معرض الكويت للكتاب... من دون جدل مع الرقابة ونجاح «عالماشي»

ندوات كسرت حاجز الصرامة وخلّصت الجمهور من حرج التسمّر على المقاعد

جانب من معرض الكويت الدولي للكتاب
جانب من معرض الكويت الدولي للكتاب
TT

معرض الكويت للكتاب... من دون جدل مع الرقابة ونجاح «عالماشي»

جانب من معرض الكويت الدولي للكتاب
جانب من معرض الكويت الدولي للكتاب

في الندوات والمحاضرات التي تقام داخل الأروقة الممتدة على جانبي أجنحة معرض الكتاب الـ44 المقام حالياً في الكويت، لا يضطر الجمهور إلى الالتزام بالقواعد الصارمة والجدية التي تفرضها عادة الندوات والمحاضرات الثقافية التي تقام في المؤسسات والأندية الثقافية، ولا يضطر الزائر تلك الندوات إلى أن يتسلل على استحياء من قاعة الندوة إن لم تعجبه أو إن شعر بالملل من موضوعها، ولا أن يمثّل بأن اتصالاً جاءه فجأة فيضع الهاتف الجوال على أذنه ليخرج مسرعاً دون عودة، ولا أن يتسمّر طوال مدة الندوة في مقعده...
باختصار لقد ابتكر عدد من النشطاء الثقافيين وأصحاب الملتقيات غير الرسمية طريقة محببة وعفوية لحضور هذه الأنشطة التي أصبحت توصف بالجامدة والرتيبة وحتى المملة أحياناً.
فهنا في هذه الأروقة تقام عشرات الندوات والمحاضرات في وقت واحد بصالات صغيرة ومتلاصقة ومفتوحة على الجمهور ومن دون أبواب، وبالتالي فأنت تتخلص من نظرات الحاضرين بجوارك في الندوات الرسمية الذين يرمقونك بشزر إن تحركت في مقعدك بحجة أنهم يركزون على كلام المحاضر.
في هذا الشكل الجديد من الندوات الذي يمكن أن نطلق عليه اسم «ندوات عالماشي (Takeaway)» يستطيع الزائر معرض الكتاب أن يتنقل بارتياح من ندوة إلى أخرى دون حرج، متخيراً الموضوع الذي يعجبه، حيث يقوم النشطاء الثقافيون بعرض بضاعتهم الثقافية في الأجنحة وسط أصوات المارة ونداءات الميكروفونات التي تعلو أصواتها معلنة عن حفلات توقيع الكتب في أجنحة أخرى، بل إن بعض الزائرين يكتفي بالوقوف دقائق أمام تلك القاعات الصغيرة ليستمع إلى جزء من موضوع الندوة فإن أعجبه الموضوع دخل وانضم إلى الحاضرين، وإن لم يعجبه انصرف إلى ندوة أخرى.
كذلك، تراجع الجدل المعتاد بشأن أزمة الكتب الممنوعة مع الرقابة في الكويت، وبعيداً عن عدد الكتب التي رفع عنها القيد، فإن عدداً كبيراً من الكتب المهمة وجد طريقه إلى أرفف العرض، وبالتالي خفت جدل الشكوى من الرقابة المتكرر كل عام.
الدكتور عايد الجريد، أكاديمي في جامعة الكويت، وهو أحد مبتكري هذا النوع من الندوات، وهو من مؤسسي ما يسمى «ملتقى المثقفين»، حيث دأب هذا الملتقى على إقامة مثل هذه الندوات السريعة إلى أن أثمر بشكل حقيقي في معرض الكتاب الحالي، كانت الفكرة غريبة في بدايتها، وكان الجمهور قليلاً قياساً بما شاهدناه في معرض الكتاب الحالي. يتحدث الدكتور الجريد لـ«الشرق الأوسط» عن مشروعه هذا قائلاً: «يعدّ مشروع المثقفين التطوعي أحد المشاريع البارزة في دولة الكويت، والذي أنشئ بقرار من وزارة الشؤون الاجتماعية عام 2016، وتمكن من استضافة نحو 220 مثقفاً.
ويتبع ملتقى المثقفين آلية جديدة في عمل الندوات من خلال معرض الكتاب تعتمد على الدعوة المفتوحة للجمهور، ولكن قبل ذلك ينشر الملتقى برنامجه في وسائل التواصل الاجتماعي لمن يود معرفة اسم المحاضر والموضوع الذي سوف يقدمه، إلا إن الاعتماد الأكبر يكون على الجمهور العابر بين أروقة الصالات بشكل تلقائي ومن دون موعد مسبق».
وحول جدوى مثل هذه الندوات «السريعة» يقول لنا الشاعر سالم الرميضي: «من البديهي أولاً أن نقر بأن لكل زمن فلسفته الخاصة في التعامل مع الأشياء، فلسفة في لغة التفاهم، ولغة التواصل، وأسلوب الوصول إلى المتلقي، وأسلوب عرض المعلومات أو الأفكار.
فالعمل بنظام غير صالح لزمان ومكان لا يتناسبان مع طريقة العرض، سيكون خللاً في تنظيم العرض نفسه وليس في المتلقي. واستناداً إلى هذا أعتقد أن الندوات القصيرة التي تبدأ مما بين الـ15 دقيقة ونصف الساعة تقريباً، في الأماكن المزدحمة كمعارض الكتب وغيرها، لها أنجع تأثير وأفضل أسلوب للوصول؛ أولاً لأن المتلقي موجود أصلاً في المكان، وأنت تريد استقطابه إلى عندك، فيكون عنوان الندوة جاذباً، واسم الضيف كذلك، والمحتوى. فإذا اجتمعت هذه الأمور وكان المتلقي موجوداً في المكان بشكل طبيعي، فليس هنا من الحكمة أن تقدم ندوة طويلة في ساعة أو ساعتين، والمتلقي أصلاً لم يكن آتياً من أجل هذه الندوة؛ وإنما أراد محطة يتثقف فيها ثم يقوم ليكمل جولته في المعرض.
لذلك فالندوة الثقيلة يؤتى إليها في مكانها؛ كالروابط الأدبية والجمعيات الثقافية، أي الأماكن المخصصة لعقد مثل تلك الندوات الفكرية الثقيلة التي يسميها بعضهم (تقليدية)، بينما الهدف عند رواد معارض الكتب ليس الندوة في حد ذاتها؛ وإنما الاطلاع على الكتب، لذلك فأنا أؤيد بشدة أن تكون الندوات أقصر وقتاً».
مهند المسبح، أحد المثقفين من رواد المعرض الذي كان يتنقل بين الندوات، له رأي في هذه المحاضرات القصيرة السريعة، فيقول: «باعتقادي أن الندوات السريعة المقامة على جانب معرض الكويت الدولي للكتاب تعد تطوراً لافتاً وتستحق الإشادة من ناحية أنها تسد فجوة ناجمة عن العزوف الواضح عن المشاركة بالندوات التقليدية الطويلة والمرهقة أحياناً للحضور.
وبالتالي؛ فإن توافر المنصات الحديثة عبر اللقاءات والندوات على جانب المعارض والفعاليات يعد إضافة قيّمة ومتطورة تواكب العصر الحديث والسريع؛ وتكون أكثر جاذبية للراغبين في الاستزادة من مصادر معلومات ذات جودة وتبادلها وتداولها ونقاشاتها الثرية».
معرض الكتاب في نسخته الرابعة والأربعين في الكويت لهذا العام، لم يكتف بكسر حواجز صرامة الندوات التقليدية، بل وكسر حاجز الرقابة أيضاً، فقد بدا التساهل أكثر وضوحاً قياساً بالسنوات التي قبلها، كما أن أعداد فئة الشباب المشاركين في فعاليات هذا المعرض بدت أشد غزارة من ذي قبل، وكذلك الجمهور الذي بدأ بالازدياد منذ الرابع والعشرين من هذا الشهر موعد نزول الرواتب.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.