إيران... غياب الخطوط الفاصلة بين الصحافة والسياسة

نظام الرقابة فيها من أقسى الأنظمة في العالم

من مظاهرات العاصمة الإيرانية طهران
من مظاهرات العاصمة الإيرانية طهران
TT

إيران... غياب الخطوط الفاصلة بين الصحافة والسياسة

من مظاهرات العاصمة الإيرانية طهران
من مظاهرات العاصمة الإيرانية طهران

كيف يمكنك نشر كتاب عن الرقابة في بلد يتسم بواحد من أقسى أنظمة الرقابة في العالم؟
هذا هو التساؤل الذي واجهه كل من شاروخ توندرو صالح وجويل كوهين عندما قبلا خوض تحدي دراسة نظام الرقابة داخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية ـ مهمة لا تقل صعوبة عن السير على جمر ملتهب بقدمين عاريتين.
كان أول شيء فعلاه حظر كلمة «رقابة» من عنوان الكتاب، وكذلك عنوانه الفرعي. وعليه، خرج كتابهما بهذا العنوان: «ظواهرية...»، بينما خرج العنوان الفرعي على هذا النحو: «دراسة جوانب... في الإعلام».
أما النقاط «...». فتحل في العبارتين محل الكلمة التي لم تذكر: «الرقابة» ـ والتي تدعي حكومة طهران أنه لا وجود لها داخل الجمهورية الإسلامية.
في مجمله، يبدو الكتاب صغيراً ولا يتجاوز عدد صفحاته 227 صفحة فقط، لكنه في اعتقادي على الأقل يعد واحداً من أفضل الدراسات التي تناولت هذه القضية خلال السنوات الأخيرة.
يتخذ الكتاب شكل مقابلة يوجه خلالها توندرو صالح، الباحث في شؤون الإعلام، أسئلة إلى جويل كوهين، بروفسور الإعلام والمؤرخ البارز للصحافة الإيرانية.
وسعياً وراء تجنب مسؤولي الرقابة الخومينية، اعتمد الكاتبان على تكتيك آخر، فقد خصصا مساحة لتناول الرقابة في إيران قبل استيلاء الملالي على السلطة، وداخل عدد من الدول الأخرى، خاصة الاتحاد السوفياتي سابقاً.
ومن دون أن يذكر ذلك عبر الكثير من الجمل، أوضح بروفسير كوهين، أن الرقابة تجري ممارستها داخل الجمهورية الإسلامية اليوم على نحو أسوأ بكثير عما كان عليه الحال في ظل حكم الشاه، بل وحتى الاتحاد السوفياتي.
ومن بين السمات الأساسية للإعلام داخل إيران اليوم، الغموض المحيط بملكيته. في ظل حكم الشاه، امتلكت الدولة وسيطرت على «الإعلام الكبير»، أي شبكات الإذاعة والتلفزيون (مع استثناءات صغيرة قليلة).
في المقابل، خضعت الصحف المطبوعة لملكية خاصة، وبالتالي كانت مجبرة على تركيز اهتمامها على القراء الذين شكلوا مصدر دخلها الأساسي. وأدى هذا إلى خلق توتر بين الصحف التي حاولت التحايل على القواعد المفروضة عليها بأقصى درجة ممكنة والدولة التي حاولت فرض هذه القواعد بأكبر قدر ممكن من الصرامة.
وقد عبّر عبد الرحمن فرماوي، أحد الآباء المؤسسين للصحافة الحديثة في إيران، في ظل حكم الشاه، عن هذا الأمر بقوله، إن الصحافيين يواجهون نمطين من الرقابة: رقابة «اكتب هذا!» ورقابة «لا تكتب هذا!» فيما يخص الصحافة ذات الملكية الخاصة، فإنها تمتعت بقدرة أفضل على تجنب رقابة «اكتب هذا!» عبر تجنب أو تعديل النصوص التي تفرضها الدولة عليهم. أما فيما يخص نمط «لا تكتب هذا!»، فقد تمكنت الصحافة ذات الملكية الخاصة من الالتفاف عليه أيضاً عبر سبل وحيل متنوعة تمكن الصحافيون المخضرمون من إتقانها.
في المقابل، نجد أنه في ظل حكم الملالي، اختفى تماماً الجزء الخاضع للملكية الخاصة من الصحافة الإيرانية. على سبيل المثال، تجري الإشارة إلى إسحق جاهانغيري، المساعد الأول للرئيس حسن روحاني، باعتباره مالك الكثير من الصحف والمجلات. إلا أنه عند إلقاء نظرة أكثر إمعاناً على مصادر رأس المال الخاص بتلك المطبوعات، سرعان ما تتضح صورة مختلفة تضم بنوكاً مملوكة للدولة وشركات على صلة بالكثير من الوزارات أو الحرس الثوري الإسلامي، تقدم جميعها أموالاً ولها حق السيطرة الأولى والأخيرة على تلك المنشورات.
وكان لهذا الغموض المسيطر على ملكية وسائل الإعلام تداعيات كبرى، ذلك أن وسائل الإعلام لم تعد مهتمة بصورة أساسية بالقراء أو جمهورها كمصادر للدخل، وإنما انصب اهتمامها الرئيسي على الترويج لأجندة سياسية دعماً لهذا الفصيل أو ذاك في إطار الصراع على السلطة الدائر في طهران.
ويخلق هذا الأمر بدوره مستوى جديداً من الرقابة يتجاوز الرقابة التي تفرضها الدولة ككل، مصمماً لحماية الفصيل المعني على وجه التحديد، مع العمل على إيذاء الفصائل المنافسة.
ويتمثل اختلاف كبير آخر في تماهي، إن يكن الاختفاء الكامل، للخطوط الفاصلة بين الصحافة والسياسة. في ظل الشاه، استغل بعض الأفراد بالفعل الصحافة سبيلاً مختصراً للولوج إلى عالم السياسة والحصول على منصب سياسي، وظل الكثير من الصحافيين على قوائم أجور ورواتب مناصب رسمية. ومع هذا، ظل يجري النظر إلى الهياكل الأساسية الصحافية باعتبارها مهنة متميزة، وبالتالي أكثر احتمالاً للدفاع عن نفسها في مواجهة الزحف الخارجي عليها، بما في ذلك من خلال أدوات الرقابة.
بيد أنه في ظل حكم الملالي، غالباً ما تحولت الصحافة إلى ما يزيد قليلاً على ممر من منصب سياسي لآخر. مثلاً، نجد شخصاً مثل سعيد حجريان، المفكر البارز في صفوف فصيل «الإصلاح» كان مراسلاً صحافياً ومحققاً مع السجناء السياسيين، ومحللاً لدى جهاز أمني ومستشاراً رئاسياً وكاتب عمود في الكثير من الصحف اليومية.
ومع ذلك، يرى كوهين أن المشكلة الكبرى مع الرقابة في إيران اليوم تكمن في عدم إمكانية الاعتماد على أي قواعد مفروضة في أي وقت معين. وقال: «يدفع هذا الصحافي إلى حالة من الاضطراب، أقرب إلى الاحتضار يومياً، فهو غير قادر على تحديد ما إذا كان ما يمكنه كتابته اليوم سيكون مسموح به غداً».
ويتعزز هذه المناخ العام القلق والمضطرب جراء الحملات المناهضة للإعلام من حين إلى آخر التي تسفر عن أعمال إلقاء قبض وفصل من العمل ونفي إجباري، بل وفي بعض الأحيان الاغتيال. وفي الكثير من الحالات، تصبح الرقابة الذاتية هي القاعدة كآلية دفاعية في مواجهة هذا المناخ العام المضطرب.
وأخيراً، تبعاً لما ذكره كوهين، فإن الرقابة داخل الجمهورية الإسلامية اكتسبت سمة جديدة تتمثل في أنه أصبحت تجري ممارستها نيابة عن السياسة والدين.
يقول: «في حد ذاتها، تشكل الجمهورية الإسلامية كياناً يقوم على الحكم الديني الاستبدادي. وعليه، من المتوقع تماماً أن يمارس هذا الكيان رقابة على المواد التي يعتبرها مضرة أو غير ملائمة للعقيدة الإسلامية».
إلا أن المشكلة تكمن في أن التصور الذي تطرحه الجمهورية الإسلامية للعقيدة الدينية في حالة تغير مستمر، فما يعتبر مباحاً قد يصبح غير مباح في غضون ساعات قليلة، والرجل الذي تجري الإشادة به كنموذج للورع والتقوى اليوم قد يشنق غداً باعتباره مرتداً. وفي الكثير من الحالات، غالباً ما يجري الترويج للمصالح السياسية للنظام، سواء كانت حقيقية أو مفترضة، باعتبارها اهتمامات ترتبط بالدين.
ما من شك في أن كوهين وتوندرو صالح من الأصوات التي تتزعم قضية حرية الصحافة، ويرفضان الرقابة باعتبارها محاولة لتقييد الحريات الأساسية. ومع هذا، نجد في بعض الأحيان أن رؤيتهما الحالمة للصحافة باعتبارها مهمة مقدسة، وليس مهنة تدفعهما إلى رفض ما يعتبرانه «صحافة صفراء».
على سبيل المثال، أشارا إلى عدد من الصحف الإيرانية الموالية للثورة مثل «شفق سورخ» و«مارد إمروز» والتي طرحت موضوعات مثيرة وعنيفة عبر صفحاتها. ويبدو أن كوهين وتوندرو صالح يعتقدان أن مثل هذه الإصدارات لا ينبغي السماح لها بالظهور. ويمكن للمرء بسهولة الاختلاف معهما في هذا الشأن باعتبار أن حظر أي منشور بأي ذريعة يمكن أن يصبح ذريعة لفرض الرقابة وممارسة الديكتاتورية.
عام 1945. قاضى الشاه «مارد إمروز» بتهمة السب والقذف عبر سلسلة من المقالات العنيفة التي نشرتها الصحيفة ضده وضد أسرته. ولم يصدر حكم في القضية لأن ناشر الصحيفة ورئيس تحريرها محمد مسعود تعرض للاغتيال على يد قاتل شيوعي. المثير في الأمر، أن الدعوى القضائية التي رفعها الشاه طالبت باعتذار من الصحيفة، وليس منع صدورها.
ومن بين النقاط الكثيرة المهمة التي طرحها كوهين في الكتاب، أنه في أي وقت وفي أي مكان يجري سن قانون يطلق عليه «قانون الصحافة»، فإنه يجب أن تنطلق أجراس الإنذار المعنية بحرية الصحافة. وعليه، يحق لنا افتراض أن البروفسور البارز غير راضٍ عن وضع الصحافة في ظل الجمهورية الإسلامية التي سنّت قانوناً للصحافة ومحكمة للصحافة ونظام ترخيص للصحف، بل ومثلما اتضح على مدار العقود الأربعة الماضية، وحدة خاصة لاختطاف، بل واغتيال الصحافيين الذين يرى النظام أنهم يثيرون المشكلات.



كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».