«كنت في عداد الجيش العثماني عندما خاض حرب الترعة، في مصر، مشتبكاً مع القوات الإنجليزية، وشهدت تقهقر الجيش العثماني واندحاره إلى فلسطين، عائداً أدراجه من حيث أتى. وعندما وصلنا إلى جسر بنات يعقوب، أدركت أن الدولة العثمانية قد سقطت! فهربت من الجيش، وعدت إلى القرية»... يتابع صالح علماني رواية قصة حفظها نقلاً عن والده، مزارع التبغ في ترشيحا (شمال فلسطين)... «بعد عدة أعوام من تلك الحرب، سقطت الدولة العثمانية».
الحكايا التي تلقفها صالح علماني بدهشة الطفولة من والده الحكاء، رغم جهله بالقراءة والكتابة، زرعت في نفسه الولع بالأدب، والرغبة الشديدة في كتابة الرواية، التي ستتحول مع الأيام إلى انهماك بالترجمة. فالعائلة التي نزحت من فلسطين، إثر نكبة فلسطين عام 1948، إلى مدينة حمص في سوريا، حيث ولد صالح علماني 1949، حلمت بأن يصبح ابنها طبيباً يعوضها عذابات النزوح، فأقنعته بالسفر إلى إسبانيا لدراسة الطب الذي لم يستهوه أبداً، لكنه قبل لرغبته بالسفر واكتشاف بلاد أخرى.
وفي عام 1970، غادر صالح علماني إلى برشلونة، لكنه درس الطب لعام واحد فقط، وتحول إلى دراسة الصحافة، ثم تركها أيضاً ليمارس أعمالاً حرة في الميناء، ويكتشف مجتمعات القاع، في الوقت الذي تكفلت فيه الأجواء الثقافية في برشلونة بسحبه نحو عوالم الأدب. حينها، كانت برشلونة -كما يقول علماني- مركزاً ثقافياً يعج بدور النشر والمسرح والسينما والمقاهي والملتقيات الثقافية. في إحدى تلك المقاهي، قابل صديقاً يحمل كتاباً نصحه بقراءته؛ وكان الطبعة الأولى من رواية غارسيا ماركيز «مائة عام من العزلة».
وسرعان ما وقع علماني تحت تأثير عوالم ماركيز الروائية، وقرر ترجمة روايته إلى العربية. وبعد إتمامه ترجمة فصلين منها، صدرت ترجمة لها بالعربية عن اللغة الفرنسية، فأهمل ما قام به، ليعود إلى دمشق، وينخرط بمشاغل الحياة اليومية، دون أن يبعده ذلك عن متابعة جديد أدب أميركا اللاتينية. وعندما صدرت رواية ماركيز «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، سارع إلى ترجمتها، وصدرت الترجمة عام 1979، لتكون باكورة أعماله في الترجمة من الإسبانية إلى العربية، التي لاقت استحسان الصحافة والنقاد، وكتب الناقد حسام الخطيب: «إن شاباً فلسطينياً يترجم أدباً مجهولاً لقراء العربية».
الانتشاء بالنجاح ولد غروراً خفياً في نفس الشاب الطامح لكتابة الرواية، وقال لنفسه: «أن تكون مترجماً مُهماً أفضل من أن تكون روائياً سيئاً»، هكذا اكتشف صالح علماني أنه «ولد ليترجم».
ومكث خلال عمله في مديرية التأليف والترجمة، في وزارة الثقافة السورية، يبحث عن الجديد والمثير لاهتمامه، وما يستحوذ على إعجابه في إصدارات دور النشر الإسبانية، لينقله إلى العربية. وبين عامي 1979 و2019، ترجم صالح علماني أكثر من 111 كتاباً عن أدب أميركا اللاتينية، وجميعها كتب أحبها ونقب خلف كل حرف فيها عن كامل حمولتها الجغرافية التاريخية والاجتماعية والسياسية. عمل بجد واجتهاد كبيرين، بمعدل عشر صفحات كل يوم، كانت ثمرة عشقه اللامحدود للغتين العربية والإسبانية، وكم كان يبدو سعيداً عندما يقرأ النص المنجز بالعربي بالمتعة ذاتها عندما يقرأه باللغة الإسبانية التي لم يخترها، وإنما هي التي اختارته وجرفته بعيداً للبحث فيها، وفي لهجات أميركا اللاتينية المتفرعة عنها، التي تختلف من بلد إلى آخر. فكان لا بد له من قراءة متمعنة في تاريخ أميركا اللاتينية، وواقعها وحكايات شعوبها، بما فيها من معارف وخرافات وثقافات، تمكنه من امتلاك ناصية الترجمة، والتقاط معاني التلميحات والإشارات الكامنة خلف الصياغات الأدبية.
وجاء صعود تيار الرواية اللاتينية عالمياً أواخر الستينات وبداية السبعينات، الذي عرف بأدب الواقعية السحرية، ليتكرس حضور صالح علماني، كواحد من أهم المترجمين العرب عن الإسبانية، فنال نصيباً جيداً من شهرة الروائيين الذي ترجم لهم، وفي مقدمتهم غابرييل غارسيا ماركيز الذي ترجم له كل أعماله، ما عدا «خريف البطريرك». ويقول علماني: «بقدر ما كانت قراءة ماركيز سهلة، فإن ترجمته كانت صعبة، لاستغراقه بالتفاصيل، ومزج الوقائع بالشعر». فكان أثناء ترجمته، يعيش الرواية وكأنما يكتبها، وكذلك الأمر في ترجمة أعمال ماريو فارغاس يوسا، الذي ترجم له معظم أعماله، بالإضافة لترجمة أعمال الروائية إيزابيل الليندي وجوزيه ساراماغو وإدواردو ميندوثا وخوسيه ماريا ميرينو وميغل أنخل أستورياس وبرناردو أتشاغا وإدواردو غاليانو وأنطونيو سكارميتا وخوان رولفو وألفارو موتيس. وفي الشعر، ترجم النشيد الشامل لبابلو نيرودا، ومختارات شعرية لألبيرتي، وغيرها الكثير.
سنوات العمر التي بذلها صالح علماني في الترجمة عن الإسبانية كانت خبيئته البيضاء للأيام السوداء التي عاشها في دمشق بعد اندلاع الحرب عام 2011، حيث اضطر للنزوح من بيته أكثر من مرة، إذ إن موقفه، الذي وصفته المعارضة بـ«المحابي» للنظام السوري، لم يتح له عيشاً آمناً في دمشق، فلجأ مع عائلته إلى إسبانيا عام 2013. وكان إلى جانبه عدد من كتاب أميركا اللاتينية الذين ترجم لهم، فكرمته «مدرسة المترجمين» بطليطلة، بحفل قرأت خلاله شهادات ورسائل كثيرة، منها رسالة ماريو فارغاس يوسا (الحائز على نوبل 2010) التي قال فيها: «أسهم صالح علماني بعمله كمترجم في نشر الأدب الأميركي اللاتيني في العالم العربي. وبفضله، صار عدد كبير منا، نحن الكتاب الأميركيين اللاتينيين، مقروءاً معروفاً في الشرق». واعترافاً بهذا الفضل، طالب عدد من الكتاب الحكومة الإسبانية بمنح علماني الإقامة في إسبانيا، تكريماً لمنجزه في الترجمة.
المنجز الذي استحق عليه تكريم اتحاد الأدباء والكتاب العرب في حفلين بمدينة طنجة المغربية في 2015، ومدينة أبوظبي في العام نفسه، كما حصل على جائزة «خيراردو دي كريمونا» الدولية للترجمة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، ونال جائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولية للترجمة (فرع جهود الأفراد) في عام 2016، فيما منحه محمود عباس، رئيس دولة فلسطين، وسام الثقافة والعلوم والفنون (مستوى الإبداع) في 2014.
وفي إسبانيا، أمضى صالح علماني آخر سنوات عمره السبعين، بعيداً عن بلده الثاني سوريا، حالماً بالعودة إلى بلده الأم فلسطين، متوسداً تراب بلد اللغة التي عشقها... ليرحل يوم أمس، بعد أيام قليلة على إنجازه ترجمة أحدث روايات البيروفي ماريو فارغاس يوسا «شيطنات البنت الخبيثة».