هزيمة «الراديكالية المسلحة»... ضرورة حتمية

لمرحلة ما بعد الإرهاب

مدنيون تم إجلاؤهم من قبضة «داعش» ينتظرون في منطقة فحص تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» (أ.ف.ب)
مدنيون تم إجلاؤهم من قبضة «داعش» ينتظرون في منطقة فحص تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» (أ.ف.ب)
TT

هزيمة «الراديكالية المسلحة»... ضرورة حتمية

مدنيون تم إجلاؤهم من قبضة «داعش» ينتظرون في منطقة فحص تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» (أ.ف.ب)
مدنيون تم إجلاؤهم من قبضة «داعش» ينتظرون في منطقة فحص تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» (أ.ف.ب)

تثير الدراسات والأبحاث المتعلقة بهزيمة الإرهاب انشغال أجهزة الاستخبارات الرسمية. كما انصبت جهود الخبراء ومراكز البحث الدولية، بعد هزيمة «داعش» بداية 2019، على تقديم خبرتهم على مستوى فهم وإنتاج سياسات وطنية ودولية تمكن من الانتصار الشامل على الحركات الإرهابية، المحلية والعالمية. ويمثل التقرير الذي نشرته مؤسسة المعهد الأميركي للمشاريع، في أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، واحدة من أهم الدراسات التي تناولت فيها الباحثة كاثرين زيمرمان، المتخصصة في التهديدات الحرجة والإرهاب، موضوع مواجهة «الراديكالية المسلحة»، بوصفها مرحلة حتمية للقضاء على الإرهاب العالمي.

تنطلق الخبيرة زيمرمان من فكرة أساسية، ترى فيها أن «الولايات المتحدة الأميركية، التي تخوض حرباً ضروساً منذ 20 سنة ضد الإرهاب، قد أساءت فهم طبيعة العدو في هذه الحرب؛ ذلك أن سياسة واشنطن في هذا المجال تركز باستمرار على مجموعات، وأفراد محددين، بدا أنهم يهددون أكثر المصالح الأميركية».
فقد منحت أميركا الأولوية لتدمير «القاعدة» بأفغانستان وباكستان، وبالتالي قامت بجهود جبارة فيما يخص رصد وقتل كل من أسامة بن لادن، وزعيم «القاعدة» في العراق أبو مصعب الزرقاوي، وكذلك أنور العولقي زعيم التنظيم باليمن، وصولاً إلى جهودها غير المتوقفة حالياً التي تهدف لقتل مؤسس «داعش» أبو بكر البغدادي. كما أن سياسة واشنطن في مواجهة الإرهاب ركزت إلى حد كبير على استعادة الأراضي من هذه الجماعات، وحرمانها من الملاذ الآمن، بقصد القضاء على القيادة وغيرها من المتورطين في التخطيط للهجمات. وكانت نتيجة هذه الاستراتيجية سلسلة من الانتصارات العسكرية في ساحة المعركة، لم تولد أثراً حاسماً دائماً في الحد من التهديدات الإرهابية.

الاستراتيجية الجديدة
وبعد نحو 20 سنة من المواجهة العالمية مع الإرهاب، أصبح من اللازم إعادة تحديد العدو الحقيقي، ووضع سياسة واستراتيجية جديدة شاملة تعد الحركة «الراديكالية المسلحة» العدو الأساسي. ويعد تنظيم «القاعدة» و«داعش»، وغيرهما من الجماعات، جزءاً من الجماعات المتطرفة. وعليه، فإن السياسة الجديدة يجب أن تنطلق من منطلق مركزي، يضع الحركة والجماعات والمنظمات التي تلتزم بآيديولوجية المتشددين في صلب المواجهة الشاملة.
وتمكّن هذه الآيديولوجية المجموعات من إعادة البناء، وتوحيد جهود الأتباع في إطار هدف مشترك، حتى بعد معاناتها من الهزائم العسكرية الرهيبة. كما أن التصورات والأفكار القتالية المتطرفة، التي تأخذ طابعاً آيديولوجياً، تخلق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية الموسعة التي تتجاوز الهجمات الإرهابية، وتهديد الأمن القومي الأميركي.
وعليه، فإن كاثرين زيمرمان، المتخصصة في التهديدات الحرجة، ترى أن الاستراتيجية والسياسة الجديدة لمرحلة ما بعد الإرهاب يجب أن تركز على مهاجمة هذه الآيديولوجية وتشويه سمعتها لإضعافها. فإذا كان من المستحيل تدمير آيديولوجية المتطرفين تدميراً كلياً، ولا يمكن القضاء على جميع أو معظم أتباع هذه الأفكار المتطرفة، فإن الواقع والتاريخ يثبتان أن المسلمين رفضوا لقرون الفكر المتطرف، وهو ما يفسر ظهور تنظيماتها في أطراف المجتمع العربي والإسلامي المعاصر، وسعي هذه التنظيمات المستمر لتجميع نخبة تمثل الآيديولوجية الحربية وغطاءً ودعماً شعبياً بين المسلمين، مستغلة بذلك حالة عدم الاستقرار التي تعيشها الجغرافية العربية بعد 2011.
وفي هذا السياق، أعادت جماعات «الراديكالية المسلحة» تغيير اسمها، وهيكلة تنظيماتها، للاحتفاظ بالدعم المحلي، وإخفاء صلاتها بالجماعات التي تستهدفها أعمال مكافحة الإرهاب الأميركية. وبهذه السياسة، فصلت التنظيمات الإرهابية جهود «الجهاد» العالمية عن «القتال» المحلي، مما جعل هذه المجموعات المتطرفة أكثر قبولاً لدى بعض المجتمعات، مع ما وفرته هذه السياسة من حماية الطليعة المحلية من الجهود العالمية لمكافحة الإرهاب.
ويمكن الحديث في هذا الإطار عما أتاحته النزاعات المحلية في بعض الأماكن، مثل مالي والصومال وسوريا، حيث ظهرت طليعة المتشددين بوصفها قوة محلية لحماية المجتمعات المحلية، مما أدى بدوره لانتشار آيديولوجية الإرهاب في واقع متشابك دينياً وعرقياً، وغير مستقر اجتماعياً وسياسياً.
والأخطر مما سبقت الإشارة إليه أن السياسة التي اتبعتها «الراديكالية المسلحة» مكنت نخبها من اختراق الحكم والمؤسسات المحلية في بعض المجتمعات. ويمكن الاستدلال على ذلك بدور تنظيمات «الراديكالية المسلحة» في شمال غربي سوريا، وكذلك تلك المجموعات التي عززت علاقاتها مع المجتمعات المحلية، وتوسعت بشكل كبير في جميع أنحاء أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. وقد طورت «الراديكالية المسلحة» هذه العلاقات، من خلال تقديم السلع الأساسية أو خدمات الدفاع عن السكان. وتمكنت بفضل هذه العلاقات من خلق تأثيرها داخل المجتمعات المحلية، وبالتالي استطاعت التنظيمات الإرهابية تحقيق أهدافها الاستراتيجية، المتمثلة في فرض حكمها في بعض المناطق من العالم الإسلامي. وفي سياق هذه الاستراتيجية، قامت «القاعدة» بإصلاح شبكات الصرف الصحي، وتوصيل المياه والوقود للسكان في اليمن. كما أن محاكم هذا التنظيم الإرهابي، في الصومال ومالي، تقدم حلاً عادلاً للنزاعات المحلية، وتقوي نفسها من خلال تأمين الموارد. كل هذا يمكّن طليعة «الراديكالية المسلحة» من استخدام روابطها المحلية مع المجتمعات للبدء في إعادة تشكيلها وفق آيديولوجيتها المتطرفة، وتوسيع أتباعها مع مرور الوقت، مما يشكل تحدياً حقيقياً للحكومات والدول القائمة.
ويتضح إذن أن الحركات الأصولية المسلحة تستهدف من استراتيجيتها الناجحة خلق علاقات صلبة وطيدة مع المجتمعات المحلية. وجعل هذه الأخيرة عرضة للافتراس من الآيديولوجية الإرهابية التي تنشرها الطليعة المتحكمة في المؤسسات المحلية. وعليه، يجب على الولايات المتحدة مهاجمة الوسائل التي بنت بها الطليعة القتالية علاقاتها مع المجتمعات المحلية.
ومن شأن اتباع هذه السياسة الجديدة إضعاف التنظيمات الإرهابية، وإرجاعها مرة أخرى إلى هامش المجتمع العربي الإسلامي، خصوصاً إذا ما كانت الجهود الأميركية تهدف لحل النزاعات المحلية، وتقديم بديل سياسي قابل للتطبيق، بعيداً عن الصراعات الدينية والعرقية القائمة.

هزيمة المتطرفين
ولا يمكن لهذه الجهود أن تنجح إلا في ظل سياسة شاملة مندمجة لإدارة ترمب، تستحضر واقع المنافسة مع القوى العظمى. ذلك أن الاستراتيجية الأميركية الحالية تعتمد على جهودها الاستخباراتية، في مواجهة روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية، مما يدعم الاستراتيجية الحالية لمكافحة الإرهاب، ويطرح مسألة قابليتها للاستمرار مع تخفيض للموارد المالية.
وفي هذا الإطار، وفي ظل هذا الواقع الدولي، أمام الولايات المتحدة فرصة لمواجهة الجهود الروسية والإيرانية، التي سهلت توسيع نطاق «الحركة الراديكالية المسلحة»، وبالتالي إعادة صياغة استراتيجية جديدة تراعي تحولات آيديولوجية للمتطرفين، واستفادتهم من الموارد المختلفة. وكل هذا يعني أن على الولايات المتحدة تطوير وتنفيذ استراتيجية لهزيمة «الراديكالية المسلحة» التي تتجاوز مكافحة الإرهاب. ومن الناحية التفصيلية، يمكن للسياسة الأميركية الجديدة أن تتضمن خطة دقيقة تعمل بداية على عزل الجماعات «الراديكالية المسلحة» عن السكان المحليين. وسيتم تحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية من خلال إنجاز كثير من المهام الرئيسية، وهي: أولاً، قطع العلاقات بين المجتمعات وجماعات التطرف، من خلال دعم حل النزاعات المحلية ومعالجة المظالم، وتعزيز الحكم المحلي والوطني المقبول، وتزويد المجتمعات ببديل للسلع أو الخدمات؛ وثانياً، عرقلة جهود الطليعة لاختراق المجتمعات وبناء علاقات جديدة؛ وثالثاً، دعم أو تمكين أشكال مقبولة من الحكم؛ ورابعاً، تمكين وتطوير الهياكل الأمنية التي يمكن أن تعمل بدعم خارجي محدود، ولا تؤدي إلى مزيد من الصراع وتنفير السكان على المستويين المركزي والمحلي.
إن المعنى العام للسياسة الجديدة هو مهاجمة تأثير هذه الجماعات داخل المجتمعات السنية، من خلال استعادة قدرة المجتمعات على رفض جهود المتشددين لاختراقها. والهدف من ذلك هو ضمان عزل الطليعة المتطرفة، والقضاء على نفوذها في المجتمعات، والحد من تهديداتها الإرهابية.
وفي هذا السياق، يجب أن تكون السياسة الجديدة هي المعتمدة في برامج وزارة الخارجية، فيما يتعلق بترتيب الأولويات، وتكثيف الجهود، وتشكيل برامج المساعدات الخارجية والأمنية الأميركية. كما يجب أن يكون سفراء الولايات المتحدة، كرؤساء للبعثة الدبلوماسية، أصحاب مصلحة في نجاح هذه السياسة الجدية في مواجهة «الراديكالية المسلحة»، وأخيراً يجب التأكد من أن الشركاء الأميركيين يقبلون ويدعمون هذا النهج الجديد الشامل، وأن تدعم مؤسساتهم القطرية تنفيذه.
إن التغيير الرئيسي هو إعادة توجيه برامج المساعدات الخارجية والأمنية الأميركية إلى إطار استراتيجي، يهدف إلى الحد من تأثير «الحركة الراديكالية المسلحة». ورغم أن الولايات المتحدة تبنت سابقاً هذا النهج في نطاق محدود، فإن الخبرة والتجربة موجودة بالفعل داخل الوكالات المدنية والعسكرية الأميركية، فيما يخص كيفية تخطيط وتنفيذ البرامج التي من شأنها تعزيز هياكل الحكم والأمن المحلي، وتقليل مساحة عمل الجماعات المتطرفة. ومن دون شك، سيتطلب النجاح في هذا النهج أن تعمل الولايات المتحدة مع شركاء محليين وإقليميين وعالميين. ولا بد أن تضع إدارة ترمب الإطار العالمي الذي يعمل من خلاله شركاؤها، وضمان أن يتم إشراك الشركاء في الأماكن التي تطبق فيها هذه السياسة الجديدة. ويمكن التأكيد على أن هذا النوع من الاستراتيجيات التي يقودها المدنيون سوف يسفر عن نتائج طويلة الأمد. كما أنها تدعم وتمكن من رفع فعالية الشركاء للقيام بما يجب عليهم، مع تجاوز خطر تعذر تنفيذ بعض جوانب السياسة الجديدة من طرف بعض الشركاء. وعلى الولايات المتحدة أيضاً أن تتأكد من أن شركاءها يتعاونون، ولهم تعريف موحد للعدو. بشكل مركز، تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة صياغة سياسة جديدة للتعامل مع الجماعات «الراديكالية المسلحة» ودورها الإرهابي.

* أستاذ العلوم السياسية - جامعة سيدي محمد بن عبد الله (المغرب)



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.