كتاب وفنانون عراقيون في قلب ساحة التحرير

صحيفتان ومكتبة ومسابقة لقصص عن «انتفاضة تشرين»

مكتبة «المدى» في ساحة التحرير
مكتبة «المدى» في ساحة التحرير
TT

كتاب وفنانون عراقيون في قلب ساحة التحرير

مكتبة «المدى» في ساحة التحرير
مكتبة «المدى» في ساحة التحرير

كان للمثقفين العراقيين دور مهم في إدامة الحراك الشعبي الذي دخل شهره الثاني، من خلال مشاركتهم اليومية أو من خلال الفعاليات والنشاطات الثقافية التي أقاموها... وكان لاتحاد الأدباء و«مؤسسة المدى»، وباقي المنظمات الثقافية، نصيب بارز في هذا المجال، فقد نصبت الخيام في قلب ساحة التحرير، وأقامت «الواجهات الثقافية»، لتكون منطلقاً لنشاطاتها.

سمبوزيوم فني
منذ تحول المظاهرات إلى اعتصام مفتوح في ساحة التحرير، أسهم كثير من الفنانين العراقيين، وكذلك طلبة معاهد وكليات الفنون المشاركون في الاعتصام، في رسم جداريات ولوحات على جدران الساحة ونفقها، تترجم الشعارات الوطنية.
يقول الناقد التشكيلي صلاح عباس: «لا توجد أمام المثقف منطقة رمادية، فإما الاصطفاف مع الشعب ومطالبه المشروعة، وإما الاصطفاف مع الحكومة الحالية ونظام المحاصصة. ويبرز اليوم أكثر دور المثقف العراقي، في الوفاء لتاريخ مفعم بالمواقف الثورية والوطنية لأجيال المثقفين من رواد الثقافة العراقية وصانعي مجدها. الفنانون كانوا أول فصيل من المثقفين ساهم في هذا الحراك الجماهيري».
وأقام أكثر من 20 فنانة وفناناً الأسبوع الماضي في ساحة التحرير، سمبوزيوم مباشراً للفن التشكيلي، وقد نفذوا أعمالهم تحت المطعم التركي بنحو 25 متراً، ليبثوا رسالة مفادها: «نشر الحياة والألوان والثقافة بدل الموت والدم في هذه الساحة».
وتمثل اللوحات المعروضة، كما يضيف عباس: «تجسيداً بصرياً لمطالب شباب المظاهرات ضد الفساد والطائفية والتبعية».
أما الفنان التشكيلي فهد الصكر فيقول: «اللوحات المعروضة تعكس تطلع كل فنان وفنانة لمستقبل عراقي، نتمناه جميعاً معافى، كما هي اللوحة الحاضرة بكل ألقها في ساحة التحرير، والتي لها فعلها المؤثر في نفوس الجماهير».
ويرى الفنان ناصر الربيعي، رئيس تحرير جريدة «باليت» التشكيلية، والمشارك النشط في المظاهرات، أنه «بعد أن هيمن السكون لسنوات على ذهنية وروحية الشباب العراقي، انفجر كل الكبت والقهر الاجتماعي بصيغة احتجاجية صارخة. وكان من بين أولئك الفتية كثير من الفنانين الذين لا يملكون مكاناً للتعبير عن فنهم، فاتجهوا إلى الجدران القذرة المحيطة بساحة التحرير والتي يغطيها السواد دوماً مع أنها قلب العاصمة العراقية... فكانت بصماتهم الفنية نوعاً من التغيير الفني للواقع. لقد لخصت الرسوم والخطوط معنى واحداً: (نريد وطناً) من خلال إيصال رسائل واضحة ومباشرة عبر جداريات متنوعة بعضها احتوى نصوصاً كتابية أو صوراً شخصية أو انثيالات بسيطة متجمعة انعكست بشكل مشاهد بصرية. وهذه هي سمات فن جرافيك الشارع الذي يميل إلى طرح هموم الفرد والمجتمع الذي يمر بأزمات سياسية واجتماعية واقتصادية خانقة... كان لحضور هذا المنجز في زوايا المظاهرات إضافة نوعية حملت سمات التعبير الحر المؤثر الذي أسهم بشكل جلي في تعزيز الثقة بروح الانتفاضة السلمية الخلاقة. وهذا المحور في التعبير سيصبح شاهداً على حقبة مهمة ومفصلية بتاريخ الشعب العراقي».

جريدتان وكتب مجانية
كان لـ«مؤسسة المدى الثقافية»، دور بارز في حركة الاحتجاج عام 2011 من خلال حملة الحريات التي نظمتها، وتساهم بشكل فاعل في الحركة الاحتجاجية الجارية الآن، من خلال إصدار جريدة يومية توزع مجاناً في ساحة التحرير حملت اسم «الاحتجاج». وهي تقوم بتغطية نشاطات المتظاهرين ونشر بياناتهم إضافة إلى مقالات لكتاب تسهم في رفع الروح المعنوية للمتظاهرين.
يقول الصحافي علي حسين، مدير تحرير جريدة «المدى» والمشرف على جريدة الاحتجاج: «الصحيفة صدرت بالأيام الأولى لانطلاقة الاحتجاجات في 25 تشرين الثاني (أكتوبر) الماضي، ووزعت في بغداد ومعظم المحافظات... وهي تلقى إقبالاً واسعاً من القراء في ساحات الاحتجاجات وأيضاً في مناطق كثيرة من العراق، حيث يتم طبع كميات كبيرة منها. وستعلن المؤسسة عن مسابقة للقصة القصيرة التي تتناول ما يجري في ساحات الاحتجاج وستطبع القصص الفائزة في كتاب يوزع مع الصحيفة».
كذلك افتتحت مؤسسة «المدى» مكتبة باسم «مكتبة شهداء التحرير» داخل المطعم التركي، أو ما بات يعرف حالياً بـ«جبل أحد». وهذه المكتبة كما يقول إيهاب القيسي، مدير دار نشر «المدى»، هي «مساهمة بسيطة تقدمها المؤسسة إلى المتظاهرين الذين يضحون بأرواحهم من أجل الإصلاح والتغيير، وأبوابها مفتوحة لكل الراغبين في الحصول على الكتب مجاناً، وأيضاً وفرت مكاناً للقراءة، وتقوم المكتبة بتقديم الكتب المجانية، إلى جانب توزيع جريدة (المدى) وملحق (الاحتجاج). وقد رفدنا المكتبة بإصداراتنا وبمختلف العناوين، وبعد يومين بدأت تبرعات الكتب من عدد كبير من المتظاهرين».
بالإضافة إلى ذلك، أصدر عدد من المثقفين جريدة «تكتك»، لتغطية المظاهرات والفعاليات والنشاطات الخاصة بساحة التحرير وسط بغداد وعموم المحافظات العراقية. وجاءت تسمية الصحيفة تيمناً بسائقي عربة «التوك توك» الشباب الذين كان لهم الدور الأبرز في إسعاف المصابين، ونقلهم إلى المستشفيات القريبة، إلى جانب قيامهم بنقل المؤن ومياه الشرب والأدوية والمستلزمات الضرورية إلى المتظاهرين في ساحة التحرير. وهي تمول من خلال التبرعات الخاصة، وتوزع مجاناً.

الكتاب هناك أيضاً
يحضر يومياً إلى ساحة التحرير كثير من الكتاب العراقيين، وبعضهم يمضي ليله هناك، مجسدين فعلاً دور المثقف في مثل هذه اللحظات، التي يسمونها «لحظات تاريخية».
يقول الناقد قحطان فرج الله: «تظل الأسئلة مشتعلة حول دور المثقف ومهمته في المجتمع والدولة، وكيف يتخلص من السلبية والنخبوية التي وُصِف بها على مر حقب تاريخية وثورية كثيرة في العراق. إن مهمة المثقف اليوم مهمة عويصة، وعليه؛ يجب تغيير مساراته كي يخرج من المأزق، فمشكلته الآن لم تعد مع السلطة السياسية، أو الدينية فقط، بل هي أعقد. إنها مع الممانعات من داخل منظومة التفكير نفسها التي لا تزال تجتر التاريخ والتراث وتعيد إنتاجه وتغفل الواقع بكل تعقيداته».
في حين يرى أستاذ الفلسفة في جامعة بغداد وأحد الفاعلين في حركة الاحتجاج الدكتور علي مرهج: «كان لشبابنا الناهض الدور الأمثل في تغيير نمطي سلوكنا ورؤيتنا لعراق السلطة، فقبل الأول من تشرين (أكتوبر) كُنّا نظن أن العراق ذاهب إلى الجحيم، ثم جاءت (الصدمة)، لتنبه العراقيين جميعاً. وما ينبغي لنا الالتفات له والوقوف عنده هو أن الصدمة لإيقاظ العقل العراقي من (سباته الدوغمائي) قد جاءت بفعل وعي داخلي مُفاجئ. كنا نُعامل شبابنا تعاملاً فوقياً، ونستخف بأفعالهم! ولكن هؤلاء الشباب هدموا كل الجدران الكونكريتية للذل والعار الذي يسير بجنباته الساسة (الذيول)، ليجعلوا منهم أذلة يلتحفون بلحاف ادعاء الوطنية».



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.