تحولت ملالا يوسف زاي، أول صبية في العالم تحصل على جائزة نوبل للسلام، إلى محور خلاف آيديولوجي شديد داخل المجتمع الباكستاني.
فوسائل الإعلام الليبرالية الباكستانية بدأت بوصفها بأنها الوجه الحقيقي الناعم للمجتمع الباكستاني لجهودها من أجل إثبات حق الأطفال الباكستانيين في الالتحاق بالتعليم. في الجهة المقابلة، تصفها الجماعات والأحزاب الدينية مالالا بالعميلة الغربية، التي تستخدمها القوى الغربية لتشويه صورة باكستان والإسلام.
أمير العظيم، المتحدث باسم «الجماعة الإسلامية»، الحزب السياسي الديني الأصولي، تساءل قائلا: «لماذا حصلت ملالا على جائزة نوبل ويُترَك الأطفال الفلسطينيون يذبلون وسط المعاناة، بينما تعيش ملالا في راحة ويظل الأطفال الفلسطينيون يذهبون إلى مدارسهم وسط العنف المستمر».
في المقابل، بدأت القناة الإخبارية الليبرالية الباكستانية (جي إي أو) بوصف ملالا يوسف زاي بصفتها الوجه الحقيقي للمجتمع الباكستاني، وأعلنت القناة يوم فازت ملالا يوسف زي بجائزة نوبل: «لقد أضاءت ملالا اسم باكستان وسط الأمم».
في الأسبوع الماضي، جرى إعلان منح جائزة نوبل للسلام لملالا يوسف زاي بالاشتراك مع كايلاش ساتيارثي الناشط الهندي في مجال حقوق الأطفال.
أما عن ملالا ذاتها فالتزمت الصمت، ولم تشارك هي أو أي من أفراد عائلتها في هذا الخلاف الذي يدور في الأوساط السياسية والإعلامية بالبلاد. لكن محمد حسن، أحد أعمامها، صرح لـ«الشرق الأوسط» بأن العائلة ليست مستعدة للمخاطرة بإعادة ملالا إلى باكستان وسط تهديدات مستمرة لحياتها.
فبعد أن تعافت ملالا من إصابتها بطلق ناري في الرأس، قبل عام وعادت إلى الظهور العلني، جددت حركة طالبان الباكستانية مرة أخرى تهديدها إياها بالقتل. ونقلت وسائل الإعلام الباكستانية عن شهيد الله شهيد، المتحدث باسم طالبان الباكستانية، قوله: «لا نخجل من الهجوم على ملالا، وسنقتلها وقتما تسنح لنا الفرصة لفعل ذلك».
كانت ملالا يوسف زاي، الفتاة الباكستانية التي أطلقت عليها طالبان النار في محاولة لاغتيالها، تبلغ من العمر 11 سنة فقط عندما أحكمت طالبان سيطرتها على منطقة وادي سوات الباكستانية في شمال غربي البلاد بعد أن تركت لهم الحكومة السلطة المطلقة نتيجة عقد اتفاق سلام بين الجانبين. لم تنشأ معارضة ملالا لطالبان عن أي فلسفة سياسية مجردة، بل كانت تملك سببا عمليا في ذهنها لمعارضة حركة طالبان، حيث أرادت بيئة حرة وآمنة لكي تتعلم في مدرستها، ولكن طالبان تقوم بحرق مدارس الفتيات واحدة تلو الأخرى في بلدتها الأصلية.
كان تبني موقف علني تجاه حق الأطفال في التعليم محفوفا بخطورة شديدة في هذه المرحلة. ولكن ملالا لم تجلس بلا عمل، رغم ممارسة أسرتها الضغوط عليها بعدم الظهور في بيئة الخوف السائدة. لذلك، قررت بدء التدوين عبر خدمة «بي بي سي الأردية» باسم مستعار هو غول ماكاي.
في تدويناتها، أعربت عن المخاوف وانعدام الاستقرار الذي يتعرض له السكان العاديون عندما كانت طالبان مسيطرة على وادي سوات. وكانت الأفكار الغالبة على مدونتها تتعلق بحرمان الفتيات في سوات من المنشآت التعليمية.
كتبت ملالا في يناير (كانون الثاني) عام 2009: «شاهدت حلما مفزعا بالأمس، كانت فيه مروحيات عسكرية وحركة طالبان. أرى هذه الأحلام منذ شن العملية العسكرية في سوات. كنت أخشى الذهاب إلى المدرسة، لأن طالبان أصدرت فتوى تحرم جميع الفتيات من الذهاب إلى المدارس. حضرت 11 طالبة فقط من بين 27 في الصف وظل العدد ينخفض بسبب فتوى طالبان. وفي طريقي من المدرسة إلى المنزل ذات مرة، سمعت رجلا يقول سأقتلك. فأسرعت الخطى.. ولكني شعرت بالارتياح عندما وجدته يتحدث في هاتفه الجوال.. لا بد أنه كان يهدد شخصا آخر عبر الهاتف».
تقول ملالا: «رغم أنني كنت طالبة في الصف الخامس في عام 2009، فإنني قررت نقل مخاوف الطالبات إلى العالم الخارجي. ولذلك السبب، أرشدني أبي إلى إرسال يوميات إلى (بي بي سي) باسم مستعار (غول ماكاي). وكنت أرسل موضوعات منتظمة إلى (بي بي سي) تعكس مشاعر زميلاتي وجاراتي اللاتي يعانين الإرهاب».
كذلك عبرت ملالا عن معاناة النازحين بعد أن انتقلوا إلى شانجلا عندما شنت الحكومة عملية عسكرية لتطهير سوات من المسلحين. وأشارت ملالا: «كنت مذعورة بما يكفي عندما شاهدت صور الأجساد المعلقة في سوات. ولكن، كان قرار منع الفتيات من الذهاب إلى المدرسة صادما، فقررت الوقوف ضد قوى الرجعية».
وأضافت: «كان من المؤلم لي ولزملائي أن نسمع أن مدرستنا قد تغلق أبوابها، وأنه لن يكون من المسموح لنا مواصلة التعليم».
وحتى ذلك الحين، كانت ملالا تخفي هويتها كمدونة وناشطة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن، سريعا ما أخلى الجيش الباكستاني وادي سوات من طالبان، وكشفت وسائل الإعلام الباكستانية، في موضوعاتها الإخبارية عن سوات، عن هوية المُدوِنة الصغيرة. تحولت ملالا على الفور إلى شخصية شهيرة، تجري معها الصحف والقنوات التلفزيونية المحلية والدولية الحوارات. وجرى منحها الجوائز.
كان الجيش الباكستاني مسيطرا تماما على وادي سوات، وكان يجوب كل شبر في الوادي. كانت هناك احتفالات وأمل في المستقبل. وفي وسط البهجة العارمة، نسي الجميع أن طالبان قد تكون منيت بهزيمة عسكرية، ولكنها لا تزال تحتفظ بالقدرة على إحداث اضطرابات في الحياة المدنية.
ولكن، كان هناك عدد قليل من الرجال في الوادي ظلوا يستشعرون الخطر. أحد هؤلاء هو ضياء الدين يوسف زاي، والد ملالا. صرح ضياء الدين يوسف زاي لصحيفة «الشرق الأوسط» في أغسطس (آب) عام 2010، أثناء مقابلة معه في فناء المدرسة الخاصة التي يديرها بسوات، بأن «عمليات القتل المستهدفة تضرب أساس عملية إعادة تأهيل المجتمع في سوات. كانوا (طالبان) يقتلون الشخصيات البارزة، في محاولة لبث الخوف في قلوب الناس العاديين».
جدير بالذكر أن والد ملالا شخصية بارزة في حركة «سوات قومي جيرغا» السلمية الأصلية التي كانت على مدار تاريخها ترفض صعود طالبان في الوادي. يمكن وصف حركة السلام بأنها موالية بشدة للجيش، حيث تمتعت بدعم من قادة الجيش المتمركزين في سوات منذ بدء الاضطرابات بالوادي.
جرت مقابلة بين محرر «الشرق الأوسط» مع ضياء الدين يوسف زاي في أغسطس عام 2012 داخل مدرسة البنين التي يديرها في مدينة مينغورا المزدحمة. وكان يشعر بقلق شديد بسبب مقتل زملائه في حركة السلام، وكان يرى أن سوات لم يتخلص من وجود طالبان على نحو نهائي. وقال في جزء من حديثه الطويل مع الصحيفة: «لا يمكن أن تكون هناك أي عمليات لإعادة البناء في ظل استمرار عمليات القتل المستهدف».
في الشهر الماضي، اعتقل الجيش الباكستاني المتهمين بالاعتداء على ملالا يوسف زاي في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2012 في طريقها إلى المدرسة انتقاما من حملتها للدفاع عن حق الفتيات في المساواة في التعليم. أصيبت ملالا يوسف زاي بجروح خطيرة جراء عملية الاغتيال، ولكن يقال إن حياتها في الوقت الحالي لم تعد في خطر. فقد نجح الأطباء في إجراء عملية لملالا يوسف زاي واستخرجوا رصاصة من كتفها. ولكنهم قالوا إنها لم تزل في حالة حرجة، حيث صرح أحد الأطباء المشاركين في العملية: «لقد استخرجنا الرصاصة. ولكنها تعاني إصابة في الرأس وحالتها ما تزال خطيرة». يقول محللون سياسيون إن محاولة اغتيال ملالا يمكن أن توصف بأنها حادث نادر توحد خلاله الشعب الباكستاني بأسره، حيث أدان الجميع الاعتداء وظلوا يدعون من أجل حياة ملالا.
ولكن، تمزق هذا الإجماع على الفور بعد أن غادرت ملالا باكستان مع أسرتها متجهة إلى بريطانيا حيث استقرت، والتحقت بمدرسة محلية في إنجلترا. بدأت وسائل الإعلام الغربية تسليط تغطية إعلامية موسعة عليها وبدأت العواصم الغربية منحها جوائز الشجاعة. نتيجة لذلك، بدأت وسائل الإعلام اليمينية في باكستان توجيه انتقادات قوية ضدها لعملها لمصلحة القوى الغربية. وازدادت الانتقادات بعد أن صدر كتابها (وهو نوع من السيرة الذاتية) في أكشاك بيع الكتب، الذي ناقشت فيه قضايا دينية واجتماعية مختلفة تواجه الشعب الباكستاني. قال أوريا مقبول جان، المحلل التلفزيوني وأحد أشد منتقدي ملالا يوسف زاي: «في هذا الكتاب، أبدت عدم احترام المشاعر الدينية والثقافية للمجتمع المسلم.. لن ألومها، هذا الكتاب ليس من تأليفها على أي حال».
قبل أن تتعرض ملالا لاعتداء من طالبان، كانت منشغلة في توجيه انتقادات قوية للحركة ووسائلها الوحشية، وذلك في لقاءاتها الإعلامية وفي جزء من أنشطتها الاجتماعية. وفي الوقت الحالي، تطرح وسائل الإعلام الباكستانية وكذلك النشطاء المجتمعيون والسياسيون سؤالا: «لماذا لم توفر الحكومة تأمينا لـ(ملالا) رغم أنها اكتسبت شهرة عالمية بسبب انتقاداتها العلنية للمسلحين، وخاصة نهجهم تجاه تعليم الفتيات؟!».
كتب وسيم أحمد شاه الصحافي المقيم بسوات: «تضاعفت التهديدات التي تستهدف حياتها بعد ديسمبر (كانون الأول) عام 2011، عندما حصلت على جائزة السلام الوطني الأولى من رئيس الوزراء في ذلك الحين يوسف رضا جيلاني. ورغم احتفاء مسؤولي الحكومة بالخدمات التي تسديها ملالا للتعليم والسلام، فإنه لا أحد منهم لاحظ أنها ستحتاج حينها تأمينا خاصا».
يقول محللون إعلاميون إن صعودها المكوكي إلى الشهرة لا يرجع إلى محض المصادفة، بل كان بسبب كفاحها وآرائها الصريحة المتعلقة بما حدث في وادي سوات وكيف ألحقت طالبان ضررا بقطاع التعليم بتدمير عشرات من المدارس.
ظهرت ملالا لأول مرة عبر شاشات تلفزيونية مختلفة في مطلع عام 2009. كان عمرها في ذلك الوقت 11 سنة عندما جرى التوقيع على اتفاق سلام بين الحكومة الباكستانية وطالبان في فبراير (شباط) 2009. وكانت، مثل والدها ضياء الدين، تؤيد الاتفاق وتأمل أن يساعد على استعادة السلام في وادي سوات.
بيد أن آمال ملالا وملايين غيرها تلاشت عندما لم يضع المسلحون أسلحتهم، ولكنهم اقتحموا منطقة بونر المجاورة وضاعفوا من أنشطتهم في مناطق ملاكند ودير لور. ومثل آخرين في سوات، اضطرت ملالا وأسرتها إلى النزوح. وفي وقت لاحق، جرى الكشف عن أن يوميات شهيرة تنشر على موقع خدمة «بي بي سي الأردية»، كانت بقلمها ولكن باسم مستعار. وفي تلك اليوميات، كانت تكتب باسم غول ماكاي، حيث كشفت بوضوح عن الحالة الذهنية التي كان فيها مئات وآلاف من الطالبات أمثالها أثناء حكم طالبان لوادي سوات.
في الوقت الحالي، تخضع بلدة ملالا يوسف زاي بالكامل لسيطرة الجيش الباكستاني وتم طرد الإرهابيين كلية من هناك. ولكن، لا يزال الخوف من عمليات القتل المستهدفة للشخصيات البارزة المعارضة لطالبان يخيم في الأفق. لهذا السبب، عائلة ملالا غير مستعدة لإعادتها إلى باكستان.
ولكن، تجد ملالا بعض السلوى، حيث يقف إلى جانبها الجيش الباكستاني - أقوى مؤسسة في باكستان. وكان المتحدث العسكري الميجور جنرال عاصم باجوا، أول من هنأها بفوزها بجائزة نوبل، حيث كتب الميجور جنرال باجوا في تدوينة له على موقع «تويتر»: «تهانينا، أصبحت ملالا ثاني باكستانية تفوز بجائزة نوبل. جميع الباكستانيين، فيما عدا الإرهابيين، يريدون أن يذهب أطفالهم إلى المدرسة».
