نعومة السيستاني وقبضة خامنئي في وجه مظاهرات العراق وإيران

متظاهرون عراقيون يطالبون بإنهاء النفوذ الإيراني في بلدهم (أ.ب)
متظاهرون عراقيون يطالبون بإنهاء النفوذ الإيراني في بلدهم (أ.ب)
TT

نعومة السيستاني وقبضة خامنئي في وجه مظاهرات العراق وإيران

متظاهرون عراقيون يطالبون بإنهاء النفوذ الإيراني في بلدهم (أ.ب)
متظاهرون عراقيون يطالبون بإنهاء النفوذ الإيراني في بلدهم (أ.ب)

مع هيمنة أنباء المظاهرات الأخيرة التي اجتاحت مختلف أرجاء إيران، والتي تعد الثانية من نوعها في غضون أقل عن عام، على عناوين الأخبار، كانت هناك تطورات مهمة أخرى ربما لم تحظَ بالاهتمام الذي تستحقه. من بين هذه التطورات وقوف مؤسسة رجال الدين الشيعة في مواجهة ما يمكن اعتباره التحدي الأكبر الذي يجابهها منذ تشكيلها في القرن الـ16.
ونظراً لأن كثيراً من أعضاء النخبة الحاكمة في إيران يرتدون ملابس دينية، غالباً ما يفترض المراقبون من الخارج أن رجال الدين الشيعة كمؤسسة يحكمون إيران. إلا أنه عند إلقاء نظرة تفحص عن قرب أكبر يتضح أن هذا الاعتقاد لا يعدو كونه خداعاً بصرياً، وليس حقيقة.
طبقاً لأعلى التقديرات المتاحة، فإن إيران والهند والعراق التي تضم معاً قرابة 80 في المائة من شيعة العالم، يوجد بها نحو 400 ألف رجل دين، معظمهم إيرانيون أو يتباهون بخلفية إيرانية ما. ومع هذا، نجد أن نسبة ضئيلة للغاية منهم تتعاون مع طهران. وتشير الأرقام إلى أن إيران توظف نحو 25 ألف رجل دين في إيران، وتمول 10 آلاف رجل دين آخرين في العراق ولبنان وسوريا وأفغانستان والهند وباكستان وعدد من الدول الأفريقية والآسيوية الأخرى. في إيران، أكبر فئة من الملالي موجودة على قائمة الأجور الحكومية، تتمثل في أئمة صلاة الجمعة الذين يتولى تعيينهم جميعاً «المرشد الأعلى» آية الله خامنئي.
أيضاً، يتولى خامنئي تعيين وتمويل أعضاء «مجلس الفتوى»، البالغ عددهم تسعة أعضاء، ويوجد في قم، ويضم شخصيات بارزة، مثل آية الله ناصر مكارم شيرازي. بجانب ذلك، تسيطر الجمهورية الإسلامية على «الحوزة العلمية» في قم، التي يترأسها آية الله محمد يزدي، وتتولى تمويلها.
ومع هذا، تمكنت النسبة الأكبر من المؤسسة الدينية في إيران من الاحتفاظ بقدر كبير من استقلاليتها التقليدية عن السلطة السياسية.
وتبعاً لتقديرات أعلنها حسن خلخالي، وهو باحث بارز في الشؤون المرتبطة برجال الدين، فإنه فيما يخص أعداد التابعين (المقلدين)، فإن أعداد رجال الدين المعينين من قبل الدولة لا يشكل أكثر من 10 في المائة من إجمالي عددهم. كما أن ما يزيد على 90 في المائة من الإيرانيين الذين ما يزالون يدفعون «الخمس» أو «سهم الإمام»، وهي ضريبة غير رسمية تدفع لرجال الدين، يوجهون أموالهم إلى ملالي بعيدين عن الدولة بأكبر قدر ممكن، في ظل الظروف الحالية في البلاد.
وطبقاً لما أفادت به مصادر في قم، فإن آية الله العظمى علي محمد السيستاني، رجل الدين الإيراني البارز الذي يعيش في النجف، ويعترف به اليوم بصفته «مرجع التقليد» الحالي، يحصل على أكثر من نصف جميع «التبرعات» التي يقدمها الإيرانيون. وفي المقابل، يعيد تدويرها عبر ما يزيد على 150 مؤسسة تجارية ومنظمة خيرية.
ويعني ذلك كله أن حلم آية الله الراحل الخميني بدمج الدين والدولة في إيران لم يتحقق، ذلك أن الجمهورية الإسلامية التي أسسها سرعان ما عادت إلى النموذج الأصلي الذي لعبت خلاله مؤسسة رجال الدين الشيعية دوراً بارزاً، بينما ظلت السلطة السياسية الأولى في يد الحاكم. وفي ظل قيادة الخميني وخامنئي، يضطلع بدور الحاكم رجل دين، والذي رغم ذلك يبقى عاجزاً عن ادعاء التفوق في الشؤون الدينية. ونظراً لكونه واحداً من أكبر 20 رجل دين في عصره، كان الخميني «مرجع التقليد» لكثير من المؤمنين في أجزاء من إيران، لكنه لم يبلغ قط المكانة الكبرى التي بلغها رجال دين آخرون من حاملي لقب آية الله العظمى، مثل عبد الحسن أصفهاني أو محمد حسين البروجردي في المناطق التي كانوا فيها. واليوم، تبدو مكانة خامنئي التي يتظاهر في إطارها بكونه «مرجعية» محط شكوك أكبر.
وتبعاً لما أوضحه كاظم أسار، الخبير البارز في الشأن الديني الشيعي، فإن «المرجع» ينبغي أن تتوافر فيه خمسة شروط.
أولها أنه ينبغي أن يكون من نسل فاطمة ابنة النبي (صلى الله عليه وسلم). والشرط الثاني أن يكون من خلفية إيرانية، ويحمل الجنسية الإيرانية. والثالث أن يكون قادراً على التحدث بالفارسية والعربية بطلاقة. ورابعاً: ينبغي لمن يصبح «مرجعاً» أن يكون قد نشر «رسالة» تشهد على علمه. وأخيراً، ينبغي أن يكون مشهوداً له من قبل عدد من آيات الله العظمى بأنه الأول بين نظراء.
وفيما يخص خامنئي، نجد أنه تتوافر فيه الشروط الثلاثة الأولى، لكنه بعيد للغاية عن الاثنين الأخيرين. كانت الدائرة المقربة منه قد روجت إشاعات، مفادها أنه وضع اللمسات الأخيرة على «الرسالة» التي سيقدمها قريباً. وقال أفراد مقربون من دائرة خامنئي إن الرسالة «جاهزة»، لكنه يخشى تعرضه لانتقادات محتملة، ما يدفعه نحو الإرجاء المستمر لنشرها كاملة.
وقد منعه الخوف نفسه من نشر مجموعات من أشعاره التي نظمها على مدار ما يزيد على نصف قرن، لكنها غير معروفة سوى لحفنة من المقربين منه. ويتلقى خامنئي رسائل إشادة من آيات الله يدفع لهم أموالاً في قم وغيرها، لكن لم يشهد له قط باعتباره «الأول بين نظراء».
وقد سببت له هذه النقطة الأخيرة عدداً من المشكلات. على سبيل المثال، ليس بإمكان خامنئي السفر إلى النجف في العراق، أقدس المدن لدى الشيعة، لأنه لو ذهب هناك سيكون مضطراً لمقابلة السيستاني واثنين أو ثلاثة آخرين هناك يحملون لقب آية الله العظمى. إلا أنه من غير المحتمل أن يتوجه السيستاني وربما آيات الله العظمى الآخرون إلى مقر إقامة خامنئي لأن هذا يعني اعترافاً منهم بأنه أعلى مرتبة عنهم.
وإذا ذهب خامنئي إلى السيستاني، مثلاً، فإن هذا يعني تخليه عن ادعائه بأنه زعيم الشيعة، أو مثلما ينص دستور جمهوريته: زعيم «الأمة الإسلامية» ككل.
وقد حالت اعتبارات لقاء السيستاني من سفر خامنئي إلى العراق. جدير بالذكر أنه قبل استيلاء الخميني على السلطة عام 1979، اعتاد السيستاني على السفر لإيران كل عام للحج إلى قم، ومسقط رأسه مشهد. إلا أنه اضطر لإنهاء هذا التقليد لأنه إذا سافر لإيران، سيضطر لزيارة الخميني أو خامنئي الآن، وبالتالي سيأتي هذا بمثابة اعتراف بأنهما أعلى مكانة منه. وفي الوقت ذاته، إذا تجاهلهما، ولم يأتيا لزيارته، سيكون هذا مؤشراً على وجود صدع خطير في مؤسسة رجال الدين الشيعة.
وفي تلك الأثناء، يظهر جيل جديد من رجال الدين في قم والنجف، الذين إذا ما استمر الدين كعامل محوري في المجتمع، من المحتمل أن يسعوا لخلق أكبر مسافة ممكنة بينهم وبين الرؤية العالمية لخامنئي. على سبيل المثال، نجد أن آية الله العظمى محمد جواد علوي البروجردي الذي رغم احتفاظه بعلاقات طيبة مع خامنئي، يرسم ببطء مساراً مختلفاً تماماً للمجتمع الشيعي.
وبذلك، يتضح أن تأسيس الجمهورية الإسلامية كان بدعة مصيرها الرفض الحتمي من جانب التقاليد الدينية الشيعية. لقد كانت محاولة لدمج السلطات السياسية والدينية أمراً يعد ممقوتاً لدى النموذج الصفوي الأصلي. وعلى مدار العقود الأربعة الماضية، تسببت هذه الجمهورية في تقسيم الشيعة بين عالمين: أحدهما ديني والآخر سياسي، يحاولان التعايش معاً، لكن بصعوبة.
ويشير الواقع السياسي اليوم إلى أن المذهب الشيعي يقوده خامنئي الذي يسيطر على بلد كبير، وكذلك موارد مالية واقتصادية كبيرة، رغم المشكلات الراهنة في تدفق السيولة.
وداخل كثير من المراكز، من الممكن أن يسهم هذا الواقع السياسي في شراء التأييد، بجانب خلق وتمويل جيوش موازية وجماعات مرتزقة في العراق ولبنان وسوريا واليمن وغزة وغيرها. ومع هذا، ليس بإمكان هذا الواقع السياسي الفوز بسلطة حقيقية على الصعيد الديني. حتى داخل لبنان الذي أنفقت الجمهورية الإسلامية فيه أكثر من 20 مليار دولار على مدار العقود الماضية، ما تزال الغالبية الكاسحة من الشيعة تتطلع نحو النجف وقم، وليس طهران، كمصدر للإرشاد الديني.
ويسلط رد فعل السيستاني وخامنئي تجاه الفوضى السياسية الحالية في العراق وإيران الضوء على حالة الفصام السياسي - الديني التي تضرب الشيعة اليوم، فقد انحاز السيستاني إلى صف المتظاهرين، ونصح السلطات بالتعامل معهم بما يمكن وصفه بـ«قفاز التعامل مع الأطفال»، أي برفق ولين، ذلك أن هدفه يكمن في الإبقاء على صلاته بالمجتمع. أما خامنئي، فيوجه باتباع سياسة القبضة الحديدية لأنه يرغب في إطالة أمد الوضع السياسي الراهن.



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!