هزيمة «الراديكالية المسلحة»... ضرورة حتمية

لمرحلة ما بعد الإرهاب

مدنيون تم إجلاؤهم من قبضة «داعش» ينتظرون في منطقة فحص تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» (أ.ف.ب)
مدنيون تم إجلاؤهم من قبضة «داعش» ينتظرون في منطقة فحص تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» (أ.ف.ب)
TT

هزيمة «الراديكالية المسلحة»... ضرورة حتمية

مدنيون تم إجلاؤهم من قبضة «داعش» ينتظرون في منطقة فحص تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» (أ.ف.ب)
مدنيون تم إجلاؤهم من قبضة «داعش» ينتظرون في منطقة فحص تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» (أ.ف.ب)

تثير الدراسات والأبحاث المتعلقة بهزيمة الإرهاب انشغال أجهزة الاستخبارات الرسمية. كما انصبت جهود الخبراء ومراكز البحث الدولية، بعد هزيمة «داعش» بداية 2019، على تقديم خبرتهم على مستوى فهم وإنتاج سياسات وطنية ودولية تمكن من الانتصار الشامل على الحركات الإرهابية، المحلية والعالمية. ويمثل التقرير الذي نشرته مؤسسة المعهد الأميركي للمشاريع، في أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، واحدة من أهم الدراسات التي تناولت فيها الباحثة كاثرين زيمرمان، المتخصصة في التهديدات الحرجة والإرهاب، موضوع مواجهة «الراديكالية المسلحة»، بوصفها مرحلة حتمية للقضاء على الإرهاب العالمي.

تنطلق الخبيرة زيمرمان من فكرة أساسية، ترى فيها أن «الولايات المتحدة الأميركية، التي تخوض حرباً ضروساً منذ 20 سنة ضد الإرهاب، قد أساءت فهم طبيعة العدو في هذه الحرب؛ ذلك أن سياسة واشنطن في هذا المجال تركز باستمرار على مجموعات، وأفراد محددين، بدا أنهم يهددون أكثر المصالح الأميركية».
فقد منحت أميركا الأولوية لتدمير «القاعدة» بأفغانستان وباكستان، وبالتالي قامت بجهود جبارة فيما يخص رصد وقتل كل من أسامة بن لادن، وزعيم «القاعدة» في العراق أبو مصعب الزرقاوي، وكذلك أنور العولقي زعيم التنظيم باليمن، وصولاً إلى جهودها غير المتوقفة حالياً التي تهدف لقتل مؤسس «داعش» أبو بكر البغدادي. كما أن سياسة واشنطن في مواجهة الإرهاب ركزت إلى حد كبير على استعادة الأراضي من هذه الجماعات، وحرمانها من الملاذ الآمن، بقصد القضاء على القيادة وغيرها من المتورطين في التخطيط للهجمات. وكانت نتيجة هذه الاستراتيجية سلسلة من الانتصارات العسكرية في ساحة المعركة، لم تولد أثراً حاسماً دائماً في الحد من التهديدات الإرهابية.

الاستراتيجية الجديدة
وبعد نحو 20 سنة من المواجهة العالمية مع الإرهاب، أصبح من اللازم إعادة تحديد العدو الحقيقي، ووضع سياسة واستراتيجية جديدة شاملة تعد الحركة «الراديكالية المسلحة» العدو الأساسي. ويعد تنظيم «القاعدة» و«داعش»، وغيرهما من الجماعات، جزءاً من الجماعات المتطرفة. وعليه، فإن السياسة الجديدة يجب أن تنطلق من منطلق مركزي، يضع الحركة والجماعات والمنظمات التي تلتزم بآيديولوجية المتشددين في صلب المواجهة الشاملة.
وتمكّن هذه الآيديولوجية المجموعات من إعادة البناء، وتوحيد جهود الأتباع في إطار هدف مشترك، حتى بعد معاناتها من الهزائم العسكرية الرهيبة. كما أن التصورات والأفكار القتالية المتطرفة، التي تأخذ طابعاً آيديولوجياً، تخلق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية الموسعة التي تتجاوز الهجمات الإرهابية، وتهديد الأمن القومي الأميركي.
وعليه، فإن كاثرين زيمرمان، المتخصصة في التهديدات الحرجة، ترى أن الاستراتيجية والسياسة الجديدة لمرحلة ما بعد الإرهاب يجب أن تركز على مهاجمة هذه الآيديولوجية وتشويه سمعتها لإضعافها. فإذا كان من المستحيل تدمير آيديولوجية المتطرفين تدميراً كلياً، ولا يمكن القضاء على جميع أو معظم أتباع هذه الأفكار المتطرفة، فإن الواقع والتاريخ يثبتان أن المسلمين رفضوا لقرون الفكر المتطرف، وهو ما يفسر ظهور تنظيماتها في أطراف المجتمع العربي والإسلامي المعاصر، وسعي هذه التنظيمات المستمر لتجميع نخبة تمثل الآيديولوجية الحربية وغطاءً ودعماً شعبياً بين المسلمين، مستغلة بذلك حالة عدم الاستقرار التي تعيشها الجغرافية العربية بعد 2011.
وفي هذا السياق، أعادت جماعات «الراديكالية المسلحة» تغيير اسمها، وهيكلة تنظيماتها، للاحتفاظ بالدعم المحلي، وإخفاء صلاتها بالجماعات التي تستهدفها أعمال مكافحة الإرهاب الأميركية. وبهذه السياسة، فصلت التنظيمات الإرهابية جهود «الجهاد» العالمية عن «القتال» المحلي، مما جعل هذه المجموعات المتطرفة أكثر قبولاً لدى بعض المجتمعات، مع ما وفرته هذه السياسة من حماية الطليعة المحلية من الجهود العالمية لمكافحة الإرهاب.
ويمكن الحديث في هذا الإطار عما أتاحته النزاعات المحلية في بعض الأماكن، مثل مالي والصومال وسوريا، حيث ظهرت طليعة المتشددين بوصفها قوة محلية لحماية المجتمعات المحلية، مما أدى بدوره لانتشار آيديولوجية الإرهاب في واقع متشابك دينياً وعرقياً، وغير مستقر اجتماعياً وسياسياً.
والأخطر مما سبقت الإشارة إليه أن السياسة التي اتبعتها «الراديكالية المسلحة» مكنت نخبها من اختراق الحكم والمؤسسات المحلية في بعض المجتمعات. ويمكن الاستدلال على ذلك بدور تنظيمات «الراديكالية المسلحة» في شمال غربي سوريا، وكذلك تلك المجموعات التي عززت علاقاتها مع المجتمعات المحلية، وتوسعت بشكل كبير في جميع أنحاء أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. وقد طورت «الراديكالية المسلحة» هذه العلاقات، من خلال تقديم السلع الأساسية أو خدمات الدفاع عن السكان. وتمكنت بفضل هذه العلاقات من خلق تأثيرها داخل المجتمعات المحلية، وبالتالي استطاعت التنظيمات الإرهابية تحقيق أهدافها الاستراتيجية، المتمثلة في فرض حكمها في بعض المناطق من العالم الإسلامي. وفي سياق هذه الاستراتيجية، قامت «القاعدة» بإصلاح شبكات الصرف الصحي، وتوصيل المياه والوقود للسكان في اليمن. كما أن محاكم هذا التنظيم الإرهابي، في الصومال ومالي، تقدم حلاً عادلاً للنزاعات المحلية، وتقوي نفسها من خلال تأمين الموارد. كل هذا يمكّن طليعة «الراديكالية المسلحة» من استخدام روابطها المحلية مع المجتمعات للبدء في إعادة تشكيلها وفق آيديولوجيتها المتطرفة، وتوسيع أتباعها مع مرور الوقت، مما يشكل تحدياً حقيقياً للحكومات والدول القائمة.
ويتضح إذن أن الحركات الأصولية المسلحة تستهدف من استراتيجيتها الناجحة خلق علاقات صلبة وطيدة مع المجتمعات المحلية. وجعل هذه الأخيرة عرضة للافتراس من الآيديولوجية الإرهابية التي تنشرها الطليعة المتحكمة في المؤسسات المحلية. وعليه، يجب على الولايات المتحدة مهاجمة الوسائل التي بنت بها الطليعة القتالية علاقاتها مع المجتمعات المحلية.
ومن شأن اتباع هذه السياسة الجديدة إضعاف التنظيمات الإرهابية، وإرجاعها مرة أخرى إلى هامش المجتمع العربي الإسلامي، خصوصاً إذا ما كانت الجهود الأميركية تهدف لحل النزاعات المحلية، وتقديم بديل سياسي قابل للتطبيق، بعيداً عن الصراعات الدينية والعرقية القائمة.

هزيمة المتطرفين
ولا يمكن لهذه الجهود أن تنجح إلا في ظل سياسة شاملة مندمجة لإدارة ترمب، تستحضر واقع المنافسة مع القوى العظمى. ذلك أن الاستراتيجية الأميركية الحالية تعتمد على جهودها الاستخباراتية، في مواجهة روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية، مما يدعم الاستراتيجية الحالية لمكافحة الإرهاب، ويطرح مسألة قابليتها للاستمرار مع تخفيض للموارد المالية.
وفي هذا الإطار، وفي ظل هذا الواقع الدولي، أمام الولايات المتحدة فرصة لمواجهة الجهود الروسية والإيرانية، التي سهلت توسيع نطاق «الحركة الراديكالية المسلحة»، وبالتالي إعادة صياغة استراتيجية جديدة تراعي تحولات آيديولوجية للمتطرفين، واستفادتهم من الموارد المختلفة. وكل هذا يعني أن على الولايات المتحدة تطوير وتنفيذ استراتيجية لهزيمة «الراديكالية المسلحة» التي تتجاوز مكافحة الإرهاب. ومن الناحية التفصيلية، يمكن للسياسة الأميركية الجديدة أن تتضمن خطة دقيقة تعمل بداية على عزل الجماعات «الراديكالية المسلحة» عن السكان المحليين. وسيتم تحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية من خلال إنجاز كثير من المهام الرئيسية، وهي: أولاً، قطع العلاقات بين المجتمعات وجماعات التطرف، من خلال دعم حل النزاعات المحلية ومعالجة المظالم، وتعزيز الحكم المحلي والوطني المقبول، وتزويد المجتمعات ببديل للسلع أو الخدمات؛ وثانياً، عرقلة جهود الطليعة لاختراق المجتمعات وبناء علاقات جديدة؛ وثالثاً، دعم أو تمكين أشكال مقبولة من الحكم؛ ورابعاً، تمكين وتطوير الهياكل الأمنية التي يمكن أن تعمل بدعم خارجي محدود، ولا تؤدي إلى مزيد من الصراع وتنفير السكان على المستويين المركزي والمحلي.
إن المعنى العام للسياسة الجديدة هو مهاجمة تأثير هذه الجماعات داخل المجتمعات السنية، من خلال استعادة قدرة المجتمعات على رفض جهود المتشددين لاختراقها. والهدف من ذلك هو ضمان عزل الطليعة المتطرفة، والقضاء على نفوذها في المجتمعات، والحد من تهديداتها الإرهابية.
وفي هذا السياق، يجب أن تكون السياسة الجديدة هي المعتمدة في برامج وزارة الخارجية، فيما يتعلق بترتيب الأولويات، وتكثيف الجهود، وتشكيل برامج المساعدات الخارجية والأمنية الأميركية. كما يجب أن يكون سفراء الولايات المتحدة، كرؤساء للبعثة الدبلوماسية، أصحاب مصلحة في نجاح هذه السياسة الجدية في مواجهة «الراديكالية المسلحة»، وأخيراً يجب التأكد من أن الشركاء الأميركيين يقبلون ويدعمون هذا النهج الجديد الشامل، وأن تدعم مؤسساتهم القطرية تنفيذه.
إن التغيير الرئيسي هو إعادة توجيه برامج المساعدات الخارجية والأمنية الأميركية إلى إطار استراتيجي، يهدف إلى الحد من تأثير «الحركة الراديكالية المسلحة». ورغم أن الولايات المتحدة تبنت سابقاً هذا النهج في نطاق محدود، فإن الخبرة والتجربة موجودة بالفعل داخل الوكالات المدنية والعسكرية الأميركية، فيما يخص كيفية تخطيط وتنفيذ البرامج التي من شأنها تعزيز هياكل الحكم والأمن المحلي، وتقليل مساحة عمل الجماعات المتطرفة. ومن دون شك، سيتطلب النجاح في هذا النهج أن تعمل الولايات المتحدة مع شركاء محليين وإقليميين وعالميين. ولا بد أن تضع إدارة ترمب الإطار العالمي الذي يعمل من خلاله شركاؤها، وضمان أن يتم إشراك الشركاء في الأماكن التي تطبق فيها هذه السياسة الجديدة. ويمكن التأكيد على أن هذا النوع من الاستراتيجيات التي يقودها المدنيون سوف يسفر عن نتائج طويلة الأمد. كما أنها تدعم وتمكن من رفع فعالية الشركاء للقيام بما يجب عليهم، مع تجاوز خطر تعذر تنفيذ بعض جوانب السياسة الجديدة من طرف بعض الشركاء. وعلى الولايات المتحدة أيضاً أن تتأكد من أن شركاءها يتعاونون، ولهم تعريف موحد للعدو. بشكل مركز، تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة صياغة سياسة جديدة للتعامل مع الجماعات «الراديكالية المسلحة» ودورها الإرهابي.

* أستاذ العلوم السياسية - جامعة سيدي محمد بن عبد الله (المغرب)



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.