الكتب التي تساعدك على حل الأزمات الشخصية قليلة جداً

قراءة في كتاب قديم

غلاف «الاعترافات» بالفرنسية
غلاف «الاعترافات» بالفرنسية
TT

الكتب التي تساعدك على حل الأزمات الشخصية قليلة جداً

غلاف «الاعترافات» بالفرنسية
غلاف «الاعترافات» بالفرنسية

لو سألني أحدهم ما أهم كتاب قرأته طيلة إقامتك الباريسية المديدة، لأجبته على الفور: «اعترافات» جان جاك روسو. وربما كانت هذه القراءة أعظم اكتشاف يحصل لي منذ أن وصلت إلى فرنسا قبل أربعين عاماً بالضبط. ولو أني لم أقرأ غيره لكفاني ذاك فخراً، ولما ذهب مجيئي إلى بلاد موليير وفولتير سدى. لماذا أعطيه كل هذه الأهمية؟ لأنه مفعم بالنزعة الإنسانية.
في الجزء الأول من هذا الكتاب، وفي الصفحة رقم 120 من طبعة «فلاماريون» الفرنسية لعام 1968، يروي روسو قصة صغيرة حصلت له في الطفولة الأولى، وهي التي دفعت به فيما بعد إلى كتابة «اعترافاته» أو مذكراته لتبرير نفسه. أو قل: كانت أحد الأسباب الأساسية.
فقد كان في شبابه الأول، أي في السادسة عشرة، بالكاد قد خرج من مرحلة الطفولة عندما حصلت الحادثة، وملخصها هو التالي: كان يشتغل خادماً لدى إحدى العائلات الإيطالية بعد أن هرب من بيته وعائلته في جنيف وهامَ على وجهه في البراري والقفار كما هو معروف. وفي يوم من الأيام وقع بصره على وشاح جميل فقرر سرقته وإهداءه إلى الخادمة الأخرى التي تشتغل أيضاً في البيت نفسه: ماريون.
ولكن بعدما انكشف أمر السرقة خاف من الفضيحة، فاضطر إلى أن يتهمها بأنها هي التي سرقته. وعندئذ طلب صاحب البيت من الخادمة أن تمثل بين يديه لكي تحصل المواجهة بين الاثنين ويعرف الكاذب من الصادق، وهل هي السارقة أم هو. وبما أنها بريئة كلياً فقد بهتت في البداية ولم تحر جواباً. لم تعد تعرف ماذا تقول، فراحت تتوسل وتستغيث وتحلف بأغلظ الأيمان بأنها ليست هي. وفيما كانت تدافع عن نفسها كانت تشعر غصباً عنها كأنها مهزومة سلفاً. وراحت تنظر إلى روسو نظرة استعطاف وعتاب وملامة ظلت تلاحقه طوال حياته كلها. قالت له: «لا، يا روسو! ما كنت أعتقد أنك هكذا. لا يا روسو هذا لا يليق بك، لا يا روسو... كنت أعتقد أنك شخص طيب. وكل شيء يدل على أنك طيب بالفعل. ولكن لماذا فعلتها معي؟ لقد وضعتني في موقع حرج فعلاً. ولا أحب أن أكون مكانك». ولكنه أصر على الكذب إلى حد الوقاحة بعد أن لم يعد قادراً على التراجع. وهكذا استطاع أن ينتصر عليها في نهاية المطاف، استطاع أن يلصق التهمة بها. وعندئذ طردوهما معاً من البيت. والأنكى من كل ذلك أنه ما سرق الوشاح إلا لكي يهديها إياه تعبيراً عن حبه لها. وهكذا بدلاً من أن يفيدها أضر بها... بدلاً من أن يكحّلها؛ عماها.
عندما كتب روسو قصة «ماريون» هذه في كتاب «الاعترافات»، كان قد مرّ عليها أربعون عاماً أو أكثر. وهو يحلف يميناً بالله أنه لم ينم قرير العين في أحيان كثيرة بسببها. صحيح أنها كانت تغيب عن باله لفترة من الزمن تطول أو تقصر، ولكنها كانت تعود في أوقات الشدة لكي تذكره بنفسها وتؤرقه. فضميره راح يؤنبه ويعذبه إلى درجة أنه كان يراها أحياناً في منامه وهي مقبلة عليه من خلف الضباب وكأنها تقول له: لماذا فعلت بي ذلك يا روسو؟ ألا تعرف أنك شوهت سمعتي في البيوت؟ ألا تعرف أنه لم يعد أحد يشغلني خادمةً عنده. ماذا فعلتُ لك لكي تحطمني؟ كانت تتراءى له بعد أربعين سنة كأن القصة قد حصلت البارحة. وكان يفيق والدموع تنسكب من عينيه فتبلّل خدّيه ووسادتيه.
ثم راحت هواجسه تتضخم وأخذ خياله المرضي أو الهوسي يكبّر حجم الخطيئة حتى تحولت إلى جريمة تقريباً. راح يتساءل في لحظات الخلوة والوسوسة بينه وبين نفسه: ماذا حصل لتلك المسكينة ماريون؟ ماذا حصل لتلك الطفلة التي لم تؤذ أحداً في حياتها؟ هل حقاً أن جميع العائلات رفضتها واضطرت إلى ممارسة البغاء مثلاً لكي تعيش؟ أين ذهبت ماريون الفقيرة هذه، وفي أي الدروب ضاعت؟ وهل قضي على مستقبلها يا ترى أم نجت من ذلك العار؟
أسئلة كثيرة مزقت قلبه وعقله على مدار السنوات... وفي خريف العمر أو شتائه عندما كانت هذه الأسئلة تلاحقه كان الأعداء يلاحقونه أيضاً ويطبقون عليه من كل جانب بعد أن أصبح مشهوراً جداً؛ بل وتحول إلى شبه أسطورة. كان ذلك بعدما أصبحت كتبه تُحرق على أيدي الأصوليين في باريس وجنيف وأمستردام دفعة واحدة. كان ذلك بعد أن كبر ذلك الطفل الصغير اللقيط الذي لا يعرفه أحد وأصبح: جان جاك روسو!
في مثل هذه الظروف التراجيدية التي أحاطت به في أواخر عمره كان يعتقد أن العناية الإلهية تنتقم منه بسبب تلك «الخطيئة الأصلية» التي ارتكبها يوماً ما. وكان يشعر بالسعادة تقريباً لأن الآخرين يعذّبونه ويشوهون سمعته مثلما عذّب هو ماريون وشوّه سمعتها. كان يطالب بمزيد من الاضطهاد لكي يتشفّى من نفسه ويكفّر عن ذنوبه.
وبدءاً من تلك اللحظة أصبح يكره الكذب ويتحاشاه ويخشاه كأنه جريمة. وأصبح أصدق كاتب أنجبته أوروبا في تاريخها كله، بالإضافة إلى بعض القلائل بالطبع؛ مثل هولدرلين، أو كانط، أو غوته. ولذلك تجد وراء كل صفحة من الاعترافات كأن صوت الحقيقة هو الذي يتكلم من خلالها وليس هو. لقد أصبح الناطق الرسمي باسم الحقيقة نيابة عن عصر بأسره. لهذا السبب أُعجب به كانط أيما إعجاب ووضع صورته على طاولته لكي يستأنس بها ويكتب ويشتغل باطمئنان وسلام. وكذلك أعجب به هولدرلين وهيغل وتولستوي وديستيوفسكي وآخرون كثيرون من الكبار أو كبار الكبار. لقد أصبح نبي العصور الحديثة.
هكذا قرر روسو أن يعرّي نفسه في هذا الكتاب الشهير «الاعترافات» بكل صراحة أمام القراء والأجيال المقبلة. قرر أن يكشف عن خباياه ويعترف بكل نقاط ضعفه وقصوره. وقسا على نفسه أكثر مما يجب، وعنّفها ووبّخها: بل ومسح بها الأرض! وأسس بذلك محاسبة الضمير في الفكر الأوروبي المعاصر. من هنا جاذبية «اعترافاته» وخلودها على مرّ العصور.
نعم لقد سحقت قصة ماريون هذه قلبه سحقاً ولاحقته على مدار الأيام والسنوات. وكان يتمنى لو أن مصيبة نزلت على رأسه ولم يفعل فعلته تلك. ولو أنهم انتحوا به جانباً وسألوه عن الموضوع على حدة، لاعترف بالحقيقة ولما اتهمها أبداً. ولكن صعب عليه أن يعترف بخطيئته هكذا علناً أمام الجميع.
يقول في تلك الصفحات الثلاث ما معناه: ما كنت أخشاه بعد اندلاع الفضيحة ليس العقاب ولا الضرب أو الطرد من البيت؛ وإنما العار. كنت أخشاه أكثر من أي شيء آخر في العالم. كنت أخشاه أكثر من الموت. كنت أفضل أن تنشق الأرض وتبتلعني على أن أعترف أمام الناس بأني لص أو سارق.
ولذلك اضطر إلى الكذب واتهامها غصباً عنه.
يخطر على بالي أحياناً أن أتساءل وأقول ما يلي: ألا توجد علاقة بين موقف روسو هذا وبين استقامة السلوك التي نلاحظها في البلدان الحضارية جداً مثل سويسرا مثلاً، وهي بلده الأصلي بالمناسبة؟ ألم يؤسس للضمير الأخلاقي أو لمحاسبة الضمير في كل أنحاء أوروبا؟ لماذا تكون العلاقات الاجتماعية دقيقة ومنتظمة في البلدان المتقدمة؟ ولماذا يشيع الغش والكذب والاحتيال في بلداننا نحن الذين ندعي الإيمان والتقى والورع؟ لماذا كلما صلينا وصمنا وركعنا أكثر زاد غشنا أكثر؟ هناك استثناءات كثيرة بالطبع وأكاد أعتذر من هذا الكلام... ولكن ما أقصده هو أنك تستطيع في سويسرا أو ألمانيا أو الدنمارك أو النرويج أو السويد أو سواها من البلدان الأوروبية أن تشتري الجرائد والكتب أو تركب الحافلات من دون أن تدفع فلساً واحداً إذا شئت لأنه لا يوجد أحد لكي يراقبك. يراقبك ضميرك فقط. وهي بلدان علمانية لا أثر للدين فيها ولا تصوم ولا تصلي إلا نادراً. ومع ذلك، فهي أخلاقية مائة في المائة. كيف يمكن تفسير ذلك؟ أعترف بأن هذا الأمر حيرني. وقد رأيت ذلك بأمّ عيني عندما زرت سويسرا وألمانيا وهولندا وأدهشني الوضع. رأيت جميع المواطنين يدفعون ثمن المشتريات عدّاً ونقداً ولا أحد يفكر في الغش أو مخالفة القانون مطلقاً. هناك شيء اسمه ضمير إذن، وهو أهم من أي شرطي! هناك وازع داخلي يردعك إذا ما همّت نفسك بالسوء أو بالانحراف والإخلال بالواجب أو التقصير في العمل. فكيف يمكن أن تخشى على بلاد من هذا النوع؟ كيف لا تزدهر وتتطور ويطيب فيها العيش؟ ومَن الذي أسس الضمير الأخلاقي الصارم في الثقافة الأوروبية؟ إنهم مصلحوها الدينيون وفلاسفتها الكبار وعلماؤها... العلماء ورثة الأنبياء.
هل سمعتم بحضارة نهضت على قدميها من دون شخصيات كبرى تثبت على الحق والمبدأ وتحترق لكي تضيء للآخرين الطريق؟ هل سمعتم بحضارة نشأت على عادات غير الصدق والدقة في المعاملة؟ هل سمعتم بحضارة نشأت وازدهرت على شيء آخر غير مكارم الأخلاق؟
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
هناك أسباب أخرى تدفعني للإعجاب باعترافات جان جاك روسو ولا أستطيع البوح بها كلها هنا. ولكن ربما كان أهمها هو أنه قربني من أمي وطفولتي الأولى وذلك الحدث الصاعق الذي أسس وجودي. على أي حال؛ فحكايتي مع هذا الكتاب تطول منذ أن أضاء الدياجير المظلمة لحياتي الداخلية بعدما ابتدأت بقراءته لأول مرة في قرية شاتني مالبري بضواحي باريس. وهي ذاتها قرية الفيلسوف الكبير بول ريكور. كما أنها قرية فولتير لأنه ولد فيها وتمثاله يتصدرها. وقد شاء لي الحظ أن أقيم فيها بمحض الصدفة لبضع سنوات في أواخر القرن الماضي. وبعدئذ لم يفارقني الكتاب، خصوصاً في لحظات الشدة. وقد ساعدني على تعميق بعض الأسئلة الشخصية، والقبول بما لا يحتمل ولا يطاق. والواقع أن الكتب التي تساعدك على حل تأزماتك الشخصية قليلة جداً. إنها عبارة عن انفراجات مضيئة داخل الانسدادات.



«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.