«الواقعية» تنتصر على «الثوريين» في تونس

غالبية هشة و«ترويكا» ضعيفة في البرلمان الجديد

«الواقعية» تنتصر على «الثوريين» في تونس
TT

«الواقعية» تنتصر على «الثوريين» في تونس

«الواقعية» تنتصر على «الثوريين» في تونس

بعد أقل من شهر من تنصيب الرئيس التونسي قيس سعيّد، الذي فاز بثلاثة أرباع الأصوات بعدما رفع شعارات ثورية، عدل البرلمان الكفة في الاتجاه المعاكس، من خلال إعلان تحالف سياسي استراتيجي جديد بين «ثلاثي حاكم» جديد يضم حزب «حركة النهضة» الإسلامي، والمنشقين عن حزب الباجي قائد السبسي «نداء تونس»، وحزب «قلب تونس» بزعامة رجل الأعمال نبيل القروي. وكان القروي وحزبه نافسا بشراسة قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية، و«النهضة» بزعامة راشد الغنوشي في الانتخابات البرلمانية، خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
فاجأ هذا المنعرج معظم السياسيين والمراقبين في تونس وخارجها، وتباينت ردود الفعل عليه لأنه سيؤثر في المشهد السياسي المقبل، وسط بوادر تشكيل «ترويكا جديدة» قد تتحكم بتونس خلال السنوات الخمس المقبلة.
كشف فوز زعيم حزب «حركة النهضة» راشد الغنوشي برئاسة البرلمان التونسي، ومعه الناطقة الرسمية باسم حزب «قلب تونس» سميرة الشواشي نائبة أولى للرئيس القيادي السابق في حزب «نداء تونس» طارق الفتيتي نائباً ثانياً له عن «طبخة سياسية» أُعدَّت على نار هادئة بين الحزبين الفائزين بالمرتبتين الأولى والثانية في الانتخابات البرلمانية، والمقربين منهما، من بين رموز النظام السابق، مثلما أوردت المحامية سامية عبو البرلمانية والقيادية في حزب «التيار الديمقراطي» اليساري.
واتهم المحامي هيكل المكي، القيادي في حزب «الشعب العروبي» ورفاقه قيادة «النهضة» بتنظيم «مشاورات سرية مع حزب (قلب تونس) بزعامة نبيل القروي» أسفرت عن التحالف الذي برز فجأة في البرلمان، بينما كانت تنظم مشاورات علنية مع حزبيهما اليساريين والقوميين (الثوريين) تأهباً لتشكيل الحكومة المقبلة.

مفاوضات تحت الطاولة
في السياق نفسه، اتهم الأمين العام لحزب الشعب القومي العربي والنائب في البرلمان الجديد زهير المغزاوي «حركة النهضة» بالمناورة وتنظيم «مفاوضات تحت الطاولة مع نبيل القروي وحزب (قلب تونس)» في الوقت الذي تتفاوض فيه علناً مع حزبه ومع حزب «التيار الديمقراطي»، بزعامة المحاميَيْن محمد عبو وغازي الشواشي، بدعوى «التمهيد لتحالف بين القوى الوفية للثورة».
وأورد المغزاوي أن الوفد المفاوض في «النهضة» طلب من حزبيهما التصويت لرئيسها الغنوشي في ترشحه لرئاسة البرلمان، من دون أن تقديم تنازلات فيما يخص تشكيل الحكومة. وانتقد الأمين العام لحزب الشعب وحلفاؤه في حزب «التيار الديمقراطي»... «عدم تجاوب قيادة (النهضة) مع مطالب الحزبين»، وبينها إسناد حقائب التربية والثقافة والتعليم العالي والداخلية والعدل والوظيفة العمومية لشخصيات ترشحها قيادتهما.
ونفى المغزاوي الاتهامات التي وجهها قياديون في «النهضة»، بينهم رئيس مجلس الشورى الوزير السابق عبد الكريم الهاروني، لحزبي «التيار» و«الشعب» بـ«تعمد التصعيد ومحاولة تعطيل الحوار بخصوص تشكيل الحكومة ورئاسة البرلمان».

حزب الرئيس؟
في المقابل تابع مسؤولون ونشطاء في «النهضة»، بينهم رئيس المكتب السياسي والبرلماني نور الدين العرباوي، والمستشار رضوان المصمودي والإعلامي نور الدين عويديدي، تبرير تحالف قيادتهم المفاجئ مع حزب «قلب تونس» وزعيمه نبيل القروي، الذي كانوا يتهمونه بالتهريب والفساد وتبييض الأموال والتخابر مع ضابط إسرائيلي سابق وساندوا إحالته على القضاء. واختزلت التبريرات التغيير السريع في موقف قيادة «النهضة» إزاء مَن كانت تتهمهم بالفساد بما وصفوه بـ«مزايدات قيادات حزبي التيار والشعب (وتعمدهما التصعيد والاستفزاز) ومحاولة فرض شروط تعجيزية على الحزب الفائز بالمرتبة الأولى، أي (النهضة)، من بينها منعه من تسلم رئاسة الحكومة ووزارات السيادة».
أيضاً، ذكر قياديون في «النهضة»، بينهم الناطق الرسمي باسمها، البرلماني عماد الخميري، بكون الأطراف «الثورية» التي راهنت «النهضة» على الشراكة معها أول الأمر، واعتبرتها الأقرب إليها «افتعلت أزمات»، وحاولت استبعاد «النهضة» من المواقع المهمة في الدولة، وتشكيل «حكومة الرئيس»، أي حكومة يعين رئيسها وأعضاءها رئيس الجمهورية قيس سعيد... وليس البرلمان.
وكان قد تصدّر الدعاة إلى «حكومة الرئيس» خلال الأسبوعين الماضيين قياديون في حزب «الشعب»،
بينهم الوزير السابق للتربية سالم الأبيض، والأمين العام للحزب زهير المغزاوي. ورد عليهم قياديون ونشطاء في «النهضة» باتهامهم بـ«محاولة الانقلاب على الدستور»، ونشروا صوراً عن لقاءاتهم مع الرئيس السوري بشار الأسد، ووصفوهم بـ«الشبيحة» و«القومجيين».
كذلك أعلن العجمي الوريمي، القيادي في «حركة النهضة» تمسك حركته بـ«دستور 2014» الذي ينصّ بوضوح على تكليف الحزب الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية تشكيل الحكومة. ولا يتدخل رئيس الجمهورية حسب الدستور إلا بعد شهرين في صورة فشل هذا الحزب في مهمته.

محاربة الفساد.. و«الدواء المرّ»
لكن ماذا عن شعار «محاربة الفساد والفاسدين» الذي برز خلال الحملة الانتخابية الرئاسية والبرلمانية على لسان غالبية الزعماء السياسيين والمرشحين، بمن فيهم الرئيس قيس سعيّد وراشد الغنوشي ورفاقه في قيادة «النهضة»، ومرشحهم للانتخابات الرئاسية المحامي ورئيس البرلمان السابق عبد الفتاح مورو؟ هل سيكون سهلاً تمرير «الدواء المرّ» لعشرات الآلاف من الشباب والطلاب والنشطاء اليساريين والإسلاميين والحقوقيين الذين انخرطوا مجدداً في الشأن العام والعملية الانتخابية، وصدّقوا وجود نية لدى السياسيين لمحاربة الرشوة والفساد ومحاكمة كبار المتهمين بالضلوع فيه، وبينهم زعيم حزب «قلب تونس» نبيل القروي وشقيقه البرلماني ورجل الأعمال غازي القروي؟
المستشار السابق لرئيس «حركة النهضة» والوزير السابق لطفي زيتون، الذي عارض منذ مدة «التوجهات الثورجية والشعبوية» لبعض قيادات حركته، دعا مجدداً إلى «الواقعية» و«البراغماتية»، وطالب تلك القيادات «بمصارحة الشعب وقواعد الحركة بالحقيقة». وعاتب زيتون تلك القيادات، لأنها سايرت سابقاً «الموجة الثورجية»، وانخرطت في معارك سياسية «ليس لها مبرر» و«غير واقعية، ولا تتماشى مع موازين القوى محلياً ودولياً».
واعتبر زيتون أن المنعرج السياسي الذي برز في البرلمان، من خلال تحالف «النهضة» مع «قلب تونس» والمنشقين عن حزب «النداء» وممثلي «النظام القديم»، يجب أن يدفع كل السياسيين التونسيين نحو «الاعتدال والواقعية والتعامل بمصداقية مع قواعدهم».

تقاطع مصالح
في هذا السياق العام، هل يمكن وقف دوران السياسيين في حلقة مفرغة بعد انتخابات رفعوا فيها أمام الشعب سقف تعهداتهم، وعلى رأسها معالجة معضلات الفقر والبطالة وتدهور الخدمات في القطاع العام؟ وكيف الخروج من المأزق السياسي في مرحلة تراكمت فيها الصعوبات المالية للدولة والأزمات الاقتصادية والاجتماعية الهيكلية للبلاد؟
المنسّق العام لحزب «قلب تونس» البرلماني حاتم المليكي، وعدد من قادة «النهضة» مثل البرلمانية يمينة الزغلامي، اعتبروا أن «التجاذبات السياسية السابقة بين قيادات (النهضة) و(قلب تونس) كانت جزءاً من الحملة الانتخابية، وقد طُوِيت هذه الصفحة اليوم، إذ أصبحت الأولوية تعطى لتقاطع المصالح وليس للشعارات». كما أورد البرلماني السابق العجمي الوريمي أن «أغلب نواب حزب (قلب تونس) كانوا أعضاء في حزب (نداء تونس)، بزعامة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، وبالتالي فإن منطق تقاطع المصالح يبرر الشراكة بينهم وبين قيادات حزب (النهضة) وحلفائهم».
وقد ذهب راشد الغنوشي زعيم «النهضة» ورئيس البرلمان الجديد بعيداً عندما رد على منتقديه في أول تصريح له بعد انتخابه قائلاً: «الأغبياء وحدهم لا يتطوّرون».
وتجاهل الغنوشي الحملة التي استهدفته وقيادة «النهضة» في المواقع الاجتماعية، والاتهامات التي وُجّهت إليه، وبينها «التصالح مجدداً مع النظام القديم»، من خلال تحالفه مع حزب القروي، على غرار ما فعل في 2014 مع حزب قائد السبسي.

غالبية هشة
من جانب آخر، ثمة مَن يتساءل: إلى أي حد يمكن أن تصمد الأغلبية البرلمانية النسبية التي صوتت لراشد الغنوشي رئيساً للبرلمان وللقيادية في حزب «قلب تونس» سميرة الشواشي وللقيادي السابق في حزب «نداء تونس» طارق الفتيتي نائبين للرئيس؟
حسب نتائج التصويت، تبدو هذه الأغلبية هشة نسبياً. إذ فاز الغنوشي بـ123 صوتاً من بين 217 نائباً، وفازت الشواشي بـ109 أصوات فقط. وتعذر حسم ملف النائب الثاني للرئيس بسهولة فوقع اللجوء إلى تأجيل التصويت 24 ساعة، ثم إلى تنظيم دورتي اقتراع.
وبدا واضحاً أن الغنوشي حصل على أصوات نواب حركته الـ52 ونواب «قلب تونس» الـ38، ثم أصوات 21 نائباً إسلامياً ليسوا أعضاء في «النهضة» ترشحوا ضمن قائمة «ائتلاف الكرامة» التي يتزعمها المحامي الشاب سيف الدين مخلوف. أيضاً صوّت لفائدته مستقلون ومنشقون آخرون عن حزب «نداء تونس» بعضهم من بين أنصار رئيس الحكومة المتخلية يوسف الشاهد والأمين العام لحزب «مشروع تونس» حسونة الناصفي. وفي المقابل، لم يصوت قسم ممن صوتوا للغنوشي لمرشحة حزب القروي، ولا للفتيتي، ويرجح أن يكونوا أساساً نواب «ائتلاف الكرامة» الـ21.

البيض ليس في سلة واحدة
في الوقت نفسه، أفرزت انتخابات رئيس البرلمان ونائبيه واقع ابتعاد «النهضة» و«قلب تونس» وحلفائهما من رموز المنظومة القديمة عن الرهان على طرف واحد، وتبين أنهم لا يريدون وضع كل بيضهم في سلة واحدة، فلقد حوّل عدد من نوابهم أصواتهم عند انتخاب النائب الثاني للرئيس إلى مرشح «ائتلاف الكرامة» الإسلامي، بينما صوّت «حلفاؤهم» لمرشح «النظام القديم»، ويضم منشقين عن حزب «نداء تونس» وعن حزب يوسف الشاهد؛ فهل يمكن بمثل هذه الفسيفساء تشكيل حكومة قوية تدعمها على الأقل 3 أحزاب سياسية في البرلمان؟
المؤشرات، لتاريخه، غير مطمئنة. وقد تتضح الصورة، ويتشكل المشهد السياسي الجديد، بعد مشاورات الكواليس الجديدة حول رئيس الحكومة الذي اقترحته «حركة النهضة» على رئيس الجمهورية قيس سعيّد بعد مشاوراتها مع حلفائها داخل البرلمان.

كتلة برلمانية «ثورية» تنافس {النهضة}
> فشل البرلماني يسري الدالي مرشح كتلة «ائتلاف الكرامة» ذات الميول الإسلامية في الفوز بمنصب النائب الثاني لرئيس البرلمان أمام مرشح «العائلة الوسطى»، طارق الفتيتي، القيادي في الحزب الحاكم السابق «نداء تونس»، بزعامة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي. وكان يسري الدالي قد تولى سابقاً مسؤوليات في وزارة الداخلية بصفته مختصاً في علم النفس وعلم الاجتماع. ولقد برز منذ خروجه للتقاعد من وظيفته بقربه من الإسلاميين المستقلين، وعدد من المنشقين عن «النهضة»، بزعامة المحامي الشاب سيف الدين مخلوف، والكاتب والشاعر الشاب عبد اللطيف العلوي. وكان من بين مفاجآت الانتخابات البرلمانية الجديدة فوز قائمة «ائتلاف الكرامة» بـ21 مقعداً في البرلمان الجديد، رغم عدم وجود أي حزب يدعمها. وبحكم فوز هذا الائتلاف «المستقل» بالمرتبة الرابعة في الانتخابات، ترجح أطراف كثيرة في تونس أن يتطور إلى حزب سياسي إسلامي منافس لـ«حركة النهضة».
وللعلم، يتميز هذا الائتلاف بحدة انتقاداته للمنظومة القديمة التي حكمت تونس منذ 1956، بزعامة الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، ثم المنظومة التي تحكم البلاد منذ «ثورة يناير 2011» بمكوّناتها اليسارية والإسلامية والليبيرالية. كذلك، تميّز خلال الحملة الانتخابية بانتقاداته لفرنسا والعواصم الغربية ولإسرائيل وللاتفاقيات التي أبرمها الزعيم بورقيبة معها قبل الاستقلال.
وخلافاً لبقية السياسيين، برزت قيادة الائتلاف بنقدها الواضح والعنيف للقيادات النقابية التي اتهمتها بالتسبب في أزمة البلاد الاقتصادية بسبب آلاف الإضرابات التي نظمتها منذ الإطاحة بحكم زين العابدين بن علي. لكن بعض البرلمانيين، الذين نجحوا في الانتخابات ضمن هذا الائتلاف يُحسبون على التيار السلفي، وبينهم خطباء جوامع خبرتهم محدودة بالملفات الاقتصادية والمالية، ممن سبق لهم توجيه انتقادات عنيفة للسياسيين العلمانيين وللزعماء النقابيين.
غير أن قيادة «النهضة» أبدت حرصها على بناء جسور مع هذا «الائتلاف الإسلامي»، وعقد رئيسها راشد الغنوشي لقاءات مطوّلة مع عدد من زعمائه قبل الانتخابات، وبعدها للتنسيق معها. لكن مؤشرات جديدة توحي باحتمال هجرة قطاع من الغاضبين إليها رداً على مصالحة قيادة «النهضة» مجدداً مع رموز «النظام القديم»، وهو ما اعتبروه «ابتعاداً عن شعارات الثورة».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.