تحقيق النمو الاقتصادي والمحافظة على الاستقرار النقدي مسؤولية البنك المركزي

أغلبية اللبنانيين انقلبت على أشخاص النظام مع حرصها على مؤسسات الدولة

محتجون داخل مبنى جمعية المصارف بعد أن أغلقوا المدخل بالسلاسل (أ.ب)
محتجون داخل مبنى جمعية المصارف بعد أن أغلقوا المدخل بالسلاسل (أ.ب)
TT

تحقيق النمو الاقتصادي والمحافظة على الاستقرار النقدي مسؤولية البنك المركزي

محتجون داخل مبنى جمعية المصارف بعد أن أغلقوا المدخل بالسلاسل (أ.ب)
محتجون داخل مبنى جمعية المصارف بعد أن أغلقوا المدخل بالسلاسل (أ.ب)

ينبغي في الأزمات الكبرى استخلاص العبر بعقل بارد، وإعادة تصويب البوصلة إلى جذور الأزمة ومسبباتها، مع التبصر في وقائعها. فقد كشف الحراك الشعبي المتواصل الثغرات الموجودة داخل الجسم اللبناني وتحديدا في التركيبات السياسية والخيارات الاقتصادية والمالية المعتمدة منذ التسعينات حتى الآن، وأظهر مدى فشل أداء هذه الدولة المركزية على مختلف الصعد.
وليس من الجائز مطلقا القفز فوق معطيات الواقع الجديد التي أفرزتها ساحات التظاهر والاعتصام، والمتواصلة بزخم مشهود منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول). وهذا تاريخ فتح صفحة جديدة نتوخاها ناصعة في تاريخ لبنان الحديث.
فهذا الحراك غير المسبوق في إعداده وتنوعه الاجتماعي وحجمه المذهل دون كلل على مساحة الوطن واختراقه لمحظورات بالية طالما اعتقدنا أنها أصبحت جزءا من حياتنا وثقافتنا وعبوره خصوصا للقيود الطائفية البغيضة، نسف أعمدة الهيكل المتداعي، ومن أول حقوقه المساهمة الفعالة في بناء دولة مدنية تستمد شرعيتها من الشعب الذي هو مصدر كل السلطات.
وفقا لهذه المعادلة، نحن نعتبر أن الربط وثيق ومحكم بين المسارين السياسي والاقتصادي. ويصعب علينا تصور أي مخططات ذات جدوى تفيد في إخراج الأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية من حال التدهور المريع الذي تدفع به الإدارة السياسية المسيطرة حاليا بادعاء أنها تستمد سلطاتها من الوكالة القانونية في الانتخابات الأخيرة، في ظل إنكار حقيقة النقص الأصلي في مرجعية التوكيل المستند إلى 40 في المائة فقط من إجمالي الناخبين، وانضمام أكثر من نصف هؤلاء إلى الشارع المنتفض في وجه التركيبة كلها.
لقد صار معروفا أن مفتاح الحل المنشود يكمن في إقرار هذه التركيبة بانقلاب أغلبية عظمى من الشعب على النظام وأشخاصه وحرصها الواعي على الدولة ومؤسساتها. لذا؛ فإن المعالجة السليمة وجب أن تنطلق من الخضوع لصوت الناس ومطلبهم بتشكيل حكومة مستقلة من ذوي العلم والاختصاص والخبرة ومن خارج نادي «الوجوه» التي حكمت أو تحكمت بالبلاد ومقدراتها على مدى ثلاثة عقود متتالية. ويعي المنتفضون أن تطعيم هذه الحكومة بوجوه سياسية وأمنية وقضائية مشهود لها بالكفاءة والنزاهة قد يحمل صفة الضرورة في المرحلة الحالية.
ومن الثابت، أن الحكومة العتيدة ستضع في حسابها الأولي أن الفشل الاقتصادي والسياسي في لبنان هما نتيجة لارتهانِ هذه الطبقة للخارج من جهة والتبعية الداخلية للزعماء. فكل الإنفاق الرسمي والاقتراض والاستدانة منذ أوائل تسعينات القرن الماضي لم تؤمن البنى التحتية الضرورية التي تحتاج إليها البلاد من أجل تشجيع الاستثمار وبناء اقتصاد متين. ومن المسلم به أن إمكانات اللبنانيين المقيمين والمغتربين وقدراتهم العلمية والعملية والمالية لا تنوء بحمل أثقال البلد واقتصاده إذا ما تم الشروع بإصلاحات بنيوية وإدارية ومالية وقضائية شاملة، إلى جانب الشروع فورا في استعادة الأموال المنهوبة.
ويستدل على هذا الفشل بنتائجه المحققة. فكل الإنفاق الرسمي والاقتراض والاستدانة منذ أوائل تسعينات القرن الماضي لم تؤمن البنى التحتية الضرورية التي تحتاج إليها البلاد من أجل تشجيع الاستثمار وبناء اقتصاد متين. ولم تنجح السياسات المعتمدة في تمكين لبنان من بناء اقتصاد بحجم الديون المتراكمة، مما أفقده القدرة على تأمين مصادر ثابتة للعملة الصعبة.
وهنا لا يمكن التمييز بين الطبقة السياسية والصف الأول في الهيئات الاقتصادية؛ لأن لديهم رزمة مصالح واحدة. وما النزاع الداخلي الدائم سوى مجرد نزاع شكلي لتبرير المساعدات المالية من الخارج، بينما في الواقع هناك تفاهم ضمني ومحاصصات فيما بينهم.
لقد حجبت الموارد المالية الخارجية كثيرا من مواطن الاعوجاج في إدارة الدولة واستشراء الفساد والمحسوبيات ونهب المال العام. فالاستثمارات العربية سابقاً كانت تضخ ما بين أربعة وخمسة مليارات دولار سنوياً، وتحويلات اللبنانيين في الخارج كانت في حدود تسعة مليارات دولار، فضلا عن إتاحة باب الاقتراض الخارجي. وهذا الدفق تكفل بسد خلل الميزان التجاري وتحقيق فوائض «رقمية» لكن غير اقتصادية في ميزان المدفوعات.
لكن تبدل الأمور منذ عام 2011، والحروب في بعض دول المنطقة، إضافة إلى تقلبات أسعار النفط، خففت تباعا تدفق العملات الأجنبية بلوغا إلى حد الاختناق هذا العام. فارتفعت وتيرة عجز الميزان التجاري إلى نحو 17 مليار دولار، وتفاقم عجز ميزان المدفوعات إلى أكثر من 6 مليارات دولار، وهو رقم قياسي تاريخي ومرشح لزيادات مؤلمة في حال عزل محفظة «اليوربوندز» لدى البنك المركزي، التي بدأ احتسابها منذ عامين تقريبا. ونما حجم الدين بمتوسط 7 في المائة سنويا، ليصل إلى نحو 87 مليار دولار، أي ما يفوق 155 في المائة من الناتج المحلي. علما بأن أرقام الدين المعلنة لا تتضمن كامل المستحقات المتوجبة على الدولة، ومنها مستحقات للضمان الاجتماعي والمستشفيات والمقاولين لا يقل مجموعها الفوري عن 3 مليارات دولار.
ومن المفترض أن يساهم البنك المركزي بتحقيق نمو اقتصادي مستمر مع السيطرة على التضخم والمحافظة على الاستقرار النقدي، والاستقرار يفترض وجود هوامش لسوق قطع كفيلة بإيجاد هذه السوق. فانتظام سوق القطع هو من مسؤولية البنك المركزي ولكن بهوامش معينة؛ لأنه عندما توجد الهوامش تخلق الأسواق فنحن لا نعيش في ظل نظام اقتصادي ماركسي، ومن الضروري في ظل النظام الاقتصادي الحر أن نحافظ على حركة العرض والطلب ضمن هوامش مقبولة ومعقولة. ونحن نعتبر أن السياسات النقدية التي يتبعها الحاكم رياض سلامة تخالف الدستور اللبناني، وهو يلغي سوق القطع وسوق النقد معا؛ أي حركة العرض والطلب.

- خبير اقتصادي وأستاذ جامعي



فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
TT

فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)

لعلّه من المغري لكل جيل أن يظن أنه يعيش تغيّراً حادّاً، وأنه يقف عند نقطة تحول في تاريخ البشرية. ومع ذلك، فإن قول ذلك اليوم هو بالتأكيد أكثر صحة من أي وقت مضى. والدليل -لا جدال فيه- أن أبناء جيلي (جيل طفرة المواليد) في فترة ما بعد الحرب العالمية يعيشون تجربة غير عادية؛ لقد وُلدوا في عالم واحد، بين الدول الأوروبية والأميركية، وسوف يختفون في عالم آخر، معولم، لا مركزي، ومن دون أي حدود مكانية.

في لغة العلاقات الدولية يعني ذلك تحولاً وحشياً وانتقالاً غير منضبط من نظام مشترك بين الدول ومهيمن، عمره نحو 4 قرون، إلى عولمة متكاملة لم يعد لها مركز، ولا قيادة واضحة أو حاسمة، التي تتشكّل من خلال عدد من الجهات الفاعلة التي تخضع لأوضاع مختلفة (سياسية، واقتصادية، ودينية... إلخ) وقبل كل شيء من خلال التواصل المعمم.

من السهل تخمين العوامل التي تقف وراء هذا التمزق. إنها بالتأكيد مسألة التقدم التكنولوجي الذي ألغى المسافات، وزاد بشكل خيالي من التبادلات، ورؤية الجميع للجميع، مثل الأحداث الكبرى، بطرق لم يكن من الممكن تصوّرها في العالم من قبل.

تحوّل جدار برلين إلى رمز لانقسام أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إلى مجالَيْن سوفياتي وغربي (أ.ف.ب)

يُضاف إلى ذلك مزيد من الأسباب السياسية: إنهاء الاستعمار شبه الكامل الذي شهد ولادة الجنوب العالمي، بدءاً من الانتصار المنهجي للضعفاء على الأقوياء، وسقوط جدار برلين، الذي كَسر القواعد التي تنظّم التنافس بين القوى القديمة، لقد تم إضفاء الطابع الرسمي عليها في أعقاب عام 1945، وكان البناء التجريبي للعولمة أكثر تعقيداً بكثير من مجرد ازدهار الليبرالية الجديدة التي كانت تُشير بسذاجة إلى «نهاية التاريخ». وتحقيق الهيمنة الأميركية، ولكنه أكثر إثارة للجدل من أي وقت مضى.

لفترة طويلة، لم نرغب في رؤية الآثار الهائلة لمثل هذه الطفرات. كان انتصار المعسكر الغربي على المعسكر السوفياتي بمثابة نهاية للثنائية القطبية، من خلال خلق وهم السلام الأميركي الذي حافظ حتى على وهم نهاية التاريخ وانتصار النموذج الغربي.

تم الحفاظ على الـ«ناتو»؛ حيث كان يعتقد أنه لا ينبغي المساس بالفريق الفائز. وكانت خيبة الأمل قوية: فقد هُزمت الولايات المتحدة في الصومال، والعراق، ثم في أفغانستان، وسرعان ما ظهرت الصين باعتبارها المستفيد الأكبر من العولمة التي كانت تُحرر نفسها من المجال الأميركي. كان هذا الإحباط الشديد هو السبب وراء التراجع الترمبي والقومي والهويتي والحمائي، الذي سرعان ما سيطر على أوروبا، التي كان عليها أن تعاني من النكسات التي جلبها العالم الجديد، خصوصاً في أفريقيا.

هذا في الواقع خرق يُبطل القواعد القديمة، ولكنه أيضاً يُبطل ممارسات ورؤى وحتى مفاهيم «جغرافيتنا السياسية» القديمة: لن يتعافى حتى تصبح اللعبة العالمية الجديدة، المكونة من الاعتماد المتبادل والتنقل والديناميكيات الاجتماعية، أكثر كفاءة بشكل لا نهائي.

ثلاثة إخفاقات

من استراتيجيات القوة القديمة هو كتابة تاريخ جديد. أولئك الذين يعرفون كيفية القيام بذلك سوف يفوزون، أما الآخرون، الراسخون في حنينهم، فسيخاطرون بأن يجدوا أنفسهم معزولين ومهمشين بشكل تدريجي. وهكذا شهدت العقود الأولى من هذه الألفية الجديدة ثلاثة إخفاقات على الأقل: إخفاق القوة الكلاسيكية، وإخفاق التحالفات التقليدية، وإخفاق التراجع الوطني. الأمر متروك للجميع لاستخلاص العواقب.

إن فشل القوة يُشير إلى تقادم الاستراتيجية التي استلهمها كلوزفيتز، فلم تعد الحرب قادرة على حل المشكلات التي تخلّت عنها السياسة في السابق، وذلك بسبب افتقارها إلى الفاعلية التي كانت تنسب إليها بالأمس. لم تعد هناك حرب تحمل هذه «المعركة الحاسمة»، التي أشار إليها الاستراتيجي البروسي، التي حدّدت الفائز بوضوح.

وبعيداً عن كونها علامة القوة، فإن الحرب اليوم ترتدي ثياب الضعف: حرب الأقوياء، الذين أصبحوا عاجزين في الصراعات الأفريقية والآسيوية والأوروبية اليوم، حرب الأطراف الذين يذهبون في أغلب الأحيان إلى الصراع، ولم يعودوا في صراعات. باسم السلطة، ولكن تحت تأثير التحلل المؤسسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. لهذه الأسباب تتتابع اتفاقات السلام، ولكن بقدر متزايد من عدم الفاعلية، في حين تستنزف القوى الإقليمية والعالمية نفسها دون أن تكسب شيئاً.

أدى إنهاء الاستعمار إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول (أ.ب)

إن عجز القوة، المرتبط بالعولمة القائمة على الاعتماد المتبادل والشمول المعمم، لا يدمّر فكرة الهيمنة القديمة فحسب، بل أيضاً فكرة التحالف أو الكتلة أو المعسكر. لقد أدى إنهاء الاستعمار، والفرص التي أتاحها مؤتمر باندونغ، ثم سقوط جدار برلين، إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول، التي أدركت تدريجياً أن التأثيرات غير المتوقعة كانت أكثر ربحية بكثير من التحالفات المبرمجة مسبقاً. وعلى هذا، فإن العالم القائم على تحالفات تواجه بعضها بعضاً قد نجح في عالم مجزّأ ومرن؛ حيث أصبحت «التحالفات المتعددة» أو الشراكات المرنة والمتغيرة هي القانون الآن. ويجد العالم الغربي نفسه معزولاً، وهو محاصر في حصن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ينضح بجو من الثقة بالنفس يُحافظ على عدم الثقة بأولئك الذين هم خارجه، خصوصاً في الجنوب العالمي.

هناك إغراء كبير لتصفية الحسابات، بإحياء القومية والسيادة والانغلاق على الذات، وغالباً ما يذهب الأمر إلى حدّ الدلالات العنصرية، أو على أي حال هرمية. ومع ذلك، فإن هذا الموقف لا يسفر عن شيء؛ كما قال الفيلسوف تزفيتان تودوروف: «ليس لدى القوميين ما يبيعونه». وهذا التأكيد واضح في عالم تحكمه العولمة؛ حيث يتعيّن علينا أن نتعلّم كيف نعيش في نظام دولي يتسم بالتبادل. وتخاطر الشعبوية الوطنية بتعزيز قوتها تحت تأثير الخوف، في حين تظل عالقة في موقف احتجاجي حصري. إنها علامة من علامات زمن التحولات؛ حيث يبدو خيار الاحتجاج أفضل من تحمُّل مسؤولية الحكم.

* خبير فرنسي في العلاقات الدولية