محكمة أميركية تسمح لمسؤول سابق في البيت الأبيض بالمثول أمام الكونغرس

ترمب يعدّ لاستئناف الحكم لـ«حماية الرؤساء المستقبليين»

ترمب لدى توقيعه قراراً حول السكان الأصليين المفقودين في البيت الأبيض أمس (رويترز)
ترمب لدى توقيعه قراراً حول السكان الأصليين المفقودين في البيت الأبيض أمس (رويترز)
TT

محكمة أميركية تسمح لمسؤول سابق في البيت الأبيض بالمثول أمام الكونغرس

ترمب لدى توقيعه قراراً حول السكان الأصليين المفقودين في البيت الأبيض أمس (رويترز)
ترمب لدى توقيعه قراراً حول السكان الأصليين المفقودين في البيت الأبيض أمس (رويترز)

اتهم الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وسائل الإعلام بالمبالغة في قراءة حكم المحكمة الفدرالية القاضي بمثول محامي البيت الأبيض السابق دون مكغان أمام الكونغرس لتقديم إفادته في إجراءات العزل.
وقال ترمب في سلسلة من التغريدات، أمس (الثلاثاء)، إن «ذئاب واشنطن ووسائل الإعلام الكاذبة تبالغ في قراءة قرار المحكمة إرغام أشخاص على المثول أمام الكونغرس». وتابع ترمب: «إنني أعارض هذا القرار من أجل الرؤساء القادمين وللحفاظ على موقع الرئاسة. ولولا هذا الأمر، لكنت رحّبت بتقديم الأشخاص إفادتهم أمام الكونغرس. إن دون مكغان محامٍ بارع، وهو قال إنني لم أرتكب أي خطأ. جون بولتون هو شخص وطني وهو يعلم أنني جمّدت المساعدات لأوكرانيا لأنها تُعدّ بلداً فاسداً».
وقال ترمب عن سبب تجميد المساعدات: «أردت أن أعرف لماذا لم تسهم البلدان الأوروبية في هذه المساعدات. أنا أرحب بأن يقدم كل من مايك بومبيو وريك بيري وميك مولفاني وآخرون إفاداتهم خلال إجراءات العزل المزيّفة. لكنّ هذا سيهدد سلطات الرؤساء المستقبليين. ما يحصل لي يجب ألا يحصل لرئيس آخر».
بدوره، أكّد وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو أنه مستعدّ للإدلاء بإفادته أمام الكونغرس عندما يكون الوقت مناسباً. وقال بومبيو في مؤتمر صحافي عقده في وزارة الخارجية يوم الثلاثاء: «عندما يحين الوقت فكل الأمور الجيدة تتحقق»، وذلك في إجابته على سؤال أحد الصحافيين حول مدى استعداده للإدلاء بإفادته أمام لجان الكونغرس في إطار التحقيق بملف العزل.
جاء تصريح بومبيو مباشرة بعد تغريدة للرئيس الأميركي قال فيها إنه يرحّب بتقديم كل من بومبيو ووزير الطاقة ريك بيري وكبير موظفي البيت الأبيض ميك مولفاني لإفاداتهم أمام الكونغرس. إلا أن ترمب قال في الوقت نفسه إنه يحاول تجنب ذلك كي لا يؤذي الرؤساء المستقبليين للولايات المتحدة.
وكان الديمقراطيون أعربوا أكثر من مرة عن رغبتهم في استجواب بومبيو وبيري على وجه التحديد، وذلك بعد إفادات قدمها عدد من الشهود أمام لجنة الاستخبارات في مجلس النواب تشير إلى دورهما الكبير في الملف الأوكراني. أبرز هؤلاء الشهود كان السفير الأميركي لدى الاتحاد الأوروبي غوردون سوندلاند الذي أكد أن بومبيو كان على اطلاع بكل التفاصيل المرتبطة بأوكرانيا والتحقيقات، وأنّه، أي سوندلاند، حرص شخصياً على إعلام كل من بومبيو ومجلس الأمن القومي بتفاصيل الملف، إضافة إلى التحديات التي واجهها في تعاطيه مع محامي الرئيس الأميركي الخاص رودي جولياني في هذا الملف.
بومبيو الذي تجنب في المؤتمر الصحافي الإجابة عن أسئلة متعلقة بإجراءات العزل، قال في الوقت نفسه إن وزارة الخارجية ملتزمة بإصدار الوثائق التي يطلبها الكونغرس، ما دام القانون الأميركي ينص على ذلك.
مما لا شكّ فيه أن إفادة بومبيو، في حال قدمها، سوف تؤثر بشكل كبير على طموحاته المستقبلية بالترشح لمنصب عضو في مجلس الشيوخ عن ولاية كنساس.
فرغم نفي بومبيو لنيته الاستقالة من منصبه والترشح، فإن الجمهوريين في الكونغرس لم يخفوا تشجيعهم له على خوض السباق الانتخابي. وقد قال الرئيس الأميركي في مقابلة مع «فوكس نيوز» إنه سيدعم بومبيو في حال قرر الترشح لهذا المقعد.
موضوع آخر قد يؤثر سلباً على مستقبل بومبيو السياسي هو تأكيد مسؤولين في الخارجية الأميركية أن وزير الخارجية رفض الدفاع عن السفيرة الأميركية السابقة في أوكرانيا ماري يوفونوفيتش التي تعرضت لحملة واسعة لتشويه سمعتها. وقد أعرب الديمقراطيون في الكونغرس عن غياب ثقتهم بشكل كامل بوزير الخارجية الأميركي الذي فشل في الدفاع عن موظفيه، على حد قولهم.
الرجل الآخر الذي قد يضطر للإدلاء بإفادته هو وزير الطاقة ريك بيري، الذي أظهرت جلسات الاستماع الأخيرة ضلوعه في عدد من المحادثات المتعلقة بأوكرانيا وبشركة بارزما التي دفعت الرئيس الأميركي باتجاه فتح تحقيق بممارساتها.
وقد أعلنت وزارة العدل الأميركية، أمس، عن نيتها استئناف الحكم الذي أصدرته محكمة فدرالية أميركية، وأمرت بموجبه محامي البيت الأبيض السابق بالمثول أمام الكونغرس. وينص الحكم الذي أصدرته القاضية كنتاجي جاكسون، يوم الاثنين، على أن مكغان لا يمكنه الاختباء وراء ادّعاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أن لديه الحصانة الكاملة، وليس ملزماً بالحديث مع المحققين في اللجنة القضائية في مجلس النواب.
وقالت القاضية جاكسون في نص حكمها إن «الرئيس ليس فوق القانون»، وإن «المسؤولين الحاليين والسابقين في البيت الأبيض لديهم ولاء للدستور الأميركي». وتسعى وزارة العدل لاستئناف الحكم ومنع مكغان من الإدلاء بإفادته، في محاولةٍ منها لتجنب انعكاس هذا القرار على بقية الموظفين الحاليين والسابقين في البيت الأبيض، أمثال جون بولتون مستشار الأمن القومي السابق، وميك مولفاني كبير موظفي البيت الأبيض بالإنابة.
هذا وقد قال رئيس اللجنة القضائية في مجلس النواب جارولد نادلر، بعد إصدار الحكم: «يسعدني أن المحكمة أقرت بأن إدارة ترمب ليست لديها صلاحية منع شهود مهمين من الإدلاء بإفاداتهم أمام مجلس النواب خلال إجراءات العزل».
ويسعى الديمقراطيون إلى الحديث مع مكغان لمساءلته حول إفادته التي قدمها إلى المحقق الخاص روبرت مولر، والتي قال فيها إن ترمب طلب منه مرتين طرد مولر، ومن ثم طلب منه نفي التقارير الإعلامية التي تحدثت عن هذا الأمر.
ويقول الديمقراطيون إن إفادة مكغان ستقدم لهم دليلاً على أن ترمب حاول عرقلة العدالة، ضمن تحقيقهم في عزله.
وكان ترمب قد أكد أن دعم الأميركيين إجراءات عزله يتراجع بشكل جذري. وغرّد ترمب، يوم الاثنين: «إن استطلاعات الرأي تشير إلى تراجع دعم الأميركيين للعزل ليصل إلى 20% في بعض الاستطلاعات. على الديمقراطيين العودة إلى العمل فوراً وتمرير مشاريع القوانين العالقة في الكونغرس». ووصف ترمب إجراءات العزل بغير العادلة وغير المسبوقة.
يأتي هذا فيما يستعد الديمقراطيون للمرحلة القادمة من إجراءات العزل، فمن المتوقع أن تتحول الأنظار إلى اللجنة القضائية في مجلس النواب، التي ستستلم الملف من لجنة الاستخبارات بعد استجوابها للشهود في جلساتها العلنية. لكن قبل انتقال الملف إلى اللجنة القضائية، ستصوت لجنة الاستخبارات على تقريرها الخاص الذي يتم تحضيره حالياً بخصوص ملف العزل.
رئيس لجنة الاستخبارات آدم شيف، لم يستبعد احتمال عقد المزيد من جلسات الاستماع في حال موافقة شهود جدد على الإدلاء بإفاداتهم.
وقال شيف يوم الأحد، في مقابلة مع محطة «سي إن إن»: «لم نغلق الباب كلّياً على احتمال عقد المزيد من جلسات الاستماع العلنية أو المغلقة».
يأتي هذا التصريح بعد صدور عدد من التقارير الجديدة التي قد تورِّط بعض الشخصيات الأخرى المقربة من الرئيس، أبرزها تقرير صادر عن محطة «إيه بي سي» مفاده أن شيف لديه تسجيلات لليف بارناس أحد شركاء محامي الرئيس الأميركي الخاص رودي جولياني، تفصّل جهود ترمب وجولياني لإقناع الحكومة الأوكرانية بفتح تحقيقات تخدم أجندة الرئيس السياسية، حسب التقرير.
وعلى ما يبدو فإن بارناس، وهو شريك سابق لجولياني تم القبض عليه بتهمة ارتكاب مخالفات متعلقة بتمويل الحملات الانتخابية، قدم تسجيلات صوتية ومرئية للجنة الاستخبارات تحتوي على محادثات بين ترمب وجولياني.
وقال محامي بارناس، جوزيف بوندي في بيان: «السيد بارناس أكّد في السابق أنه يرغب بالتعاون مع لجان التحقيق وتقديم معلومات مهمة لإحقاق العدالة وعدم عرقلة التحقيق».
وإضافة إلى موضوع التسجيلات، قال بوندي للصحافيين إن وكيله مستعد لإبلاغ المحققين باجتماع عقده كبير الجمهوريين في لجنة الاستخبارات ديفين نونيز، مع المدعي العام الأوكراني السابق للدفع باتجاه الحصول على معلومات تضر بنائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن.
وأكّد بوندي: «لقد علم السيد بارناس من المدعي العام السابق فيكتور شوكين أن نونينز التقى معه في فيينا ديسمبر (كانون الأول) الماضي».
وقد ثارت ثائرة نونيز لدى سماع هذه الاتهامات وتوعد بمقاضاة كلاً من شبكة «سي إن إن» وصحيفة «الدايلي بيست» لنشرهما هذا الخبر. وقال نونيز لشبكة «فوكس نيوز»: «من غير المقبول التعاون مع شخص تمّت إدانته بتهم ارتكاب جرائم فدرالية جديّة، وذلك بهدف بناء نظرية يتم نشرها عبر وسائل الإعلام لتشويه سمعة عضو في الكونغرس». وذلك في إشارة إلى أن السلطات الأميركية أوقفت الشهر الماضي كلاً من بارناس وإيغور فرومان، وهما رجلا أعمال أجنبيان مقرّبان من جولياني، وذلك بتهمة خرق قواعد تمويل الحملات الانتخابية.
كما ارتبط اسم كل من بارناس وفرومان بحملة التشهير التي تعرضت لها السفيرة الأميركية السابقة في أوكرانيا ماري يوفونوفيتش.
مما لا شكّ فيه أن هذه التقارير سوف تعقّد من مهمة الجمهوريين في الدفاع عن ترمب، وقد رجّحت مصادر في الكونغرس أن يكون الجمهوريون بصدد تحضير تقريرهم الخاص في لجنة الاستخبارات لمواجهة تقرير الديمقراطيين.
ويسعى الديمقراطيون إلى نقل ملف العزل إلى مجلس الشيوخ قبل نهاية العام الحالي. فبعد تصويت لجنة الاستخبارات على تقريرها ونقل الملف إلى اللجنة القضائية التي ستكتب بنود العزل، يصوت مجلس النواب للموافقة على هذه البنود، وفي حال موافقة الأغلبية البسيطة في المجلس على بنود العزل، ينتقل الملف إلى مجلس الشيوخ الذي سيجري محاكمة رسمية للرئيس الأميركي.
وقد رحّبت مستشارة الرئيس الأميركي كيلي إن كونواي، بمحاكمة ترمب في مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون. وقالت كونواي لشبكة «سي بي إس» يوم الأحد: «الدفاع سيصبح هجوماً في حال حصول المحاكمة في مجلس الشيوخ». وتابعت كونواي: «إن الديمقراطيين المسؤولين عن جلسات الاستماع لا يمثلون الولايات المتأرجحة. ليست هناك قابلية لعزل الرئيس وخلعه من الرئاسة».
وتشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أنه وعلى الرغم من أن غالبية الأميركيين يؤيدون إجراءات العزل فإن عدداً قليلاً منهم يدعمون خلع الرئيس من منصبه. وقد أشار استطلاع للرأي أجرته جامعة ماركيت في ولاية ويسكنسون، والتي تعد مهمة في الانتخابات الرئاسية، إلى أن 40% من الناخبين في تلك الولاية يدعمون عزل الرئيس وخلعه، فيما يعارض 53% منهم هذه الإجراءات.
هذا ويأمل الديمقراطيون أنه من خلال انتقال ملف العزل إلى مجلس الشيوخ فإن المجلس سيتمكن من الحصول على إفادات شهود رفضوا الامتثال أمام مجلس النواب، أمثال المدير السابق لمجلس الأمن القومي جون بولتون، ووزير الخارجية مايك بومبيو، ووزير الطاقة ريك بيري، إضافة إلى كبير موظفي البيت الأبيض ميك مولفاني. ويعوّل الديمقراطيون على أن ترؤس كبير قضاة المحكمة العليا جون روبرتس، لجلسات المحاكمة في مجلس الشيوخ سيُلزم هؤلاء الشهود بتقديم إفاداتهم تحت القسم.
وقد شهدت الأيام الأخيرة محادثات مكثفة بين البيت الأبيض والجمهوريين في مجلس الشيوخ لتنسيق استراتيجية موحدة لجلسات المحكمة. وعلى الرغم من عدم بلورة استراتيجية واضحة حتى الساعة فإن الحديث يتمحور حول استمرار جلسات المحاكمة لأسبوعين تقريباً.
هذا التوقيت قد يعني تشابك تواريخ جلسات المحاكمة مع بدء التصويت في الانتخابات التمهيدية الأميركية التي تبدأ في شهر فبراير (شباط)، في عدد من الولايات الأميركية. ويتخوف البعض من أن ضرورة وجود عدد المرشحين للرئاسة الأميركية عن الحزب الديمقراطي في جلسات المحكمة سيؤثر على حظوظ هؤلاء بالفوز. وأبرزهم إليزابيث وارن وبيرني ساندرز وكامالا هاريس وكوري بوكر وغيرهم.
وتجدر الإشارة إلى أنه في حال برّأ مجلس الشيوخ ترمب، فإنه سيكون الرئيس الأميركي الأول الذي سيواجه الناخبين الأميركيين مباشرةً بعد محاكمة العزل. فعلى عكس الرئيسين السابقين بيل كلينتون وريتشارد نيكسون، سيخوض ترمب معركة رئاسية محتدمة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، يراها البعض بمثابة محاكمة شعبية له في حال لم يعزله مجلس الشيوخ.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟