القتلى يرقبون من المطعم التركي ما يحدث في «المنطقة الخضراء»

رواية عن انتفاضة أكتوبر العراقية

المطعم التركي في ساحة التحرير حيث يعتصم المتظاهرون العراقيون
المطعم التركي في ساحة التحرير حيث يعتصم المتظاهرون العراقيون
TT
20

القتلى يرقبون من المطعم التركي ما يحدث في «المنطقة الخضراء»

المطعم التركي في ساحة التحرير حيث يعتصم المتظاهرون العراقيون
المطعم التركي في ساحة التحرير حيث يعتصم المتظاهرون العراقيون

أنجز مشتاق عبد الهادي روايته القصيرة الأولى التي تأتي تحت عنوان: «الهبوط من المطعم التركي» الصادرة عن دار «الورشة الثقافية» في بغداد. وهي أول «نوفيلا» تستوحي ثيمتها، وشخصياتها، وفضاءها السردي من انتفاضة «الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2019».
وقد استغرقت كتابة هذه الرواية القصيرة 41 يوماً لا غير! سبق لمشتاق أن أصدر 3 مجموعات قصصية؛ هي: «ولادات» و«حربيات» و«سيرة الـ...هذا»، وهو معروف بجُملته القصصية المشذّبة والمكتنزة التي تنطوي على قدرٍ كبير من القوة والإيحاء، وقد فاجأنا في هذا النص بجُملته الروائية التي غادرت الثيمة الضيّقة، والفضاء القصصي المحدود، لينتقل بنا إلى أمكنة متعددة تبدأ من «المطعم التركي»، وساحة التحرير، وجسور بغداد، ومقبرة «سيد مبارك» في ناحية المنصورية، وإلى رابية على الحدود، وثمة نهر يصطاد فيه الراوي الأسماك، ثم في خاتمة المطاف إلى السماء التي تحتضن أرواح الشهداء وهم يتواصلون مع الثائرين في ساحة التحرير، ويُرقبون من طبقات المطعم التركي ما يحدث في «المنطقة الخضراء» التي أصبحت رمزاً للفساد، وبؤرة للشحن الطائفي المقيت.
لم يلجأ مشتاق إلى الحبكة التقليدية، فثمة أحداث تقع في المنطقة الرمادية التي لا يستطيع فيها القارئ أن يميّز بين الواقع والخيال، والحقيقة والحُلُم، فحتى السارد الذي يروي بضمير المتكلم لا يعرف إن كان هو قد قُتل أم لا؟ يزوّدنا المقطع الأول من الرواية بمعلومات كثيرة عن المطعم التركي الذي قصفته قوات التحالف عام 2003 واعتصم فيه شباب «ثورة تشرين عام 2019» بعد أن أعادوا تأهيله بمدة قياسية لكن قوات مكافحة الشغب هاجمت المعتصمين وأشاعت بينهم الرعب والهلع فانسحب الراوي، وقادته خطواته إلى مقبرة «سيد مبارك»، الأمر الذي يوحي لنا بأنه قد استشهد، ولكنه ظل حياً بشكل من الأشكال، إذا ما اعتبرنا أن روح الشهيد لا تموت. لقد تخلى مشتاق عن البنية الواقعية وزجّ بالقارئ في البنية الفانتازية التي تتيح إلى حدٍ ما أن يصبح اللامعقول معقولاً أو قابلاً للتصديق على نحو مجازي. يلج الراوي إلى العالم الآخر ويقابل والدته المتوفاة، لكنها لا تُجيب عن أسئلته المؤرقة، فهو يريد أن يعرف إن كانت هي في الجنة أم في النار؟ ولماذا ينهرهُ الرجل الغاضب كلّما أراد الاقتراب منها أو الحديث معها؟ ثم يدخل في لجة الأسئلة التي أعيت كبار المفكرين من قبيل ماهية الروح؟ وأين تستقر بعد موت الجسد؟ وهل تلتقي روح الضحية بروح الجلاد؟
الشخصيات في هذه الرواية أحياء وأموات في الوقت ذاته، فقد كان الراوي متظاهراً وحبيبته أحلام مُسعفة وقد التقيا أكثر من مرة في المطعم التركي قبل أن يضطرا للهبوط في جوٍ مشحون بالخوف والقلق، الأمر الذي يبرّر ضبابية هذا التداخل الغامض بين الموت والحياة.
تفقد كثير من الأحداث العامة بريقها إذا ما استهلكتها الوسائل الإعلامية المعروفة، ويصعب تحويلها إلى مادة إبداعية لأنها تفتقر إلى المفاجأة وعنصر الإدهاش، ومع ذلك فإن الكاتب المحترف يستطيع أن يؤثث الفضاء السردي بالقصص والحكايات المتداولة، تماماً كما فعل مشتاق عبد الهادي حينما ضمّن روايته ظواهر وحوادث معروفة مثل التواصل الاجتماعي، واللجان التنسيقية، والمندسّين، والقناصين، والقنابل المسيّلة للدموع، واختطاف الناشطين والمُسعفين، والدعم اللوجيستي للتُجار، وسائقي التكتك ودورهم البطولي في هذا الحراك الجماهيري الواسع، لكنه شيّد بنيته الرئيسية على قصة الحُب التي تنمو بين الراوي وصديقته أحلام في العالم الآخر، وخلق أكثر من انعطافة خلال معضلة الاتصال بين الأموات والأحياء، واختراق أحلام الآخرين، وسبر أفكارهم، ومعرفة القرارات الفردية التي يفكر بها بعض القيادات الفاسدة. وقد ساهمت هذه البنية الفانتازية ذات النَفَس العجائبي في نقل الرواية إلى نص مركّب يبحث في قضايا الروح، ويتعمّق بأسئلة الوجود البشري، ويقدّم نبوءته باقتحام المنطقة الخضراء من قِبل الثوار الذين تمركزوا في ساحة التحرير والجسور المحاذية لها.
يرسم مشتاق عبد الهادي نهاية روايته بحذقٍ واضح حينما يسحب المتلقي إلى المنطقة الرمادية التي تترجّح بين الغموض ونقيضه ويأخذ البطلين إلى غرفة تحضير الأرواح بعد أن طلبا الظهور الإعلامي واشترطا أن تُبثّ الجلسة مباشرة على الفضائيات كلها ليُعلنا أن الحالة الغريبة والغامضة هي التي ساعدت في إنجاح الثورة. وبعد أن يتأكدا من وجودهما على الهواء مباشرة، أمسك الراوي بيد أحلام وأعلن صرخته المدوّية للجميع: «نحن معكم... إنها ثورة السماء والأرض». هذه الجُملة الختامية المدروسة تؤكد الشرعيتين الأرضية والسماوية لهذه الثورة التي تتآزر فيها أرواح الشهداء مع المنتفضين أو المحتجين أو المتظاهرين مهما اختلفت تسمياتهم وصفاتهم لتؤكد شيئاً واحداً لا غير يعزّز نبوءة الروائي أن الهبوط المجازي من المطعم التركي سيكون في خاتمة المطاف اندفاعاً باتجاه المنطقة الخضراء التي ستشهد القصاص من الخونة، والمأجورين، وسرّاق المال العام.
لا يمكن قراءة هذه الرواية قراءة واقعية فقط لأنها تتعدى الجانب الواقعي إلى الجانب الفانتازي، كما ذكرنا، أو العجائبي، إن شئتم، رغم الفوارق المعروفة بين الاثنين. كما أن النص الروائي يحتفي بدلالاته الرمزية التي تعمّق الأفكار والشطحات والمضامين الثانوية التي تؤازر الثيمة الرئيسية وتغذّيها وهي «ثورة السماء والأرض». ولنأخذ «اصطياد الأسماك»، على سبيل المثال لا الحصر، ثيمةً فرعية حينما يخاطب الراوي حبيبته قائلاً: «صيد الأسماك، يا أحلام، انتظار وصبر ودراسة للآخر الذي لا تراه ويبعد عنك أمتاراً في عمق المياه»، ثم يمضي في حديثه عن نشوة الفوز بعد التعب والقنوط والانتظار الطويل لينتهي إلى القول بأنّ صيد الأسماك هو «ثورة أكتوبر» ذاتها التي ولدت من رحم الفوضى واليأس واستهتار الفاسدين الذين لم يُدركوا طوال 16 عاماً أنّ العراقيين يحتقرون ذيول الأجنبي وبراثنه القذرة التي تنهش في أجساد المنتفضين الذين ثاروا لاستعادة كرامتهم وهيبتهم المفقودة.
لو تأملنا حديث الراوي وإشاراته لوجدناه قد فقد أمه قبل 3 سنوات تقريباً، أما حبيبته أحلام، فهي الأخرى قد فقدت أبويها منذ الطفولة، وكأنّ مشتاق عبد الهادي يريد أن يوحي لنا بأنّ هذه الثورة لا أبَ لها لأنها تقترن بالشباب فقط، هذا الجيل الجسور الذي أزاح الجيل السابق وأحرجه وجعله يشعر بالخجل لأنه لم ينتفض أو يحرّك ساكناً في أقل تقدير.
ثمة مقاربة بين «المطعم التركي» وجبل أُحد أفضت إلى معنى رمزي عميق لهذه البناية الشاهقة، وأنّ الثوار الذين تزاحموا في طوابقها الستة عشر لا يختلفون كثيراً عن الرماة الذين كانوا يرابطون على الجبل وينبغي عليهم ألاّ يتخلوا عن مواضعهم إلا بعد أن تضع الحرب أوزارها كي لا نقترف الخطأ نفسه الذي اقترفه الرُماة الذين فكروا في الغنائم فخسروا المعركة وتبددت منهم نشوة النصر.



محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم
TT
20

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

كل قراءة أو «إعادة» قراءة لشاعر هي قراءة جديدة. ما مِن إعادة بمعنى التكرار إزاء النصوص المخترقة لزمنها، المتقدمة عليه. الشعر هو خطوة في المستقبل، والقراءة أياً كانت، هي ملاحقة له، بدواعي الاكتشاف. توصيف كهذا هو ألصق بشعر محمود البريكان أكثر من شعر أي شاعر آخر، بسبب طبيعة موضوعاته، بالدرجة الأساس، المتجهة إلى الإنسان وإلى ما هو كوني، وكذلك بسبب عمق رؤية الشاعر، وطبيعة التقنية الخاصة المجتهدة التي أملتها تلك الموضوعات أو تفتّقت عنها، فهُما عند البريكان لا ينفصلان. ويخيّل لي أن أكثر الشعر العربي، إذا ما قورن بشعر البريكان، المصمَّم بفكر، يتبدّى احتفالاً رومانسياً بالأشياء. لكن «فكرية» البريكان لا تعني الذهنية المجرّدة؛ فهو كما وصف نفسه، بحق، في إحدى قصائده المبكّرة «قلبٌ مفكّر». وشعر البريكان - وقلما يحدث ذلك مع شاعر آخر - يُقرأ في ضوء متغيّرات العالم، في جوهره وليس في أعراضه، كما في قصيدة «التصحّر»، مثلاً، وفي ضوء المتغيّرات الثقافية. فهذا الشعر يبدو ناشباً جذوره في المستقبل انتماءً وقراءةً (للمستقبل) حتى ليغدو شيئاً منه. ولم يجانب الشاعر الحقيقة حين قال إن قصائدي لن تُفهم إلا بعد عشرين سنة، كما يُنقَل عنه ذلك. إنه يتحدث عن المستقبل بغضّ النظر عن الرقم الذي ارتأى. وهو شيء جدير بكل فن حقيقي، ليس بالضرورة باستعصاء فهمه في لحظته، بل بمعنى سرَيانه في الزمن ومعه. من هنا، فإن في استعادة شعر البريكان استعادة للدهشة البكر المزامنة لكل قراءة. وهو شأن كل شعر وفن عظيم يحمل صفة خلوده معه. ولا تكتمل أي قراءة للشاعر البريكان بمعزل عن رياديته؛ فدور البريكان الريادي أساسيّ لا يقلّل من أثره وخطورته أن سطحية النقد السائد لم تعره اهتماماً يُذكر، على حد تعبير الشاعر رشيد ياسين، أو أن مجمل الموقف من الشاعر وشعره مناوَأةً أو - في أحسن الأحوال - صمتاً، قد يُترجم إلى ما يجافي ما هو شعري وثقافي، وإلّا فإن شعر البريكان على ما عُرف منه - حتى الآن - وهو ليس بالقليل، جدير بأن يضعه في مصاف كبار الشعراء الذين عرفتهم الإنسانية في مختلف العصور. ولمعدّ هذا الكتاب الفخر بأن جعل صورة الشاعر البريكان الشعرية أقرب إلى الصفاء بعد سُحب الضباب التي حجبتها طويلاً. فكم من الأصداء المهمة حققتها مجموعات/ مختارات «متاهة الفراشة»، في طبعتَيها السابقتين، بل يمكن القول إن «متاهة الفراشة» هي التي قدمت البريكان عربياً، ورسّخت صورته، وحققت لشعره انتشاراً حتى على صعيد اللغات الأُخرى، كما في ترجمة سركون بولص لعدد من قصائده إلى الإنجليزية، أو ترجمة جاسم محمد الذي عمل منذ سنوات على ترجمة كامل «الديوان» إلى السويدية، على أمل أن يرى مشروعه النور، يوماً. فضلاً عن ترجمات متفرقة هنا وهناك، ودراسات ومراجعات رصينة كثيرة لشعر وشعرية البريكان، على النطاقين العربي الواسع والعراقي المحلي، لا يمكن حصرها، ما كان لها أن تحدث لولا صدور المجموعات/ المختارات التي بين يدَي القارئ، دون نسيان البحوث والرسائل الجامعية التي اعتمدتها مصدراً لشعر البريكان.

عند كتابة هذه السطور يكون قد مضى ما يقارب اثنين وعشرين عاماً على الطبعتين الأولى والثانية من «متاهة الفراشة» التي لاقت رواجاً واستقبالاً متعطشاً لشعر البريكان وجهده، أحسب أنهما يتجددان تجدّد شعر البريكان؛ ما يعني ضرورة صدور طبعة جديدة، ولا سيما أنّ هذه اجتهدت لأن تخلو من الأخطاء الطباعية، كما - وهذا هو الأهم - قد ضمّت عدداً من القصائد لم تقف عليها الطبعتان الأولى والثانية، والقصائد المُضافة هي: «العربي التائه»، و«سمفونية الأحجار»، و«دراسات في عمى الألوان»، و«الوصية». وهي في صميم تجربة البريكان المتنامية، ومشروعه التحديثي في القصيدة العربية. وعلى الرغم من إيماني الشخصي بأنّ ما تمّ تقديمه من قبل من شعره يكفي لأن يرسم صورة واضحة المعالم ووافية عن طبيعة الاشتغال والهمّ الشعري الذي انطوى عليه الشاعر، والمديات التي بلغتها قصيدته وشاعريته؛ من هنا فإنّ القصائد المُضافة المذكورة تأتي تعزيزاً للانطباع القوي الذي يتركه مجمل شعر البريكان لدى قارئه، وإلّا فإن أية إضافة جديدة هي من باب النوافل، حتى مع أهميتها النوعية، دون التقليل من أي جهد استكشافي يحاول الوصول إلى كامل نتاج الشاعر - لو أُتيح ذلك - وتقديمه إلى القراء المتطلعين إلى الإلمام بالمزيد من هذا النتاج، حتى لو من باب الفضول.

* مقدمة الطبعة الجديدة من «متاهة الفراشة»: قصائد - حوارات - شهادات... التي ستصدر هذه الأيام عن دار «جبرا للنشر والتوزيع» في الأردن