إماتة الناقد... هل أُنجزت المهمة؟

النص الإبداعي العربي صار بلا مقاربات أو مساءلات

جورج برنادشو
جورج برنادشو
TT

إماتة الناقد... هل أُنجزت المهمة؟

جورج برنادشو
جورج برنادشو

بمقدور أي كاتب عربي أن يستعيد مقولات لمشاهير الكتاب تحط من قيمة النقد، وتهزأ بالنقاد، كوصف صموئيل بيكيت للنقد بأنه أشبه ما يكون بـ«استئصال الرحم بمجرفة»، أو مقولة برناردشو إن الناقد «هو من ذلك النوع من الرجال الذين لا يدعون مكاناً لا يمطرونه بالحجارة»، وهكذا وصولاً إلى مقولة سيبيليوس التبخيسية الشهيرة «لا تصغوا إلى ما يقوله النقاد، فلم نرَ يوماً نصباً يقام لناقد»، إذ يُراد لكل تلك المقولات المستعارة التدليل على عدم جدوائية النقد، وقلة فاعليته، وبالتالي انعدام الحاجة إليه. فالناقد بالنسبة لمعظم الكُتاب العرب مجرد مبدع فاشل متطفل على الإبداع، تتراكم على سمعته صفات السلبية والعطالة والغيرة، وحتى الحقد. وهذا تصور ناتج عن جهل بالمهمة النقدية من جهة، وعن ثقافة مريضة بالمقولات الكارثية المزمنة، الأمر الذي يحتم إعادة قراءة تلك الاستعارات داخل سياقاتها الثقافية والتاريخية والاجتماعية، حيث يموضع الناقد - عربياً - مثله مثل المترجم في قاع العملية الإبداعية، مقارنة بالشعراء والروائيين.
هذا الهجوم المجاني التعميمي على النقاد لا يتلاءم مع ما أداه النقد وليد الطبقة الوسطى، يوم كان مفتاح الحياة الثقافية، عندما كان أداة عقلانية للتنوير الثقافي الديني الاجتماعي، حيث تزدحم الذاكرة الإنسانية بأسماء ومنجزات ما زالت تشكل مرجعيات في التفكير الجمالي. وذلك ما لا يقر به الآخر في تعامله مع الممارسة النقدية، بمناهجها ورموزها ومدارسها وإسهاماتها، رغم الجدل الدائر هناك حول نهاية النقد في سباق الإماتات المتوالية لأجناس وألوان أدبية. فالحضارة الغربية لم تشيد أركان قيمها المفهومية والجمالية إلا من خلال المناقدة، بمعانيها الفكرية والأدبية والاجتماعية والدينية. وما زالت الصحافة الغربية، ومواقعها الإلكترونية، مستزرعة بمطالعات نقدية أدبية وفنية بشكل يومي. وما تلك اللافتات المتصارعة مع النقد والنقاد إلا حلقة ضمن سياق مناقدة الذات الغربية ومنتجاتها، حيث يقر التاريخ الأدبي والفني بأن معظم الأعمال التي تأبدت في ذاكرة ووجدان الإنسان إنما تدين بشكل أو بآخر إلى مقاربات النقاد، وقدرتهم على استظهارها في واجهة المشهد الثقافي.
حكم القيمة يشكل جوهر الجدل في سيرة الخطاب النقدي على مر التاريخ. وهي سجالات ليست جديدة تماماً، بل قديمة قدم الممارسة النقدية، حيث العلاقة الأزلية المتأزمة بين النقد والإبداع. كما تمثل ذلك في الصراع المعروف بين الشعر والفلسفة، على اعتبار أن الشعر يمثل جوهر الإبداع، فيما تمثل الفلسفة خلاصة الفكر النقدي. وما حدث في دوائر الآخر ليس سوى حالة من حالات تمديد المعايير الموضوعية، وإكساب مسطرة النقد مرونة تتجاوز قدسية المعياري وصرامة البحثي، واستدماج الأداء النقدي بالجهد التأويلي التفسيري والتفكير الاجتماعي، والذهاب إلى كفاءة الفردي على إيقاع الحد من الدور التعليمي، والتعقيم الأخلاقي للنقد، كانعكاس لدعوات إلغاء دور المثقف كمفكر للآخرين وعنهم، لا الكفر بالنقد والنقاد. وهذا هو ما يفسر ظهور نقاد المراجعات في الصحف، كردٍ أو ربما كحلٍ لتمترس النقد الأكاديمي في الجامعات.
ولا يوجد في الثقافة العربية أي سبب مقنع لموت الناقد سوى عدم رضا بعض الكُتّاب عن عدم وجود منتجاتهم على قائمة المناقدة. والمقام هنا ليس مرافعة عن النقد العربي، الظاهرة أعراض علاته بوضوح، فهو مصاب بالسلفية النقدية، وبالتخشُّب الأكاديمي، والمديونية للنقد الغربي، والتسويق للمنتجات الرديئة بمقتضى تسويات وصفقات، وبالانفصال عن مستجدات الطرح النقدي العالمي، وباللاأدبية، وهكذا. ولكن مقتضى الحديث هنا هو فحص مسببات وأثر العداء الصريح للنقد على فعل المثاقفة، والبحث عن أفق نقدي يتناسب مع التحولات العميقة للخطاب النقدي العالمي، حيث يشكل تراجع الأثر الذي كان يُحدثه النقد الأكاديمي علامة بارزة في المشهد، مقابل ذلك التمدد الأفقي الواسع لنقاد المدونات، وذلك بموجب مهبات اللحظة الديمقراطية التي ألغت وجود الناقد كوسيط بين المنتجات الأدبية والقارئ، على إيقاع انكماش النقد الأدبي، وظهور الدراسات الثقافية، الأمر الذي جعل التنظير الثقافي يحتل موقع مناقدة النصوص الأدبية.
وفي ظل تضاؤل قيمة النخبوي، مقابل صعود الشعبي، قل الاهتمام بالنصوص المعيارية، مع اندفاع نقدي لتأمل ثقافة البوب ومنتجات الهامش الثقافي، حيث الخصوبة المتوفرة في هذا الحقل. وذلك ضمن خطوة مزدوجة لنزع القداسة عن الآثار الأدبية الكبرى، والخطابات النقدية الأكاديمية، وما تأسس على ذلك من تهشيم أدب الطبقات الرفيعة، والانتصار لفنون الشارع وأدب الهامش، وبالتالي زلزلة موقع النقاد الذين كان يُنظر إليهم كطبقة رفيعة أيضاً في عملية إنتاج النص. وهي تحولات تم ترحيلها باستعجال وقلة استيعاب إلى الفضاء العربي. وعليه، صار النص الإبداعي العربي بكل ضروبه السردية والشعرية في العراء، من دون مقاربات أو مساءلات، إلا من قبل فصيل من النقاد المدرسيين الذي أساؤوا للممارسة النقدية بتقليديتهم، بالقدر الذي أساء به مقلدو الآخر بشعوذات المناهج غير المهضومة معرفياً لسمعة ومكانة ومهمة الناقد.
عدد منتجي النصوص في العالم العربي يفوق عدد منتجي المعرفة من النقاد بأضعاف. وهذا هو السبب الأبرز في انكشاف النص الإبداعي وإحساسه باليتم. وما تدفع به الجامعات العربية في المشهد الثقافي من خريجي النقد لا يعدو كونه إضافة المزيد من الشحم على جسد مترهل، حيث المدرسية والأكاديمية الجافة، والانفصال عن روح العصر. ومرد ذلك كله يعود إلى اعتقاد قاتل بكون النقد عملية وظيفية، بحثية، أو استلحاقية بالإبداع، وإلى كون الناقد مبدعاً فاشلاً. وهي مقولة تزهّد كل من يراود نفسه بالحضور كناقد، وتدفعه إلى التردد في الإخلاص للنقد، كفكرة وكعملية إبداعية. وعلى هذا الأساس يموت النقد، أو يكتفي بالحضور الخجول على هامش المشهد. كما تتعزز تلك الإماتة على المستوى المؤسساتي بازدراء الخطاب النقدي، والتقليل من أهميته، مقابل الجوائز الباذخة والمهرجانات الاحتفالية للمنتج الأدبي والفني مهما بلغ من الرداءة والتفاهة.
إن عدم اهتمام المؤسسات الثقافية العربية بالنقد توجه خطير يحمل في مضمراته نوايا التقليل من جدوى وضرورة العقلانية في وعي الإنسان العربي، كما ينم عن تحجيم دور الناقد في العمل كأكاديمي بارد الحواس أو كمستشار بائس ضمن لجان تحكيمية. وبالتالي، إفساح المجال لمنتجات أدبية خالية من المعرفة والعقلانية والقيم التنويرية لتشكيل الذائقة والحس العام. وهذا هو ما يفسر ظهور شريحة واسعة من الكُتاب المنذورين على الدوام لمهاجمة النقاد بكل توجهاتهم واختلاف إسهاماتهم، والتعريض بالممارسة النقدية، بصفتها من وجهة نظرهم حالة من التطفّل على الإبداع. وهو ما يعني أن هذا الفصيل الذي تعرض على مدار عقود لعملية غسل وعي ضد الخطابات والمناهج والرموز النقدية، لا يعرف عن النقد إلا ما يتعلق بامتناع النقاد عن مقاربة منتجاته، ولم يخطر بباله أن النقد عملية إبداعية قفزت على مبدأ حكم القيمة، وذهبت عميقاً في الدراسات الثقافية، ولم تدر ظهرها للنص.
لا حاجة للناقد كوسيط بين النص والقارئ ما دام القارئ يستطيع أن يطلق حكم قيمة وفق ذائقته ووعيه ومزاجه، ومن دون الاتكاء على نظريات علم الجمال والمعادل الموضوعي والإزاحة الشعرية، وغيرها من القواعد المعتمدة لمعايرة النصوص. هذا ما يردده القراء اليوم الذين تحولوا إلى نقاد مدونات.
أجل، نقاد المدونات الذي صار بمقدورهم تقويم أعمال دوستويفسكي والمتنبي وشكسبير، وليس أعمال مجايليهم وحسب. وهذا وهم يضع المنتج الأدبي خارج أي قيمة معيارية، سواء كانت معرفية أو جمالية، ما عدا معيار الانطباع الشخصي. وهو مكتسب إنساني استجلب من خارج الحقل الثقافي، أي من مهبات الديمقراطية الجارفة التي فككت كل ما هو سلطوي أو أبوي، بما في ذلك النقد الذي كان يُصنف ضمن خطابات الوصايا. ومن ذلك المنطلق، أعيد الاعتبار للمزاج الشخصي، اتكاءً على صعود الفردانية، في الوقت الذي رُكنت فيه الأبعاد الموضوعية والأخلاقية، وحتى الجمالية، على هامش عملية التلقي. وبذلك، تآكلت مكانة النقد كسلطة أدبية، وتشوهت سمعة النقاد الذين بشروا بدورهم بانحطاط الذائقة.
إن الكتاب الذين سيروا المظاهرات المطالبة بإماتة الناقد الذي تأسس خطابه في الجامعات والصالونات الثقافية، وإخراجه من دائرة تشكيل الوعي والذائقة والمعرفة، يجدون أنفسهم اليوم أمام نقاد مدونات ولدوا في حضانات السوشيال ميديا؛ نقاد تنقطع أنفاس أقلامهم بعد كتابة سطور قليلة من الكلام الإنشائي لتقويم عمل أدبي، والأسوأ من هؤلاء أولئك الذين لا يعرفون عن المناقدة سوى كتابة جملة حائرة، وتعليق نجوم التقويم في مواقع القراءة الشهيرة. والأخطر أنهم صاروا يقدمون أنفسهم كخبراء ثقافيين، أي كوسطاء جُدد بين القراء والكتاب؛ بمعنى تحولهم إلى سلطة نقدية كانوا يرفضونها، ويحاربون نقاد المناهج والموضوعية والنظريات والجماليات لتقويضها انتصاراً للخيارات الذوقية الفردية، وانتقاماً مما يُعرف بثقافة البرج العاجي. وهنا، وقعت الكارثة، إذ لا أحد يريد أن ينظر إلى الوجود من موقع القارئ ما دام بمقدوره أن يكون كاتباً وناقداً بالضرورة.
- ناقد سعودي



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.