فاز القائد العسكري الأسبق ووزير الدفاع السابق غوتابايا راجاباكسا في الانتخابات الرئاسية بجمهورية سريلانكا، متغلباً على منافسه ساجيث بريمداسا، مرشح الحزب الوطني المتحد المحافظ، بفارق يزيد على 10 في المائة من مجموع أصوات الناخبين.
راجاباكسا، وهو الشقيق الأصغر للرئيس الأسبق ماهيندا راجاباكسا، كان مرشح حزب «جبهة الشعب السري لانكية»، ولقد اجتذب أصوات الغالبية العرقية الدينية السنهالية في البلاد بجانب تأييد رجال الدين البوذيين الأقوياء. وبعد هذا الفوز أسند الرئيس المنتخب رئاسة الحكومة إلى شقيقه الرئيس الأسبق.
وللعلم، تشكل الأغلبية السنهالية نحو 74.9 في المائة من سكان سريلانكا. في حين تشكل أقلية التاميل - وهم هندوس - أكبر أقليات البلاد من حيث العدد بنحو 11.1 في المائة من تعداد السكان. ويشكل التاميل الهنود طائفة عرقية متميزة بنسبة 4.1 في المائة من سكان سريلانكا. بالإضافة إلى ذلك، تضم الجزيرة نحو 1.97 مليون مواطن من المسلمين، أو ما يمثل نسبة 5 في المائة من تعداد السكان.
حصلت سريلانكا هذا الأسبوع على أول حكومة يديرها شقيقان عندما قرر الرئيس المنتخب - قبل أيام - غوتابايا راجاباكسا تعيين شقيقه الأكبر والرئيس الأسبق للبلاد ماهيندا في منصب رئيس الوزراء البلاد، ما سيعزز قبضة الأسرة على حكم البلاد. كذلك صدرت قرارات رئاسية بتعيين عدد من أفراد الأسرة في مختلف المناصب على رأس المؤسسات الرئيسية في البلاد مثل شركات الطيران الوطنية، والمؤسسات الحكومية. كما جرى تعيين الأقارب الموثوق في ولائهم في المناصب الدبلوماسية الرفيعة في مختلف العواصم الأجنبية.
الاستقطاب السياسي
في الحقيقة، ما كان فوز غوتابايا راجاباكسا الحاسم مفاجئاً، مع أنه شكل صدمة قوية في وجه الليبراليين في العاصمة كولومبو، لكونه يشكل نظام الحكم الأكثر استقطابا من الناحية الإثنية في سريلانكا. ذلك أنه بينما حظي انتخاب الرئيس الجديد بترحاب كبير من جانب الغالبية السنهالية لم تكن الأقليتان التاميلية والمسلمة في حالة مزاجية تسمح لهما بالاحتفال أو الابتهاج. وهنا تقول الكاتبة الصحافية سودها تشانديران موضحة: «ينسجم فوزه الانتخابي مع السرد الشائع إزاء بلدان الجنوب الآسيوي التي تتحول على نحو تدريجي باتجاه الديمقراطية غير الليبرالية».
المعروف على نطاق واسع أن غوتابايا راجاباكسا كان اليد اليمني لشقيقه، منفذا إزاء ما يصفه أنصاره ومؤيدوه بأنها قضايا الحكم الرئيسية التي تعصف بالأوضاع السياسية في البلاد، مثل الإرهاب، والأوضاع الأمنية الداخلية المتفقدة للاستقرار، والمشاكل الاقتصادية المتفاقمة.
ومن جانبها، ترى الصحافية لاكشمي سوبرامانيوم أنه كان «يلعب على أوتار المخاوف التي تؤرق الناس في أعقاب الهجمات الإرهابية المريعة إبان عيد الفصح السابق في أجزاء من العاصمة كولومبو وفي شرق سريلانكا كذلك. ويومذاك قال إن حكومته ستتعامل مع تلك القضايا الأمنية بكل حزم وقوة. وحقاً لقد أطلق عليه أفراد من عائلته وكوادر حزب جبهة الشعب السري لانكية لقب (المدمّر) إثر بدء سريان الحملة الأمنية العدائية. وكانت الحملة تركز بالأساس على الملفات الأمنية، بعدما قامت إحدى الجماعات الإرهابية المدعومة من تنظيم (داعش) الإرهابي بتنفيذ الهجمات الدموية يوم عيد الفصح خلال العام الحالي في سريلانكا».
وتابعت: «لقد يسرت كل هذه الظروف الأوضاع في سريلانكا لإحياء المشاعر السنهالية القومية البوذية القديمة التي طالما لعبت دور الملاذ الآمن الأخير بالنسبة للسواد الأعظم من الطائفة السنهالية في الدولة - الجزيرة على مدار تاريخها، إثر الاستفادة القصوى والذكية من الفشل الاستخباري الذي أسفر عن وقوع هجمات أحد الفصح في البلاد».
أما الصحافي بونسارا أماراسينغي، فرأى في فوز راجاباكسا في الانتخابات الرئاسية مثيلاً عرقياً دينياً شعبوياً لفوز رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي حقق زعامته السياسية بفضل تصويت الغالبية الهندوسية له. وأردف: «جاءت فترة الولاية الثانية لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في وقت سابق من العام الحالي نتيجة مباشرة لارتفاع النزعة القومية الهندوسية في أفضل أحوالها. وأسفر التصاعد الأخير للنزعات القومية في جميع أنحاء العالم في الآونة الأخيرة عن إثارة المخاوف الحقيقية مجددا بشأن إعادة الفكرة القديمة بالحكومات السيادية المرتكزة على المشاعر القومية الراسخة».
مزيد من الشعبوية السنهالية
ويساور الكثيرون حالياً القلق من أن راجاباكسا والقوميين السنهاليين، سيعملون من دون كلل أو ملل على تنشيط الحملات الداخلية المعادية للأقلية المسلمة مع زيادة عزلة أقليات التاميل في البلاد. فما الذي يعنيه عودة عائلة راجاباكسا للسلطة في البلاد من زاوية التوترات العرقية المحتدمة والطويلة الأمد في سريلانكا؟
تشير الشخصية القومية السنهالية القوية في حملة غوتابايا راجاباكسا الانتخابية، فضلا عن اعتماده الكامل في الفوز على أصوات الطائفة السنهالية تقريباً دون غيرها، مع سياسات شقيقه الأكبر والرئيس الأسبق في إدارة البلاد إبان السنوات العشر التي أمضاها على رأس السلطة بين عامي 2005 و2015، إلى أن التوترات العرقية والدينية المتفاقمة - والتي تزايدت حدتها كثيرا في أعقاب تفجيرات أحد الفصح الدامية - ستستمر وتتصاعد بصورة خطيرة في ظل حكم الرئيس الجديد.
ويخشى كثيرون أن يجلب المشهد السياسي الجديد في سريلانكا طاقات متجددة للحملة طويلة الأمد المتمثلة في تعزيز خطاب الكراهية المناهض للمسلمين في البلاد، وتصاعد أعمال العنف، والمقاطعات الاقتصادية التي تشرف عليها الميليشيات المسلحة التي تزعم الدفاع عن وحماية الديانة البوذية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن تلك الميليشيات ازدهرت وترعرعت أول الأمر بين عامي 2013 و2014 إبان فترة ماهيندا راجاباكسا، عندما تلقت الدعم الكامل من الشرطة المحلية والمخابرات العسكرية. ثم مرة أخرى حين تولى غوتابايا راجاباكسا حقيبة وزارة الدفاع. وكانت أعمال العنف الدموية الأخيرة، مع شهود العيان ومقاطع الفيديو الوثائقية التي تشير بوضوح إلى ضلوع أفراد من الحزب الحاكم في الهجوم على المساجد والمنازل والمتاجر والشركات الإسلامية في أعقاب تفجيرات عيد الفصح في مايو (أيار) من عام 2019 الحالي. ومع أن الرئيس المنتخب نفى مراراً وتكراراً توفير أي دعم حكومي أو رسمي للميليشيات البوذية المتطرفة، فإنه صرح قائلاً إن المسلمين يناصبونهم العداء على نطاق واسع ويعتبرونهم خطراً داهماً على أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية.
الهند والصين وسريلانكا
على صعيد آخر، أدى فوز غوتابايا راجاباكسا في الانتخابات الرئاسية وعودة شقيقه الأكبر الرئيس الأسبق ماهيندا إلى الحلبة ليشغل منصب رئيس الحكومة، إلى دق نواقيس الخطر لدى جانب كبير من محللي السياسات الخارجية في الهند بشأن التداعيات السلبية المحتملة لذلك على العلاقات الثنائية بين الهند وسري لانكا.
إذ تساور كل من الهند واليابان والحكومات الغربية المحتملة المخاوف بشأن احتمالات تعزيز أسرة راجاباكسا الحاكمة علاقاتها الثنائية مع الصين، التي أوضحت خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة تفضيلها للرئيس المنتخب ولحزبه. ولقد تطورت العلاقات الاقتصادية والسياسية ما بين كولومبو وبكين خلال فترة رئاسة شقيقه ماهيندا السابقة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك بناء ثم تأجير الصين الميناء الجديد في مدينة هامبانتوتا السري لانكي.
أيضاً، يشعر منافسو الصين بالقلق بشأن إمكانية استغلال الصين للميناء الجديد في خدمة الأغراض العسكرية الصينية في خاتمة المطاف. وحول هذا الأمر يقول جابين جاكوب، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة شيف نادار الهندية: «ستتمحور الجولة القادمة حول انخفاض وتيرة اللعب السياسي من جانب الصين، مع استمرار اللعب على كل الأحوال. وأتوقع أن يقوم الرئيس السري لانكي الجديد بزيارة الهند عقب زيارته المرتقبة إلى الصين خلال المائة يوم الأولى من ولايته الجديدة. ولكن من المرجح أن الصين، وليست الهند، هي التي ستنال القدر الأكبر من اهتمام الرئيس السري لانكي الجديد». وأردف البروفسور جاكوب: «ربما تعلمت أسرة راجاباكسا الدرس، وأدركت أن هناك عواقب وتداعيات لازمة لرفع البطاقة الصينية في وجه الهند؛ ولذا ليس من المرجح أن يقوم الرئيس السري لانكي الجديد بتغييرات جذرية عاجلة في السياسات الخارجية في الوقت الذي يسعى فيه لاستئناف العلاقات الودية مع الصين».
وفي ظل هذه الخلفية، كان التساؤل المتشكّك الذي يطرح نفسه هو هل ستتخذ سريلانكا المسار الصيني مرة أخرى، وهل ستفعل ذلك على حساب الهند؟
المحلل الأمني آشوك ميثا الذي قال «بدأت مديونية أسرة راجاباكسا لبكين إبان الحرب الماضية عندما رفضت نيودلهي الموافقة على الطلبات المتكرّرة من حكومة كولومبو بالحصول على المعدات العسكرية لمحاربة جبهة نمور التاميل الانفصالية، وكانت الصين وباكستان قد تدخلتا لإنقاذ الموقف لدى حكومة سريلانكا، ويومذاك تهكمت الحكومة الهندية من تقارب سريلانكا مع الصين وباكستان، بينما كانت نيودلهي على استعداد لتوفير الأسلحة غير الفتاكة لحكومة كولومبو من واقع احترامها للدوافع السياسية لدى قيادة ولاية تاميل نادو الهندية ذات الغالبية التاميلية. وكانت التداعيات الاستراتيجية على التحفظ الحكومي الهندي لا تزال قائمة رغم تلاشي تلك القيود. بيد أن القرار الهندي وقتها لم يرق كثيرا لماهيندا راجاباكسا إبان رئاسته، فاتخذ منه ذريعة سياسية لتحويل دفة السياسات الاقتصادية والأمنية في بلاده صوب بكين، متجاهلا عن عمد الحساسيات الهندية المتنامية. وبالفعل، منحت سلطات كولومبو حينذاك العديد من تعاقدات تطوير البنية التحتية إلى الصين، من شاكلة ميناء هامبانتوتا وميناء مدينة كولومبو، ما شكل تحديات جديدة أمام نيودلهي من زاوية تصاعد الشواغل الأمنية في المحيط الهندي».
سياسة نيو دلهي إزاء كولومبو
أخيراً، على مدار العامين الماضيين، واصلت الهند في هدوء مطبق بناء الجسور مع مختلف مكونات موجة الطائفة الشعبية السنهالية في سريلانكا. وتؤكد الاجتماعات المتعددة التي جمعت بين الزعيمين ناريندرا مودي وماهيندا راجاباكسا، وكان آخرها في يونيو (حزيران) من العام الحالي، على عدم اضطرار الهند إلى البدء من المربع الأول. وهنا يقول الدبلوماسي الأسبق آتشال مالهوترا «لا بد أن نأخذ في الاعتبار أيضا التصريحات العلنية التي صرح بها غوتابايا راجاباكسا (الرئيس المنتخب) في أعقاب فوزه بالانتخابات حين أوحى بانطباع مفاده أن سريلانكا ستواصل التزام الخط المحايد في صراع القوى الإقليمية وتحافظ على مسافة واحدة بين الهند والصين. وبعبارة أخرى، إن سريلانكا سوف تتعامل وتتفاعل مع كل من نيو دلهي وبكين. إن الأزمان دائمة التغير، ومن شأن المصالح البراغماتية أن تحدد أنه رغم العلاقات التكافلية، فلا يمكن للهند انتظار أن الجارة الصغيرة تظل تشكل مجالا حصريا لنفوذها في المحيط الهندي. وما ينسحب على سريلانكا ينسحب أيضا على نيبال وعلى جزر المالديف وغيرها من البلدان. ويبقى أن ننتظر لنرى كيف ستتصرف سريلانكا خلال السنوات المقبلة. مع ذلك، يبدو أن هناك فصلا جديدا في العلاقات بين الهند وسري لانكا قد نشأ على خلفية جيدة، والزيارة المرتقبة للرئيس السري لانكي إلى الهند نأمل بأن تعتبر فرصة للتفهم الواضح أن سريلانكا ستواصل احترامها للحساسيات الهندية أثناء تعاملها مع بلدان أخرى في المنطقة».
أخيراً، علق كونستانتينو خافيير، الزميل البارز في «معهد بروكينغز - إنديا» - ومقره في نيودلهي – قائلا: «على الهند تعميق التعاون الأمني مع سريلانكا من دون المزيد من التنافس الجيو استراتيجي في المحيط الهندي. ورغم القدرات العسكرية المستمرة، في جزيرة دييغو غارسيا على سبيل المثال، لا تزال الولايات المتحدة تعتبر قوة كبيرة خارج المنطقة الإقليمية، الأمر الذي ربما يفسر مخاوف نيودلهي من الاتفاق الدفاعي الذي أبرم مؤخراً بين واشنطن وكولومبو.
لكن الفوز بسري لانكا يستلزم من الهند الاستثمار في التعاون الدفاعي والأمني بصورة أكبر مع دول المحيط الهندي والهادي المماثلة، بما في ذلك اليابان وأستراليا وفرنسا والاتحاد الأوروبي. وفي الأثناء ذاتها، يجب على الهند فتح قنوات الاتصال مع الصين للتخفيف من مغريات سريلانكا للتلاعب من وراء الهند ووضع بكين ونيودلهي على مسار التصادم في مواجهة بعضهما».