السيرة الثقافية الكونية للقهوة

عبد الله الناصر يروي قصتها مرتحلاً بين منابع البن وطرق الحج

السيرة الثقافية الكونية للقهوة
TT

السيرة الثقافية الكونية للقهوة

السيرة الثقافية الكونية للقهوة

«كثيرون يذهبون إلى المقهى، قليلون يذهبون للقهوة»، بهذه العبارة الدالة اختصر عبد الله الناصر نصه الحسي الثقافي الذي سرد به سيرة القهوة، مرتحلاً بين منابع البن وطرق الحج إلى القهوة، وذلك من خلال كتابه «قهوة نامه - مرويات القهوة والنور»، الصادر حديثاً عن دار «روايات».
فعاشق القهوة، بتصوره، يرقص الرقصتين: رقصة النسيان ورقصة التذكُّر، حيث الارتداد إلى الحبشة، مهد البشر الأول، والوقوف على أطلال الشجرة الأولى التي لم يزرعها الإنسان الأول بنفسه، بل صادفها إلى جانبه «كثمرة صوفية وطهورية». سماها العرب ابتداءً، وأحالتها المتصوفة الشاذلية إلى عقار ديني منشط للصلوات والتجليات، فيما استخدمتها الحركة التطهرية الكالفنية كبديل عن الكحول، قبل أن تتحول إلى وقود رأسمالي، لتستقر كرفيقة للمبدعين.
على هذا الإيقاع يؤسس عبد الله الناصر كتاب القهوة، أو ما يمكن عده جامع النص القهوائي، حيث يجذر أصل ذلك المزاج بالمتصوف اليمني جمال الدين الذي اكتشف القهوة، وربط بينها وبين المناسك الروحية، وذلك استناداً إلى كتاب أنتوني وايلد «القهوة: تاريخ أسود»، المزدحم بروايات إنجيلية تبجيلية للقهوة تماثل الأبعاد الأسطورية التي أوردها ستيفن توبك حول القهوة في المخيال الإسلامي، ليختصر رحلة ذلك الإكسير من التحريم والنخبوية إلى الاستحباب كشراب يومي لكل الناس، لدرجة عدها المعادل لطاولة الحوار والمجتمع المدني الحديث، فهي الركيزة التي قام عليها علم الاجتماع، بتعبير عالم الاجتماع الكندي هو جون مانزو.
والقهوة وثيقة الصلة بمرويات النور، كما يؤكد ذلك المنحى ويليام أوكيرز، في كتابه «كل شيء عن القهوة» الذي يستدعي قصة الشيخ عمر المنفي في مدينة المخا في اليمن، ليسرد كيفية انتصاره على الجوع والعطش والخوف برحيق ثمار النبتة الحمراء التي وهبته النور، تماماً كما حدث له في شمال اسكوتلندا، ولمعلمه العجوز سايمون الذي تلقى على يديه تعاليم تحميص القهوة للتغلب على التيه، إذ كانت دلة القهوة الشرقية تعويذته ضد الضياع. وهو الأمل الذي تعلق به الشاعر محمود درويش، حيث دون في كتابه «ذاكرة للنسيان»، عندما كان محاصراً تحت القصف في بيروت: «أريد فقط هدنة لمدة 5 دقائق من أجل القهوة، 5 دقائق لأضع هذا الفجر على قدميه»، فالقهوة بالنسبة له أداة للعيش والتبصر والتأمل الذاتي.
ليست مصدراً للنور والتأمل وحسب، بل هي (أي القهوة) مضاد للكآبة، كما ذكر ذلك روبرت بيرتون في كتابه «تشريح الكآبة»، عندما تحدث عن مشروب لدى الأتراك شديد المرارة، أسود كالسخام، أو ما سماه «المشروب الروحي التركي» الذي شكل سر قوة وهيبة الإمبراطورية التركية، لدرجة أن هناك من ارتأى أن كلمة «قهوة» إنما هي تحريف لمفردة «قوة»، حتى أن الأتراك منعوا الأوروبيين من الحصول على القهوة. وعندما حصلوا عليها، حسب المؤرخ توم ستانديج في كتابه «تاريخ العالم في ستة كؤوس»، وجدوا في القهوة نديماً بديلاً عن الكحول، كما صارت بيوت القهوة في أوروبا مدخلاً لعصور النهضة والتنوير، حيث تدور الأحاديث حول الشعر والفن والسياسة والفلسفة في حضرة القهوة، وهي وقائع أكدها يورغن هابرماس الذي عد مقاهي لندن آنذاك محركاً لما سماه الحيز العام، الذي يشبه اليوم حيز الشبكات الاجتماعية على الإنترنت. فقد كانت فضاءات القهوة بيت الحكمة، وركن المتكلمين من فلاسفة التنوير الذين حرروا العقل الأوروبي من سطوة المعتقد وثقل الطبقية، انتصاراً واستقبالاً لمهبات الديمقراطية.
وبعد أن استجلب الإغريقي باسكو روزي القهوة إلى لندن من تركيا، بدأت المقاهي بالظهور، وصار لكل مقهى رواده وهويته: مقهى للأدباء، وآخر للعلماء والتنويريين، وثالث للفلاسفة، وهكذا. ولهذا، وُصفت مقاهي لندن آنذاك بالجامعات الرخيصة. ففي أحدها تأسست صحيفة «الغارديان»، وفي آخر اكتشف نيوتن الجاذبية على إيقاع النقاشات، وفي ثالث ولدت فكرة بنك لويدز، وهكذا. وإذا كانت صحبة القهوة تولد الأدب والفن والفكر، فإنها تطبب جراح المحاربين، حيث كانت بيوت القهوة في تركيا مصحة لأنسنة فرسان الإنكشارية، وإعادة استدماجهم في المجتمع.
كما خُصصت حصة من القهوة يومياً للمقاتلين في الحرب الأهلية الأميركية، لدرجة أن المؤرخ جوناثان موريس لاحظ أن مفردة القهوة طاغية في أرشيف رسائل جنود الحرب الأهلية أكثر من مفردات البنادق والمدافع والبارود.
وعندما تمكن الهولنديون من استزراع القهوة في مستعمراتهم، حولوها إلى سلعة للطواف بها حول العالم، فيما كان بحار فرنسي يغامر بتهريب شتلات الشجيرة السحرية عبر البحار، إيماناً منه بأن المستقبل للقهوة. ومن المنطلق ذاته، هُرّبت إلى البرازيل. وكل ذلك بعد سنوات من التحريم، وفق المرسوم المملوكي الشهير، كما جاء في كتاب «رسالة القهوة» لأحمد بن موسى المالكي، وكتاب «عمدة الصفوة في حِل القهوة» لعبد القادر الأنصاري الحنبلي. وهو الأمر الذي تكرر في إنجلترا التي استقبلت القهوة بشيء من العداء والشك، حيث عدتها الكنيسة الأنجليكانية «مشروباً إسلامياً وتركياً يمثل تحدياً دينياً وثقافياً للثقافة المسيحية» لدرجة أن الإنجليز كانوا يسمونها «حبوب المحمديين». أما النحات والرسام الإنجليزي ويليام هوغارث، فقد قال إن «حبوب القهوة هي حبوب الكفار، والتحول إلى شرب القهوة بدل الجعة ردة عن الطريقة الفطرية، وانسلاخ عن الإنجليزية، وسعي فاجر إلى أصناف مختلفة من الأشربة الأجنبية المدمرة».
القهوة كسلعة ساهمت في صعود القوى الاستعمارية والرق، كما تقول بهذه الفكرة كاثرين تكر في كتابها «حضارة القهوة»، حيث حولت الدول الأوروبية مستعمراتها إلى مستعمرات لإنتاج القهوة، باستجلاب الفلاحين والقرويين والسجناء واستعبادهم في ظروف غير إنسانية، حتى أصبحت كلمة القهوة تعادل مفهوم «العمل الشاق بأجر بخس». وبالمقابل، كانت القهوة بمثابة الوقود السحري للنهضة الموسيقية الأوروبية، كما يعزز هذا الرأي جون رايس، على اعتبار أن القهوة عقار طاقة ملهم، حسب تعبيره، حيث يدلل على رأيه بشواهد حدثت في مقاهي أوروبا، كالمشهد الحواري الفلسفي في فضاء المقهى الذي افتتح به موزارت أوبرا من أوبراته. كما كان بتهوفن يفك ريق صباحه بقدح من القهوة، حسب كاتب سيرته دونالد مكاردل. وهكذا، ارتبط كل موسيقي بمقهى، كما ترددت مقولات لمشاهير الكُتّاب والموسيقيين ممجدة لسطوة القهوة على المزاج الإبداعي، وهو تقليد انتقل إلى اليابان، وكان حاضراً بقوة في حوانيت القهوة في دمشق التي كانت تتبارى في استجلاب أعذب الحناجر للغناء فيها، طمعاً في جذب مرتادي القهوة، هذا بالإضافة إلى أغاني قطاف القهوة في مختلف بلدان العالم.
وبقدر ما هي عنوان للمزاج فهي سمة من سمات الكرم، كما تبدت في تقاليد الضيافة عند البدوي بجرعات ذات دلالة: فنجان الهيف، وفنجان الضيف، وفنجان الكيف، وفنجان السيف. وكذلك هي رحيق الطمأنينة وإشباع الحواس، كما يحدث للفيلسوف إيمانويل الذي كان عندما يسمع خطوات الخادم متقدماً ناحيته بفنجان القهوة يصرخ: «يابسة... يابسة... أرى اليابسة!». وبالنسبة للفيلسوف سورين كيركيجارد هي هروب من التكرار بالمعنى الفلسفي، حيث يحتفظ بخمسين نوعاً من أقداح القهوة، حسب كاتب سيرته الذاتية جواكيم غراف، تماماً كالروائي أونريه دي بلزاك الذي يعد من نُساك القهوة. أما تشارلز ديكنز الذي يربط القهوة بالشاعرية، فيرى - أدبياً - أن المقهى هو المكان الذي تحدث فيه الأشياء الجيدة، فهو موقع الاحتفال بالحرية.
هكذا، يؤصل عبد الله الناصر علاقة الإنسان المدني بالقهوة، ابتداءً بالعرب الذين أضفوا على المكان الذي تُقدم فيه القهوة صفة البيت، وهي تسمية تبناها الإنجليز فيما بعد، لينطلق في رحلته السردية بعد ذلك نحو ما سماه «الحركة الثالثة في سيمفونية القهوة»، حيث بيوتات القهوة المختصة، بما تحتمله تلك الزوايا من بروتوكولات التحميص والإعداد والتذوق، وبما في ذلك ساقي القهوة الذي كان يُنظر إليه كعالم قهوة.
وكذلك المياه المقطرة التي تحتوي على نسبة قليلة من أملاح الكالسيوم والماغنيزيوم. فللقهوة، حسب تعبيره، «إيحاءات ونوتات»، كما أن لها سيرة كيميائية تتراوح بين التخمير والتخدير والتقطير، تمثلت فيما سماه «المرحلة الزرقاء»، ومردها تعصب «شعري عاطفي»، كما تقوم على تجربة جمالية فردية.
إن فكرة القهوة، بتصوره، انطلقت من الحجاز، بصفتها البيت الأول للقهوة. وهذه المفردة التي أنّثها العرب وثيقة الصلة بالزمن، ولذة البطء، إلى أن ابتكر الإيطاليون مشروبهم الأنيق (الإسبرسو) الذي يعني القهوة السريعة. ويمثل «ثورة في معمار القهوة وهندستها الحداثية»، حيث أصبح فنجان الإسبرسو مادة ثورية جديدة في بنية المقهى، وطريقة حياة مقررة في كل مقاهي العالم، أو كما يقول الباريستا ستيفن موريسي «إن تحضير الإسبرسو يشبه أن تنظر إلى القهوة بعدسة مقربة». وهذا هو بعض «مانيفيستو القهوة» كعبة الوحيدين، بتعبير عبد الله الناصر، استئناساً بقول الشاعر الصيني لو تونغ «الكوب الأول يرطب شفتي، والكوب الثاني يكسر وحدتي».
فالقهوة نداء يفتتح بها البدوي يومه بفنجان البكرية، أو كما يحلو للشعراء تسميتها بعذراء الصباح، استجابة لنداء الحياة.
- ناقد سعودي



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.