«الدرونز» الإيرانية... «الإرهاب الجديد»

الهواء يحمل موتاً قاتلاً... التحديات والمواجهة

طائرات من دون طيار حوثية معروضة بمعرض في مكان غير معروف باليمن (رويترز)
طائرات من دون طيار حوثية معروضة بمعرض في مكان غير معروف باليمن (رويترز)
TT

«الدرونز» الإيرانية... «الإرهاب الجديد»

طائرات من دون طيار حوثية معروضة بمعرض في مكان غير معروف باليمن (رويترز)
طائرات من دون طيار حوثية معروضة بمعرض في مكان غير معروف باليمن (رويترز)

خلال افتتاح أعمال السنة الرابعة من الدورة السابعة لمجلس الشورى، أكد خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز أن الاعتداءات على السعودية لم تؤثر على التنمية وحياة المواطنين والمقيمين بفضل منتسبي القوات العسكرية والأمنية.
وفي تفاصيل الهجوم، أشار العاهل السعودي إلى أن المملكة تعرضت لـ286 صاروخاً باليستياً، و289 طائرة مسيرة، ولم يؤثر ذلك على مسيرتها التنموية، ولا على حياة المواطنين والمقيمين فيها.

الشاهد أن الصواريخ أداة معروفة منذ القدم في إطار الحروب والمواجهات العسكرية، لكن الطائرات المسيرة أو «الدرونز» تبقى هي الأداة المستحدثة الأكثر هلعاً ورعباً، لا سيما أن تكلفتها زهيدة جداً، وإمكانيات تصنيعها متوافرة، الأمر الذي يلقى بنوع من أنواع انعدام التوازن الاستراتيجي العسكري في ميادين القتال حول العالم، ناهيك من تهديد الآمنين على الأرض وفي الجو بالقدر نفسه... من أين للمرء توصيف هذه الإشكالية المحدثة المقلقة إلى أبعد حد ومدى؟

الدرونز في المائة عام الماضية
يمكن القطع بأن فكرة الطائرات «الدرونز» ليست فكرة جديدة، أو وليدة الأمس القريب، إذ تشير الدراسات المختلفة إلى أنها ولدت بداية في زمن الحرب العالمية الأولى، وفي إنجلترا تحديداً، في محاولة لتوفير الدم والحفاظ على أرواح الطيارين الإنجليز، وبدأت التجارب عليها ضمن سلاح «فرسان الجو». وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، طور الأميركيون هذه الطائرات التي كانت بدائية لكي تضحي وسيلة لمراقبة القطع البحرية للأعداء بنوع خاص. وبرز في هذا السياق الأدميرال الأميركي «ويليام ستانلي» الذي قاد المشروع الأميركي.
وكانت حرب فيتنام ميداناً جديداً لتطوير «الدرونز»، لا سيما أن القوات الأميركية استخدمتها كسلاح مفاجئ، في ظل خسائرها البشرية. ومن الطبيعي أن يصل إلى إسرائيل هذا الاختراع، في وقت كانت تعيش فيه حروباً مع العالم العربي، عطفاً على حاجتها إلى مراقبة الأراضي المحتلة.
والثابت أنه منذ سبعينات القرن المنصرم حتى اليوم، أضحت «الدرونز» الهاجس الذي يقض مضاجع العالم، لا سيما بعد أن تمكنت الجماعات الإرهابية من حيازة تلك التكنولوجيا التي جعلت الرياح مسمومة حاملة لخطر الموت في الحل والترحال.
وشهد شهر أغسطس (آب) الماضي تحذيراً شديد اللهجة من المفوضية الأوروبية من مخاطر التطور التقني السريع لتكنولوجيا الطائرات المسيرة، وذلك في ظل التجارب المرصودة من جماعات إرهابية استخدمت فيها طائرات مسيرة في عمليات إرهابية.
وفي هذا السياق، كان مفوض الاتحاد الأوروبي للشؤون الأمنية جوليان كينغ يؤكد أن طائرات الدرونز «أصبحت أكثر ذكاء وكفاءة، مما يجعلها أكثر جاذبية للاستخدامات المشروعة، وكذلك للأفعال الإرهابية».
والثابت أن التحذير السابق لم يتأتَ من فراغ، وإنما من خلال عملية رصد ومتابعة للتهديدات التي تخلفها «الدرونز» على مسارين: الوضع الحالي والمستقبلي.
من هنا، بدا واضحاً أن الاتحاد الأوروبي يعمد إلى إقامة شبكة لتبادل المعلومات وتعزيز الاهتمام بهذه القضية على المستوى الدولي، وتوفير المخصصات المالية للمشروعات التي تخدم درء خطر «الدرونز».
ولم يكن البريطانيون وحدهم في حقيقة الحال من تنبه وبقوة لهذا الخطر القائم المقبل، بل إن الفرنسيين بدورهم أدركوا الهول الحالي، ولهذا فقد حذرت وحدة التنسيق الفرنسية لمكافحة الإرهاب في تقريرها الأخير من مخاطر التعرض لهجوم إرهابي محتمل على ملعب لكرة القدم بواسطة طائرة مسيرة مزودة بـ«مواد بيولوجية».

الدرونز الإيراني... مسيرة إرهابية
منذ أربعة عقود، هي عمر الثورة الإيرانية غير المحمودة، أضحت إيران حجر عثرة في الإقليم، وحول العالم، لا هم لها إلا زعزعة الاستقرار، ودعم الجماعات الإرهابية، ولهذا يضحي من الطبيعي أن تكون الدولة الأولى الداعمة للإرهاب حول العالم. ولأنها بهذا الوصف، لم يكن ليغيب عنها الاهتمام الكبير بحيازة مثل هذا السلاح الخطير، وهي التي درجت على مواجهة القاصي والداني، والتخطيط للمعارك اليوم وفي الغد.
بدأت إيران مبكراً رحلتها مع الشر الطائر -أي «الدرونز»- والمؤكد أنها لم تبدأ من الصفر، وإنما من خلال نماذج أولية تحصلت عليها من بعض شركائها في آسيا الشرقية، لا سيما كوريا الشمالية التي ترتبط معها بروابط عسكرية قوية وثيقة.
طورت إيران في أوائل الثمانينات، وفي ظل الحرب مع العراق، نماذج بسيطة غير مركبة من طائرات مسيرة عرفت باسم «مهاجر». وخلال العقود الثلاثة التالية، أنتجت طهران أنواعاً مختلفة منها، وبشكل خاص الطراز الذي أطلقوا عليه «أبابيل»، وهي التي زودت بها وكلاءها من الميليشيات، كما هو الحال مع الحوثيين في اليمن. كذلك زودت بها أطرافها الميليشياوية في لبنان، حيث «حزب الله» في الجنوب، ومن وراءها زودت بها جماعة «حماس» في الداخل الفلسطيني، لتصل إلى كتائب عز الدين القسام التي هاجمت بها القوات الإسرائيلية صيف عام 2014 خلال حرب غزة الثالثة.

الحوثي وطائرات إيران المسيرة
تركت إيران بصماتها الإرهابية المسيرة على اليمن بنوع خاص، وقد كانت نجاحات قوات الدفاع الجوي الملكي السعودي واضحة جلية، كما فعلت في أبها وجازان طوال العامين الماضيين، وقد شنت بالفعل عدداً من الغارات على البنية التحتية النفطية السعودية؛ كانت البدايات من خلال الهجوم على خط أنابيب النفط الخام بين الشرق والغرب ذي الأهمية القصوى، وأخرى على مرفق حيوي في عمق الربع الخالي في شبه الجزيرة العربية، وذلك قبل الهجوم الأشرس والأخطر على مصافي «أرامكو».
وتبين مسيرة إيران مع «الدرونز» أبعاد الإشكالية التي نحن بصددها. فرغم أن «الدرونز» مصممة في الأساس لتنفيذ أغراض مدنية، من بينها التصوير، فإن دولاً مثل إيران لا تتورع عن تطوير هذا النوع من الطائرات كي يستخدم في المعارك، ومنحه للإرهابيين في اليمن.
والمعروف أن إيران تستغل السوق السوداء للتحايل على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، من أجل الحصول على «الدرونز»، التي تزود بها في نهاية المطاف أذرعها الإرهابية ووكلاءها من أجل استخدامهم كأطراف شد تخفف الضغوط على طهران كمركز، في طريق مواجهتها لجيرانها، وللمجتمع الدولي برمته.

إرهاب إيران من سوريا إلى ليبيا
لم تتوقف الأيادي الخبيثة الإيرانية عند حدود اليمن فقط. فقد استغل الإيرانيون وجودهم في سوريا لفتح طريق برية لإيصال الطائرات المسيرة من إيران إلى الداخل السوري. وغني عن القول أنها باتت شبه مسيطرة على كثير من المناطق السورية المهمة خلال الأعوام الماضية، ولهذا كان من الطبيعي أن تشهد الساحة السورية اتساعاً في سياق حركة الطائرات «الدرونز»، لا سيما بعد أن بات الوجود الإيراني في سوريا أمراً مألوفاً، وفي غالبية مناحي الحياة المدنية من جهة، وعلى صعيد الوضع العسكري بنوع خاص.
ويدرك المراقب العسكري للوضع الداخلي السوري أن هناك صراعاً عميقاً تجري به الأقدار بين الإيرانيين والروس على الأراضي السورية، وقد بلغ الأمر حد تبادل إطلاق النيران بين الجانبين، عطفاً على شن هجمات بالطائرات المسيرة الإيرانية في غالبية الأمر على مواقع عسكرية مسيطر عليها من قبل القوات الروسية في سوريا. فعلى سبيل المثال، خلال شهر واحد، تعرضت قاعدة حميم إلى نحو 12 هجمة استخدمت فيها «الدرونز»، مما دفع تعليقات روسية للإشارة إلى أن الحرب التي تدور رحاها في سوريا يمكن تصنيفها كـ«حرب الدرونز».
ولم تكن اليمن وسوريا فقط هما ميدان إيران لإطلاق حرب الدرونز، إذ تبقى ليبيا بدورها ساحة خلفية لتعاون غير بناء أو خلاق بين ثلاثي الشر في المنطقة (إيران وتركيا وقطر) فيما بينهم.
وأصبحت الساحة الليبية، حيث لا حسيب أو رقيب، ميداناً لتجربة أفتك الأسلحة وأحدثها، ومنها الطائرات «الدرونز»، الأمر الذي تكشفه إعلانات الجيش الوطني الليبي يوماً تلو الآخر. وكثيراً ما يتم ضبط أو إسقاط أنواع من تلك الطائرات، التي هي غالباً تركية أو إيرانية الصنع، تقوم قطر في غالب الأمر بدفع أكلافها، في إطار يتسق ودورها الهدام في عموم المنطقة.

هل من تعاون تركي ـ إيراني
في هذا الإطار؟
ربما هذا ما يؤكده بالفعل تقرير صادر مؤخراً عن معهد استوكهولم لأبحاث السلام. ففيه، يشار إلى مثل ذلك التعاون، ويؤكد أيضاً أن اهتمام تركيا بإنتاج الطائرات القتالية من دون طيار يعود إلى عام 1996، حين تعاقدت أنقرة مع شركة «جنرال أتوميكس» الأميركية على شراء طائرات من نوع «جنات» دون طيار، التي استخدمتها بشكل مكثف لمراقبة المناطق التي ينشط فيها «حزب العمال الكردستاني» في المناطق الحدودية مع العراق.
وتلا ذلك صفقة مماثلة، لكن هذه المرة مع إسرائيل، حيث تعاقد سلاح الجو التركي على شراء طائرات «الدرونز» من نوع «هيرون». ويبدو جلياً أن تركيا تريد أن تصبح بالتعاون مع إيران تقنياً، ومن خلال التمويل القطري، دولة كبرى فيما يتعلق بتقنيات الطائرات من دون طيار. لكن في الوقت نفسه يرى خبراء حروب الدرونز أن الغرض الحقيقي من إرسال الأتراك طائراتهم من دون طيار إلى ليبيا دعائي نفسي، أكثر منه ميداني تكتيكي، لا سيما أنه من الواضح أن تأثير تلك الطائرات محدود جداً في أرض المعركة، وقد تلاشى مؤخراً، بعد أن تمكنت القوات الجوية الليبية من تدمير غرفة التحكم الخاصة بها، وأصبحت السيطرة في السماوات الليبية في يد قوات الجيش الوطني الليبي. وأحد الأسئلة التي تتقاطع معنا في هذا المقال: ماذا عن الجماعات الإرهابية التي امتلكت أنواعاً مختلفة من الطائرات المسيرة؟
يمكن القطع بأن هناك أربع مجموعات فعلت ذلك: «حزب الله»، و«حماس»، و«جبهة فتح الشام»، وتنظيم داعش... ما الذي يجمع هذه الحواضن الإرهابية الأربع؟
وبشيء من التحليل، يمكن القطع بأن «حزب الله» استفاد من المساعدات الإيرانية المباشرة، بينما استغلت «حماس» الفرصة التي وفرتها لها التكنولوجيا الإيرانية والتركية المسربة. أما «الدواعش»، ففي صيف عام 2014 نشروا مقطع فيديو دعائي يظهر مدى تمدد رقعة سيطرة التنظيم في العراق، حيث استخدمت في مقدمة الفيديو مشاهد التقطت بطائرات الدرونز لإضفاء لمحة سينمائية على دعايته.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.