشيرة إلى دور فن الطبخ في التعريف بالثقافات الأخرى ورفض التعصب والعنف وقبول الآخر والتعايش معه، وكم أن العالم في حاجة لمثل هذه التجارب في ظل حالة التوتر المنتشرة في مناطق عديدة.
وأخيراً، تخلص الكاتبة إلى التأكيد على أنه رغم اختلاف الثقافات واللغات بين القائمين على المشروع «طهاة المهاجرين» فإنهم نجحوا في إقامة صداقة وطيدة ليس فقط فيما بينهم، ولكن أيضاً مع زبائنهم الذين أعجبوا كثيراً بالفكرة، مثبتين فعلاً أن المطبخ نجح في إصلاح ما أفسدته السياسة.



«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».