السياحة البيئية العربية... من التعافي إلى الاستدامة

السياحة البيئية العربية... من التعافي إلى الاستدامة
TT

السياحة البيئية العربية... من التعافي إلى الاستدامة

السياحة البيئية العربية... من التعافي إلى الاستدامة

بين جبال محمية ضانا للمحيط الحيوي، وفي نهاية طريق وعرة جنوب البحر الميت، يحتضن وادي فينان الخلّاب نزلاً بيئياً منعزلاً أقامته الجمعية الملكية الأردنية لحماية الطبيعة وتديره شركة الفنادق البيئية. وقبل أيام قليلة، حصل النزل على الجائزة الذهبية في فئة تخفيض الكربون، ضمن احتفالية الإعلان عن الجوائز العالمية للسياحة المسؤولة التي جرت في لندن. كما اختير كفائز نهائي بين الفائزين الخمسة عشر في فئات الجوائز الست، وحصل بالتالي على المرتبة الأولى عالمياً.
ويمثل النزل منذ افتتاحه سنة 2005 إحدى أهم قصص النجاح العربية في السياحة المستدامة ودعم المجتمع المحلي. فما الذي يجعله يحظى بهذه المكانة على خريطة السياحة البيئية الدولية؟ وما هي آفاق السياحة المستدامة في العالم العربي؟

- نمو سريع ومخاطر أكبر على البيئة
وفقاً لمنظمة السياحة العالمية، بلغ عدد السيّاح الدوليين في سنة 2018 نحو 1.4 مليار شخص. كما شهدت السنة ذاتها نمو الصادرات السياحية بمقدار 4 في المائة، وهو معدل يتجاوز للسنة السابعة على التوالي نمو الصادرات السلعية الذي يبلغ 3 في المائة. وبالنظر إلى هذه الوتيرة السريعة في النمو، فإن التوقع بوصول عدد السياح الدوليين إلى 1.8 مليار سائح سنوياً بحلول 2030 يبدو محافظاً.
وفي مقابل الفرص الواعدة لزيادة أعداد السيّاح، تلوح في الأفق مخاطر «السياحة المفرطة»، بما تحمله من تأثير سلبي على المقاصد السياحية اجتماعياً وبيئياً، خصوصاً عندما تتجاوز قدرتها الاستيعابية. وتعرّف منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة القدرة الاستيعابية بأنها «الحد الأقصى لعدد الأشخاص الذين قد يزورون مقصداً سياحياً في الوقت نفسه من دون التسبب في تدمير البيئة المادية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحصول تناقص غير مقبول في نوعية رضا الزوّار». لكن رغبة بعض الدول في زيادة عوائدها من السياحة يدفعها لتجاوز القدرة الاستيعابية. على سبيل المثال، تم تحديد القدرة الاستيعابية لجزر غالاباغوس بـ12 ألف زائر سنوياً، إلا أن الحكومة الأكوادورية تسمح لـ50 ألف سائح بزيارة هذا الأرخبيل الغني بالأنواع الحية النادرة، وذلك لأسباب اقتصادية.
وعلى الرغم من أن مفهوم السياحة المستدامة، على ما يعنيه من زيارة مكان ما كسائح، ومحاولة إحداث تأثير إيجابي على البيئة والمجتمع والاقتصاد، ظهر منذ نحو نصف قرن، إلا أن تحقيق غايات هذا المفهوم لا تزال موضع نقاش مستمر. من دون سفر لا توجد سياحة، لذلك ترتبط السياحة المستدامة ارتباطاً وثيقاً بالنقل المستدام. وتشهد البصمة الكربونية للسياحة العالمية ارتفاعاً متزايداً سنة بعد سنة، ليس فقط بسبب ازدياد عدد السياح، ولكن أيضاً نتيجة لزيادة متوسط المسافة التي يقطعها السائح سنوياً.
ويقدر بحث نُشر منتصف 2018 في دورية «نيتشر» الخاصة بتغيُّر المناخ، أن البصمة الكربونية العالمية لقطاع السياحة ازدادت خلال الفترة بين 2009 و2013 من 3.9 إلى 4.5 مليار طن مكافئ كربوني، وهذه الانبعاثات السنوية تمثل 8 في المائة من الانبعاثات العالمية لغازات الدفيئة. وتتصدر الولايات المتحدة قائمة الدول الأكثر تسبباً في الانبعاثات المرتبطة بالسياحة نتيجة كثافة الرحلات الداخلية، تليها الصين وألمانيا والهند. وفي الدول الجزرية الصغيرة، مثل المالديف وموريشيوس وقبرص وسيشيل، تشكل السياحة ما بين 30 إلى 80 في المائة من الانبعاثات السنوية الوطنية. ويرى معدّو البحث أن هذه النتائج تشير إلى ضرورة إدراج السياحة ضمن الالتزامات المناخية الدولية، بما فيها اتفاقية باريس. كما تشير إلى أن الدول التي تتطلع إلى توسيع السياحة لتعزيز التنمية الاقتصادية تحتاج إلى النظر في تأثير هذه الصناعة على انبعاثاتها الوطنية وأهدافها المناخية.
ويمكن من خلال اتباع مجموعة من الترتيبات خفض البصمة الكربونية للمنشآت السياحية إلى حد بعيد. ولعل ما يُطبَّق في نزل فينان الأردني يعد حالة نموذجية يمكن اعتمادها في الكثير من مرافق السياحة عربياً وعالمياً. فالنزل، المكون من 26 غرفة تستوعب 60 نزيلاً في الليلة الواحدة، مستقل عن شبكة الكهرباء العامة منذ افتتاحه، وهو يؤمن حاجته من الكهرباء من خلال نظام ألواح كهروضوئية توفر 72 طناً من انبعاثات الكربون سنوياً.
ويعتمد النزل على الإضاءة باستخدام الشموع المصنعة محلياً، مما يوفر فرص عمل إضافية لأهالي المنطقة. كما يستخدم لتجفيف الغسيل الأسلوب التقليدي بالنشر في الهواء الطلق، ويؤمن المياه الساخنة بواسطة ألواح التسخين الشمسية. ويعمل نظام إدارة المياه العادمة وفضلات الطعام العضوية في النزل على تحويل البقايا إلى غاز حيوي يُستخدم في الطهي، في حين تذهب المياه المعالجة لري النباتات.
ويستخدم النزل مخلفات عصر الزيتون كمصدر للطاقة بديل عن الحطب، مما يعني توفير أربعة أطنان من الأشجار سنوياً. ونظراً لوجود النزل في منطقة منعزلة نسبياً، يتم توصيل الطعام إليه مرة واحدة في كل أسبوع، مما يؤدي إلى تخفيض البصمة البيئية للنقل. ومن الواضح أن الترتيبات المتبعة في نزل فينان لا تمثل فقط نجاحاً على المستوى البيئي، بل هي أيضاً نجاح على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، من خلال توفير فرص العمل للأهالي والحفاظ على الموارد.

- البحث عن موطئ قدم بأي ثمن
وفيما يشهد العالم العربي تعافياً في قطاع السياحة، بعد حالة التراجع خلال السنوات الماضية نتيجة غياب الاستقرار تحت تأثير أحداث «الربيع العربي» ونشوب بعض النزاعات، فإن الدول العربية معنية أكثر من غيرها بإعادة النظر في سياساتها، ليكون هذا التعافي قائماً على أسس الاستدامة وحماية الموارد الطبيعية.
ويشير تقرير «تنافسية السياحة والرحلات»، الصادر هذه السنة عن المنتدى الاقتصادي العالمي، إلى حصول تحسن في تنافسية دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اعتباراً من 2017، لا سيما في البلدان العربية شمال أفريقيا. وينسب التقرير هذا التحسن إلى زيادة الأمن والأمان والانفتاح أكثر على العالم ودعم الاستدامة البيئية وتطور بنية النقل الجوي إلى جانب الأسعار التنافسية التي توفرها المنطقة.
وحسب التقرير، تأتي الإمارات في صدارة الدول العربية من حيث التنافسية؛ حيث تحتل المرتبة 33 عالمياً، تليها قطر في المرتبة 51 عالمياً، ثم عُمان في المرتبة 58، فالبحرين ومصر والمغرب والسعودية والأردن وتونس والكويت ولبنان والجزائر واليمن. ويبلغ عدد السياح الدوليين الوافدين إلى المنطقة نحو 85 مليون سائح، ينفقون 85 مليار دولار سنوياً ويوفرون فرص عمل لأكثر من 4.655 ملايين شخص.
وفي إطار تنويع موارد اقتصادها الوطني بعيداً عن الوقود الأحفوري، تسعى الدول الخليجية إلى زيادة عوائدها من قطاع السياحة الدولية وتشجيع السياحة الداخلية. وتتمتع منطقة الخليج بتنوع طبيعي وإرث حضاري يمثلان قيمة مضافة، إلى جانب البنية التحتية المتطورة والموقع الجغرافي المتميز ومناخ الاستقرار وبيئة الأعمال المرنة التي تدفع السياحة قدماً إلى الأمام.
ففي السعودية مثلاً، يهدف برنامج التحوُّل (رؤية السعودية 2030) إلى زيادة مساهمة قطاع السياحة، بحيث تصل عائداته إلى 10 في المائة من الناتج الوطني، مع توفير 1.6 مليون فرصة عمل في سنة 2030. وتعد البلاد أكبر وجهة للمسافرين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، باجتذابها لأكثر من 24 مليون شخص في سنة 2018، وإن كان أغلبهم من زوار المشاعر المقدسة. كما تمتاز بتوفر البنية التحتية المتميزة والأسعار التنافسية. وفيما كانت متطلبات التأشيرة الصارمة تعيق تدفُّق السيّاح، استحدثت السعودية مؤخراً تأشيرة سياحية تتيح للزوار من جميع أنحاء العالم القدوم إليها، وفق ترتيبات أكثر مرونة. وعدا عن الشواطئ والشعاب المرجانية والتنوُّع الطبيعي بين الواحات الصحراوية والجبال، تحتضن السعودية مواقع أثرية مهمّة لم تتم الإضاءة عليها على نحو كافٍ من قبل.
وفيما ينعكس تطوير القطاع السياحي في الدول الخليجية إيجاباً على المحيط الحيوي من خلال دعم إنشاء المحميات الطبيعية والحفاظ على مواقع التراث العالمي، كما في محمية رأس الخور في إمارة دبي التي تعد مقصداً مهماً لهواة مراقبة الطيور المهاجرة، لا سيما طيور الفلامنغو الوردية، فإن الأثر البيئي لا يظهر بشكل صريح في معظم الخطط الوطنية لتطوير هذا القطاع. وتكاد المؤشرات تقتصر على المعايير المرتبطة بالاقتصاد (عدد ليالي إقامة السائح، عدد التأشيرات السياحية، عدد المرشدين السياحين، وغيرها) من دون ربط معلن مع القدرة الاستيعابية للمقاصد السياحية.
وباستثناء المغرب، تأثرت الدول العربية في حوض المتوسط إلى حد كبير بفقدان الاستقرار منذ منتصف 2010، وفقاً لمعطيات منظمة السياحة العالمية والبنك الدولي. وأدت الحرب في سوريا إلى القضاء بشكل تام على قطاعها السياحي في منتصف 2012، بعد نمو كبير في أعداد السياح الدوليين خلال السنوات السابقة. وقد بدأ القطاع السياحي في مصر وتونس مؤخراً يشهد بعض التعافي نتيجة الاستقرار وعودة الأمان.
ويرى تقرير صادر عن الصندوق العالمي للطبيعة سنة 2015، أن منطقة المتوسط تشهد تدفقاً غير مسبوق للسياح. ومن المتوقع خلال السنوات الخمس عشرة المقبلة أن تتوسع الأنشطة المتعلقة بالبحر، بما فيها النقل البحري والرحلات والمأكولات البحرية وغيرها، مما يخلق تنافساً متزايداً على الموارد الطبيعية المحدودة ويؤدي إلى مزيد من الضغط على النظام البيئي المجهد مسبقاً.
ويتطلب تحقيق الاستدامة وحماية البيئة في قطاع السياحة العربية مراجعة شاملة للسياسات القائمة والخطط المستقبلية، تقوم على المنهج الإقليمي، الذي يتيح تنظيم التدفقات السياحية ويعيد توجيهها إلى مقاصد أخرى لا تعاني من مشكلات الاكتظاظ والضغط على النظم البيئية والموارد الطبيعية. كما يجب السعي لتحقيق التكامل مع القطاعات الأخرى مثل الزراعة والحرف اليدوية، للتخفيف من آثار الأزمات، بحيث لا تكون السياحة هي العامل المصيري في ديمومة المجتمعات المحلية، وإنما داعم مهم لمواردها، وهذا يسمح للسياحة بالاستمرار في النمو.
يبقى أن رغبة البلدان العربية في الحصول على موطئ قدم على خريطة السياحة العالمية يجب ألا تتجاهل الحاجة لتعزيز السياحة المستدامة، التي يتمتع فيها الزوّار والمضيفون بعلاقات متوازنة ومحترمة ومثمرة، تقدّر التراث البيئي والإنساني والثقافي الفريد للمنطقة، مع ضمان التنمية الاجتماعية الاقتصادية الشاملة التي تراعي القدرة الاستيعابية للنظم الإيكولوجية، وتعزيز التكامل بين قطاعات الأعمال في المقاصد السياحية.


مقالات ذات صلة

5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025

علوم 5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025

5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025

دعاوى مشروعة للدول الفقيرة وأخرى ارتدادية من الشركات والسياسيين

جيسيكا هولينغر (واشنطن)
بيئة أنثى «الحوت القاتل» الشهيرة «أوركا» أنجبت مجدداً

«أوركا» تنجب مجدداً... والعلماء قلقون

قالت شبكة «سكاي نيوز» البريطانية إن أنثى الحوت القاتل (التي يُطلق عليها اسم أوركا)، التي اشتهرت بحملها صغيرها نافقاً لأكثر من 1000 ميل في عام 2018 قد أنجبت أنثى

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق المَعْلم الشهير كان يميّز الطريق (مواقع التواصل)

«تخريب رهيب» للفيل البرتقالي الضخم و«الآيس كريم» بإنجلترا

أُزيل فيل برتقالي ضخم كان مثبتاً على جانب طريق رئيسي بمقاطعة ديفون بجنوب غرب إنجلترا، بعد تخريبه، وفق ما نقلت «بي بي سي» عن مالكي المَعْلم الشهير.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد جانب من المؤتمر الصحافي الختامي لمؤتمر «كوب 16» بالرياض (الشرق الأوسط)

صفقات تجاوزت 12 مليار دولار في مؤتمر «كوب 16»

يترقب المجتمع البيئي الإعلان عن أهم القرارات الدولية والمبادرات والالتزامات المنبثقة من مؤتمر الأطراف السادس عشر لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (كوب 16).

عبير حمدي (الرياض)
يوميات الشرق تكريم الفائزين الثلاثة ضمن مبادرة «حلول شبابية» بالتزامن مع «كوب 16» (واس)

منصّتان وشركة... «حلول شبابية» سعودية مبتكرة لمختلف التحديات البيئية

لم تكن الحلول التي قُدِّمت في مؤتمر «كوب 16» للقضايا البيئية والمناخيّة الملحّة، وقضايا تدهور الأراضي والجفاف، قصراً على الحكومات والجهات الخاصة ذات الصلة.

غازي الحارثي (الرياض)

فضلات الطيور قد تساعد على التنبؤ بالجائحة القادمة

فضلات الطيور قد تساعد على التنبؤ بالجائحة القادمة
TT

فضلات الطيور قد تساعد على التنبؤ بالجائحة القادمة

فضلات الطيور قد تساعد على التنبؤ بالجائحة القادمة

أفاد باحثون بأن فضلات الطيور قد تساعد على التنبؤ بالجائحة القادمة، إذ إنه مع انتشار فيروس إنفلونزا خطير، هو «إتش 5 إن1»، بين قطعان الأبقار والدواجن في الولايات المتحدة هذا العام، يراقب العلماء الأوضاع لمعرفة ما إذا كان التهديد سيتصاعد.

وأفاد تقرير لشبكة «سي إن إن» بأن مئات الآلاف من الطيور الساحلية المهاجرة تهبط على شواطئ خليج ديلاوير في أميركا؛ لتتغذى على البيض الغني بالبروتين والدهون. وعلى مدار الأسبوع، تضاعف بعض الطيور وزنها استعداداً لاستئناف رحلاتها بين أميركا الجنوبية ومناطق تكاثرها الصيفية في القطب الشمالي. يتوقف هناك ما يصل إلى 25 نوعاً مختلفاً من الطيور كل ربيع. وعدَّ الباحثون أن هذه الطيور كنز ثمين للعلماء الذين يتطلعون إلى وقف الوباء التالي.

وفي هذا الصدد، قالت الدكتورة باميلا ماكنزي، مشيرةً إلى شريكها البحثي، باتريك سيلر: «إنه كنز ثمين هنا». وماكنزي وسيلر جزء من فريق مموَّل من المعاهد الوطنية للصحة في مستشفى (سانت غود) لأبحاث الأطفال والذي كان يأتي إلى الشواطئ القريبة من هنا منذ ما يقرب من 40 عاماً لجمع فضلات الطيور.

والمشروع هو من بنات أفكار الدكتور روبرت وبستر، عالم الفيروسات النيوزيلندي الذي كان أول من فهم أن فيروسات الإنفلونزا تأتي من أمعاء الطيور. ويقول ويبستر، الذي يبلغ من العمر الآن 92 عاماً ومتقاعد ولكنه لا يزال يشارك في رحلة جمع الطيور عندما يستطيع: «لقد أذهلنا الأمر إلى حد كبير. فبدلاً من أن يكون الفيروس موجوداً في الجهاز التنفسي، حيث كنا نعتقد، فإنه يتكاثر في الجهاز المعوي، وكانت الطيور تتبرزه في الماء وتنشره».

وتمتلئ فضلات الطيور المصابة بالفيروسات. ومن بين جميع الأنواع الفرعية المعروفة من الإنفلونزا، تم العثور على جميع الأنواع الفرعية باستثناء نوعين في الطيور. أما النوعان الفرعيان الآخران فقد تم العثور عليهما في الخفافيش فقط.

في أول رحلة له إلى خليج ديلاوير في عام 1985، وجد ويبستر وفريقه أن 20 في المائة من عينات فضلات الطيور التي أحضروها معهم تحتوي على فيروسات الإنفلونزا، وأدركوا أن المنطقة كانت مرصداً مثالياً لتتبع فيروسات الإنفلونزا في أثناء انتقالها بين الطيور على طول مسار الطيران الأطلسي، الذي يمتد بين أميركا الجنوبية والدائرة القطبية الشمالية في شمال كندا. وأفاد التقرير بأن العثور على فيروس إنفلونزا جديد قد يعطي العالم إنذاراً مبكراً بالعدوى القادمة.

وأصبح هذا المشروع واحداً من أطول مشاريع أخذ عينات الإنفلونزا من نفس مجموعات الطيور في أي مكان في العالم، كما قال الدكتور ريتشارد ويبي، الذي تولى إدارة المشروع الذي بدأه ويبستر. ويدير ويبي مركز التعاون التابع لمنظمة الصحة العالمية للدراسات حول بيئة الإنفلونزا في الحيوانات في «سانت غود».

ويوضح ويبي أن التنبؤ بالأوبئة يشبه إلى حد ما محاولة التنبؤ بالأعاصير. ويقول ويبي: «للتنبؤ بالأشياء السيئة، سواء كانت إعصاراً أو جائحة، عليك أن تفهم الوضع الطبيعي الآن. ومن هناك يمكننا اكتشاف متى تكون الأشياء مختلفة، ومتى تغير المضيفين وما الذي يحرّك هذه التحولات».

فيروس يظهر لأول مرة في الأبقار

وقبل بضعة أشهر من وصول فريق «سانت غود» إلى كيب ماي، هذا العام، ظهر فيروس «إتش 5 إن1» لأول مرة في الأبقار الحلوب في تكساس، ولقد أدى اكتشاف أن الفيروس يمكن أن يصيب الأبقار إلى وضع خبراء الإنفلونزا، بمن في ذلك ويبي، في حالة تأهب. لم تنتشر فيروسات الإنفلونزا من النوع أ مثل «إتش 5 إن1» من قبل بين الأبقار.

وتابع العلماء فيروس «إتش 5 إن1» لأكثر من عقدين من الزمان. بعض فيروسات الإنفلونزا لا تسبب أي أعراض أو أعراض خفيفة فقط عندما تصيب الطيور. تسمى هذه الفيروسات إنفلونزا الطيور منخفضة الضراوة. الذي يجعل الطيور مريضة للغاية، يسمى HPAI، وهو يدمر قطعان الطيور التي تتم تربيتها في المزارع مثل الدجاج والديك الرومي. في الولايات المتحدة، يتم إعدام القطعان المصابة بمجرد التعرف على الفيروس، لمنع انتشار العدوى وتخفيف معاناة الطيور.

الإعدامات ليست الحل... الفيروسات تطوِّر نفسها

وهذه ليست المرة الأولى التي يضطر فيها المزارعون الأميركيون إلى التعامل مع إنفلونزا الطيور شديدة العدوى. ففي عام 2014، جلبت الطيور المهاجرة من أوروبا فيروسات «إتش 5 إن8» إلى أميركا الشمالية. وأوقفت عمليات الإعدام العدوانية، التي أسفرت عن نفوق أكثر من 50 مليون طائر، تفشي هذا الفيروس وظلت الولايات المتحدة خالية من فيروسات إنفلونزا الطيور شديدة العدوى لسنوات.

ولكن نفس الاستراتيجية لم توقف انتشار فيروس «إتش 5 إن1»، فقد وصل الفيروس إلى الولايات المتحدة في أواخر عام 2021، وعلى الرغم من عمليات الإعدام لقطعان الدواجن المصابة، فقد استمر الفيروس في الانتشار. وفي العامين الماضيين، طوَّرت فيروسات «إتش 5 إن1» أيضاً القدرة على إصابة مجموعة متنامية من الثدييات مثل القطط والثعالب وثعالب الماء وأسود البحر، مما يجعلها أقرب إلى الانتشار بسهولة بين البشر.

يمكن لفيروسات «إتش 5 إن1» أن تصيب البشر، لكن هذه العدوى لا تنتقل من شخص إلى آخر حتى الآن؛ لأن الخلايا في أنفنا وحلقنا ورئتينا لها مستقبلات مختلفة قليلاً عن الخلايا التي تبطن رئات الطيور، ولكن الأمر لن يتطلب الكثير لتغيير ذلك. فقد وجدت دراسة حديثة نشرت في مجلة «ساينس» أن تغييراً رئيسياً واحداً في الحمض النووي للفيروس من شأنه أن يسمح له بالالتحام بخلايا في الرئتين البشرية، وفق «سي إن إن».

ولم يسبق لفريق كيب ماي أن وجد فيروس «إتش 5 إن1» في الطيور التي أخذوا عينات منها هناك. ولكن مع انتشار الفيروس بين الأبقار في عدة ولايات، تساءلوا: أين قد يكون موجوداً في مكان آخر. هل وصل إلى هذه الطيور أيضاً؟

خطا ماكنزي وسيلر بحذر شديد على الشاطئ الموحل في الربيع الماضي مرتديين أحذية وقفازات وأقنعة للوجه. وكانت جيوبهما مليئة بعشرات المسحات التي استخدماها لاستخراج ذرق الطيور الأبيض الطازج من الرمال ووضعه في قوارير بلاستيكية حشراها بمهارة بين أصابعهما. ثم عادت القوارير إلى صَوَانٍ تم تكديسها بدقة في مبرِّد بيج اللون حمله سيلر على كتفه في أثناء تحركه على طول الشاطئ. وعلى مدار أسبوع، جمع الفريق ما بين 800 و1000 عينة.

سيتم تسلسل أي فيروسات إنفلونزا في العينات -ستتم قراءة الأحرف الدقيقة للرمز الجيني للفيروسات- وتحميلها إلى قاعدة بيانات دولية، وهي نوع من مكتبة مرجعية تساعد العلماء على تتبع سلالات الإنفلونزا في أثناء دورانها حول العالم.

يتمثل هدف الباحثين في فحص العينات في الميدان بسرعة لمعرفة ما إذا كانت تحتوي على فيروسات الإنفلونزا أم لا. كل عام، تحتوي نحو 10 في المائة من العينات التي يحضرونها على فيروسات الإنفلونزا. إذا تمكنت من إرسال العينات الإيجابية فقط إلى المختبر، فيمكن معالجتها بشكل أسرع.

ويخلص الباحثون إلى أن الطيور البرِّية تشكل مستودعاً ناشئاً للفيروس في أميركا الشمالية، وأن مراقبة الطيور المهاجرة تشكل أهمية بالغة لمنع تفشي المرض في المستقبل.

ويقول ويبي وفريقه إنهم يخططون لمواصلة عمليات المراقبة. وفي مايو (أيار)، عندما يشرق القمر المكتمل الأول فوق خليج ديلاوير، سوف يعودون لفعل نفس الشيء مرة أخرى.