شرعية الدولة: سجال السيستاني مع «ولاية الفقيه»

TT

شرعية الدولة: سجال السيستاني مع «ولاية الفقيه»

أعاد موقف المرجع الشيعي الأعلى في النجف السيد علي السيستاني وعلى لسان وكيله أحمد الصافي في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، من شرعية النظام السياسي، السجال بين رؤيتين فقهيتين رئيسيتين حكمتا توجه المؤسسة الدينية الشيعية منذ عقود.
وأشار السيستاني بما نصه: «إن الحكومة إنما تستمد شرعيتها ـ في غير النظم الاستبدادية وما ماثلها من الشعب، وليس هناك من يمنحها الشرعية غيره، وتتمثل إرادة الشعب في نتيجة الاقتراع السري العام إذا أُجري بصورة عادلة ونزيهة». وذكّر هذا الموقف بالصراع الفكري والسياسي المحتدم بين مدرسة فقهية يمثلها السيستاني، المؤمنة بولاية الأمة على نفسها، حيث شرعية الحكم والدولة من الشعب، وبين مدرسة أخرى يتزعهما مرشد الثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي حالياً، والتي تؤمن بأن الشرعية لله، وأن الولاية هي مطلقة للفقيه العادل الحائز للشروط.
ويعود أصل نظرية ولاية الفقيه المطلقة إلى الخميني مؤسس النظام الإسلامي في إيران، إذ حرر من موقعه الفقهي نظرية غير مألوفة في الفكر السياسي الشيعي ضمن محاضرات حملت عنوان: «الحكومة الإسلامية».
ويشدد الخميني في محاضراته على أن ولاية الفقيه هي وظيفة سياسية وحق في الحكم، بحيث يكون له حق التصرف في النفوس والأموال، حيث يثبت الخميني أن للفقيه جميع ما للإمام إلا إذا قام الدليل على خلاف ذلك. حتى أنه يتوسع في ذلك ليشير إلى أن «الحكومة فرع من ولاية رسول الله المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام، وهي مقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج. ويمكن للحكومة أن تفسخ من جانب واحد كل عقد تعاقدته مع أفراد الأمة إذا رأت في ذلك مصلحة للدولة والإسلام». وبناء على نظرية الخميني بإمكان الولي الفقيه تعطيل الشريعة مؤقتاً لمصلحة ما، كما حصل في منع الخميني الإيرانيين من أداء فريضة الحج الواجب لمدة عامين بعد أحداث عام 1987.
ولم تسلم هذه النظرية من تيار آخر في المدرسة الدينية الشيعية رفضاً ونقداً، حتى أن الشيخ محمد جواد مغنية أشار إلى قصور الأدلة في إثبات صلاحية للفقيه أكثر من الفتوى والقضاء على الأوقاف العامة وأموال الغائب وفاقد الأهلية وإرث من لا وارث له، دون أن تشمل الولاية التدخل في الشؤون الاجتماعية أو السياسية.
أما الموقف الأقوى في حينه فقد كان لزعيم حوزة النجف الأشرف أبو القاسم الخوئي الذي رفض بشدة المقاربة بين ولاية الفقيه من جهة، وولاية الإمام والنبي من جهة أخرى. وبعد مساجلة فقهية وعقلية معمقة يخلص الخوئي إلى القول: «ليس للفقيه ولاية على أموال الناس وأنفسهم... ليس له إجبار الناس على جباية الخمس والزكاة وسائر الحقوق الواجبة». وبالنتيجة فإن رفض السيد الخوئي لحدود ولاية الفقيه بما تشمل تفاصيل السياسة، يؤدي بتلك الولاية أن تكون محدودة في إطار المدونات الفقهية التقليدية واعتزالها المجال العام.
ويعد المرجع الشيعي الأعلى حالياً السيد علي السيستاني سليل مدرسة الخوئي في النجف، وهو اضطر بعد عام 2003 إلى التعامل مع ملف السياسة في العراق في ظروف بالغة الحساسية. فمن جهة كان على السيستاني التجاوب مع ضغوط الشارع الشيعي، ومن جهة أخرى كان عليه التعامل مع ما آمن به من نظرية سياسية فقهية، دعته إلى أن يتجنب الدخول في تفاصيل السياسة.
وتمثل تنظيرات السيستاني اتجاهاً وسطياً واقعياً بين ولاية الفقيه المطلقة للخميني التي بسطت يد الفقيه في الشأن العام، وبين الولاية الجزئية للخوئي التي لم تسمح للفقيه إلا بممارسة ما أمره الشرع مباشرة ودرج الفقهاء على تأديته منذ غابر الأيام.
ويرى السيستاني أن صلاحيات الفقيه هي بشروط ثلاثة، إذ ورد في جواب له على استفتاء بهذا الخصوص: «تثبت الولاية في الأمور العامة التي يتوقف عليها حفظ النظام الاجتماعي، للفقيه العادل المتصدي لإدارة الأمور العامة المقبول عند عامة الناس»، فالأمور الحساسة الكبرى، ووجود فقيه عادل مقبول عند الناس، هي الأمور التي يمكن للفقيه أن يتدخل بموجبها في الشأن العام. فلا مبادرة إذن من الفقيه ابتداءً، ولا إلزام على الناس في اتباع الفقيه، إلا من ارتضى على نفسه الالتزام برأي الفقيه.
ولا يفكر السيستاني بأي مشروعية غير تلك المرتبطة بالشعب، متحدثاً بوضوح لا لبس فيه عن رفضه لحكومة دينية، أو حتى أي دور مباشر لرجال الدين في الجوانب الإدارية والتنفيذية، داعياً إياهم إلى الاقتصار على الإرشاد والتوجيه العام.
ويشدد السيستاني على ضرورة أن تشتمل عملية بناء الدولة على سيادة العراقيين على بلدهم سيادة كاملة غير منقوصة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، رافضاً أي دور للميليشيات، أو أشكال الهيمنة الطائفية، مشيراً إلى إمكانية تجاوز المحاصصة العرقية والطائفية من خلال الرجوع إلى صناديق الاقتراع.
أما في الجانب الآخر، فقد تطورت ممارسات السيستاني العملية لنظريته الفقهية، حيث شملت تفاصيل دقيقة في المجتمع والساحة السياسية. ونجح السيستاني في بعض هذه التدخلات كتلك التي تتعلق بطلبه من حزب الدعوة الإسلامية تغيير مرشحه لرئاسة الوزراء عام 2014. أو فتواه التاريخية بالجهاد الكفائي ضد «داعش»، فيما لم يلقَ عدد آخر من توجيهاته الاهتمام الكافي، منها ما يتعلق بطلبه إلغاء عطلة السبت، أو إلغاء الامتيازات والرواتب التقاعدية للمسؤولين، وغير ذلك، إذ يشير ذلك إلى أن حدود تأثير المرجعية في القرار الشيعي ليس نهائياً وحاسماً بالضرورة.
ورغم أن السيستاني لم يذكر مفهوم «الدولة المدنية» في أي من خطاباته فإن سياق مواقفه وتنظيراته يشير إلى أن شكل الدولة الشيعية ضمن رؤية مدرسة النجف الأشرف اقترب كثيراً من مفهوم الدولة المدنية، القائمة على الفرد - المواطن، التي لا تقرّ بعلوية الدين أو المؤسسة الدينية، فيما تقرّ بالفصل بين السلطات والديمقراطية والحريات العامة.
وفي الحقيقة أن نظرية السيستاني تجاوزت تناقضاً جوهرياً ما زالت نظرية ولاية الفقيه المطلقة (والمطبقة في إيران) تعاني منه، وهو ذلك التناقض المتمثل في الفرد المكلّف بالواجب الشرعي، وهو نفسه المواطن الذي لديه الحق في الاختيار الحر. فالسيستاني حسم الأمر لصالح المواطن وخياراته ضمن سياقات الدولة الدستورية، في حين ترغم ولاية الفقيه المطلقة الفرد على تنفيذ ما هو واجب شرعي يحدده الولي الفقيه.
* باحث عراقي



طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».