قصائد الشعراء العراقيين في ساحة التظاهر

من الدلال والترف إلى الصراخ عالياً

من مظاهرات ساحة التحرير ببغداد
من مظاهرات ساحة التحرير ببغداد
TT

قصائد الشعراء العراقيين في ساحة التظاهر

من مظاهرات ساحة التحرير ببغداد
من مظاهرات ساحة التحرير ببغداد

شكل شعر عدد كبير الشعراء مصدراً مهماً لكثير من الثورات والاحتجاجات، سواء على مستوى التاريخ أو على المستوى المعاصر، بل اتخِذ من بعض النصوص مصدراً رئيساً لتلك الأحداث. وبهذا، اعتمد الباحثون على تلك القصائد بوصفها وثيقة تؤرخ لمرحلة ما، أو لنهضة ما، أو لثورة ما. وبسبب هذا التوجه المهم في خريطة الشعر العربي - بعيداً عن فنية الأعمال من عدمها - ذهب أدونيس في «ديوان الشعر العربي»، وفي مقدمته العظيمة، في جزئها الأول، إلى تقسيم الشعر العربي من الجاهلية حتى أواسط القرن الثامن الميلادي إلى خمسة اتجاهات، بين ميتافيزيقية، وصورية، واتجاه اللامنتمي، واتجاه سحري، ووضع الاتجاه الخامس لـ«الآيديولوجي». ويقول عن هذا الاتجاه إننا لأول مرة نرى «إشارات إلى الفقراء والجائعين، وإلى الذين يتمتعون بالخيرات دون سواهم من حكام ومغتصبين». وبهذا، فقد أخذ هذا الاتجاه مساحة كبيرة من وجدان الناس، ومن قارة الشعر العربي، وغير العربي أيضاً.
فقد وجد المتلقون أو الجمهور في أصوات هؤلاء الشعراء العالية حائطاً يستندون إليه، وضميراً يلجأون له لحظة انعدام الضمائر، فقد حفظ لنا صندوق الشعر العربي عبر خزانته القديمة عدداً كبيراً لنصوصٍ احتجاجية تنطق بلسان الجماعة والناس، المقهورين على وجه التحديد، وهو اتجاه بخلاف الاتجاه السائد: اتجاه المديح الأكثر انتشاراً وهيمنة على نوع الشعر. وقد تبين بشكل واضح مثل هذا النوع من الشعر في شعر الصعاليك الجاهليين، المطالب بالعدالة الاجتماعية، وتوزيع الحقوق، فيما ورث الكميت هذا النمط من الصوت الشعري، ولكنه غلب عليه طابع السياسة والأدلجة، والولاءات الخاصة، مع احتجاجه الشعري بالعدالة الاجتماعية داخل الأوساط الحاكمة في العصر الأموي.
إنَّ هذا التوجه في الكتابة الشعرية، وبهذه الطريقة الاحتجاجية، يبدو أنه يُسمع به لأول مرة، حيث المطالبة بالحريات والعدالة الاجتماعية، ولم يقتصر الأمر على الولاءات السياسية والدينية والعقائدية في استنبات الشعراء بطين المذاهب أو العقائد، إنما أخذت الثورات السريعة منها والدائمية، ابتداء بالخوارج حتى ثورة الزنج، مئات الشعراء الذين تناوبوا على تلك الحركات، مؤيدين ومحرضين.
وحين نصل إلى العصر الحديث، أو إلى الشعر المعاصر، فإنَّ الشعر السياسي يكاد يأخذ حصة الأسد في الأنواع الشعرية، حيث بدايات الاستعمار، وبدايات الحركات التحررية، وبدايات تشكل الأحزاب الوطنية، وبداية طباعة الصحف، وبدايات تشكل الحكومات التي تسمى الوطنية، وكأن فاصلاً زمنياً حقيقياً بين سقوط بغداد 1228 وتشكيل تلك الحكومات، حيث رافق الشعر كل هذه التحولات، متمثلاً بدينامية الشعراء الذين وثقوا تلك المراحل والتحولات في قصائدهم، من دخول المستعمر حتى لحظة خروجه، فقد كان صوت الرصافي والزهاوي والشبيبي والشرقي، وغيرهم كثير، واضحاً في العراق من خلال قصائدهم السياسية والاحتجاجية، فمثلاً يقول الزهاوي:
تقدم أهله الطاوين يمشي
إلى ذي نعمة أثرى وأجمعْ
فغمغم قائلاً إنا جياعٌ
فقال يرده جوعوا لنشبعْ
وهي نصوص في معظمها خطابية، وكأنها مقالات، ولكن كُتبتْ منظومة، إلا أنها تلاقي نجاحاً كبيراً في وقتها، بسبب زخم العواطف والمشاعر التي كانت تسمح لمثل هذا النوع من الشعر بأنْ ينمو، ويجد آذاناً مصغية، بل إنَّ بعض القصائد أسهمت بخروج آلاف المتظاهرين في تلك الفترة، كما حدث مع الشاعر محمد مهدي البصير، وقصيدته الشهيرة:
إنْ ضاق يا وطني عليَّ فضاكا
فلتتسعْ بي للأمام خطاكا
وصولاً لقصائد الجواهري التي كانت تُلهب المشاعر، وتُديم زخم الاحتجاج في العصر الملكي، على كل شاردة وواردة، وما قصيدته برثاء أخيه «جعفر» إلا أحد النصوص التي بقيت حية تُستعاد في كل لحظة انكسار أو نهوض:
أتعلم أم أنت لا تعلمُ
بأنَّ جراح الضحايا فمُ
لقد بقي الشعر بكل أحواله عنصراً مهماً لإدامة زخم الناس، وكأنَّ النصوص الصاخبة عبارة عن عقل جمعي يحرك الناس، وهذا ما التفت إليه نظام «صدام حسين» في دعم حروبه بالأناشيد الحماسية، وبوضع عدد كبير من الشعراء لكتابة النصوص لحظة بلحظة، أيَّام الحرب مع إيران على سبيل المثال، حيث يروي البعض أنَّ الشعراء والملحنين يواظبون على الدوام يومياً في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، وعند أي حدث يكتب الشعراء مباشرة، ويلحن الملحنون باللحظة نفسها، وتُسجَّل الأناشيد لتبث بعد ساعات من إنتاجها؛ إنَّ كل ذلك هو جزء كبير من التحشيد لأي قضية من القضايا، بل إنَّ بعض الأناشيد ارتبطت بذاكرة قوى سياسية، وحزبية، مثل أغنية الحزب الشيوعي التي يرددونها في كل محفل (لا تفرح يلقطاعي - صويحب من يموت المنجل يداعي)، أو أغنية القوميين العرب (بلاد العُرْب أوطاني، من الشام لبغدان).
لقد تذكرت هذا الموضوع وأنا أشاهد عدداً كبيراً من أصدقائي الشعراء، حيث أتجول في صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، وهم يديمون زخم احتجاج العراقيين الأخير للمطالبة بالإصلاحات بوهج النصوص والمقاطع الشعرية، فبمجرد الوقفة النبيلة لسواق «التكتك» البسطاء، وجدنا في اليوم الثاني للمظاهرات أغنية حماسية تمجد عمل هذه الشريحة (بعد روحي يبو التكتك)، وقد حظيت بمساحة انتشار هائلة في غضون أيام، وإن كانت الأنشودة أو الشعر الشعبي أو القصيدة العمودية أكثر استجابة من غيرها من الأشكال الشعرية الأخرى، ذلك أن الحداثة أسهمت كثيراً ببناء جدار بين النصوص الحداثية والناس المستهلكين اليوميين للثقافة التي يحتاجون إليها، فمعظم نصوص الحداثة - رغم ذهاب بعض الرواد إلى منطقة الشعر الواقعي، ومن ثم غادروها سريعاً - أقول إن الحداثة أسهمت بهذه العزلة في التفاعل بين اللغة نفسها وقصيدتها الحداثية وبين الأحداث السياسية أو الاجتماعية، انطلاقاً من مفهوم نفي الوظيفية للشعر، والاكتفاء به كحادثة جمالية.
أعود وأقول إني وجدتُ هذه المرة أن صوت «قصيدة النثر» التي لا تستطيع المزاحمة والصراخ في أجواء التظاهر والاحتجاج كان عالياً، فقد وجدتْ لها مكاناً، ومكاناً مهماً في أنْ تكون جزءاً من عملية التحول، ذلك أنَّ قصيدة النثر تلك البنت المدللة خرجتْ من بيتها حافية هذه الأيام، لتصرخ في صفحات التواصل الاجتماعي بأعلى صوتها، وهي تدعم الشباب الغاضب، أو تصرخ بأعلى صوتها لأخذ الحقوق.
والسؤال هنا: هل فكرة الصراخ الشعري لها علاقة بشكل الشعر الذي يكتب أم لا؟ أم إن علاقتها بالكائن الذي تخرج منه هذه الانفعالات؟ ذلك أن كثيراً من الشعراء التقليديين اختفت أصواتهم في هذه المظاهرات، ولم نرَ لهم بيتاً واحداً يدعم الشباب، أو على الأقل يطالب بحقوقهم، وإنْ بطريقة غير مباشرة. وعلى العكس، وجدنا عدداً من شعراء قصيدة النثر والتفعيلة يملأون صفحاتهم غضباً واحتجاجاً.
فهل هو تحول في الرؤية أم أن منسوب الاحتجاج أكبر من مراعاة فكرة الأشكال ودلالها وتربيتها الخاصة؟ لذلك خرجت قصائد النثر حافية هذه المرة، دون أنْ تنظر لمن يقف في الشارع. فبمجرد تصفح الفيسبوك لعدد من الشعراء العراقيين، سنشم رائحة الاحتجاج عالية هذه المرة، متفاعلة مع الحدث السياسي، فمثلاً الشاعر حمدان طاهر المالكي يقول في صفحته الشخصية:
حين ترى جثة في شارع ما
قل إنَّها ثمرة ناضجة
لم تحتمل صبر الشجرة
حين ترى شارعاً مغلقاً
لا تيأسْ
ترجل من المركبة
وقل يكفيني ممرٌّ صغيرٌ لأعبرَ
إذا صادفتك جنازة شهيدٍ
لا تفكرْ بصغاره
قلْ سيكبرون
ويحملون
راية البلاد الثقيلة
إن هذا النص الضاج بحركة الاحتجاج، الكاشف لواقع حركة الشارع، من غلقٍ دائمٍ، وقوافل شهداء، نرى فيه كيف وظَّف حمدان هذه التفاصيل اليومية التي تمرُّ بنا، وبحركة الاحتجاج. كما أن هناك كثيراً من شعراء قصيدة النثر والتفعيلة الذين واكبوا هذه الحركة الاحتجاجية الكبيرة، مثل عماد جبار وأحمد عبد الحسين وعمار المسعودي ورياض الغريب وحسين السلطاني وعلي الحمزة وإيهاب شغيدل ووسام الموسوي وفرقان كاظم، فضلاً عن الشواعر اللواتي تحولن من نص كتابي إلى نص حياتي، كنورس الجابري التي سكنت ساحة التحرير لتداوي الجرحى بوصفها شاعرة طبيبة، وإيناس فيليب، وأخريات لم يغادرن ساحة الاحتجاج، فضلاً عن عشرات آخرين من شعرائنا وشاعراتنا، هذا بالإضافة إلى شعراء العمود المعروفين، كأجود مجبل وحسين القاصد ورحمن غركان وسراج محمد ومهدي النهيري ومسار رياض ونعمة حسين، وآخرين كثر جداً. كما لاحظت أن عدداً من شعراء قصيدة النثر لم يستطع شكل قصيدة النثر أن يستوعب حجم صراخهم، فصرخوا موزونين بقصائد عمودية، مثل رعد زامل ومهند الخيكاني، وغيرهما.
هذه عينة بسيطة لحجم الشعراء الموجودين، وهي عينة ربما تكفي لفحص بعض التحولات، كقطرة الدم حين نحلل من خلالها أمراضنا، المزمنة أو الطارئة.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.