«خاصّ الخاصّ في الأمثال»... معاني حكمة وملامح مجتمع

باحثان لبنانيان يعودان إلى الثعالبي

TT

«خاصّ الخاصّ في الأمثال»... معاني حكمة وملامح مجتمع

إنّ المهتمّ بالثعالبي ومصنّفاته سيتوقّف مليّاً عند باحثين ارتبطا به في الحقل الأكاديمي، وهما د. رمزي بعلبكي ود. بلال الأرفه لي، اللذين حقّقا سابقاً كتابين للثعالبيّ: كتاب زاد سفر الملوك: في السفر ومدحه وذمّه ومحاسن الأخلاق فيه، وكتاب مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب وبدائع الأوصاف وغرائب التشبيهات، فضلاً عن دراسة للدكتور الأرفه لي حول الكتاب الأشهر للثعالبي «يتيمة الدهر» نشرت بالإنجليزية.
إنّ عناية هذين الباحثين بأبي منصور الثعالبي ليست محطّ غرابة، فهو الأديب الناقد المتذوّق للأدب كثير التصنيف فيه. وهو في كتبه ينقل عن مصادر أدبيّة من القرنين الثالث والرابع، لكنّه يرتكز أكثر على ما سمعه من روايات في أثناء ترحاله الكثير، مما يجعل مصنّفاته خزانة أدبيّة أمينة لنتاج عصره وما سبقه. ولا تقتصر أهمّيتها على مضمونها الأدبي، شعراً كان أم نثراً، فالثعالبي معروف بتجديده المنهجيّ، وهو في تبويبه للمادّة وترتيبها يثير لدى الدارسين عدداً من التساؤلات. ويقدّم معرفة بطبقات المجتمع وتراتبيّتها، أو بجغرافية البلاد الإسلاميّة وتقسيمها.
وإنّ كتاب الثعالبي المعنون «خاصّ الخاصّ» قد حُقّق ونشر مراراً، لكنّه ليس الكتاب محطّ حديثنا. فالأخير هو «خاصّ الخاصّ في الأمثال»، ولم يغفل المحقّقان عن الإشارة إلى مواطن التشابه بين الكتابين في موضعها. ويندرج كتابنا ضمن كتب المختارات الأدبيّة، وقد جعله الثعالبي في الأمثال التي كان مولعاً بها، إذ ليس هذا الكتاب مصنّفه الوحيد فيها. ويكشف التحقيق عن أوجه تكرار مادّته في غير مؤلّفٍ له، وهو الذي عدّه المحقّقان دلالة على براعته في التأليف وإعادة التأليف وتقديم مؤلّفاته هدايا.
ويقع الكتاب في ثلاثة أقسامٍ مبوّبة حسب الموضوعات، ويختار الثعالبي لكلّ قسمٍ طريقة خاصّة في عرض المادّة، مبتعداً بذلك عن النسق المعجمي الذي عُرفت به كتب الأمثال. وقد جعل القسم الأوّل فيما يُتمثّل به من ألفاظ القرآن، ويستغرق هذا القسم نصف الكتاب تقريباً. ويبدأ الكاتب كلّ بابٍ من أبوابه السبعين بآية أو أكثر، ثمّ يدرج تحتها ما جاء في معانيها من الخبر وأمثال العرب والعجم وكلام الخاصّة والعامّة. وهو في هذه التوليفة يجمع بين الأمثال القديمة التي أبقى عليها الإسلام - مغيّراً في دلالتها أحياناً - والأمثال النبويّة، والأمثال المولّدة أو المحدثة بعد نزول القرآن.
ويحافظ القسم الثاني على هذا التنوّع في مصادر المادّة، ويجمع فيه الثعالبي أمثال طبقات الناس وذوي المراتب المتباينة والصناعات المختلفة. ويعتمد التدرّج الطبقي، بدءاً بالأمثال السلطانيّة والملوكيّة، انتقالاً إلى الأمثال المعنيّة بالوزراء والكتّاب والبلغاء، وانتهاءً بأمثال النساء فالصبيان فالعبيد. وهذه ليست المرّة الأولى التي يتخطّى فيها الثعالبي نظرة الأديب المتمكّن واسع الاطّلاع إلى نظرة الناقد الاجتماعيّ، فيمنح القارئ تصوّراً لمكانة كلّ طبقة في السلّم الاجتماعي آنذاك، وموقعها بالمقارنة مع غيرها من الطبقات.
أمّا القسم الثالث - وهو الأقصر - فيجمع فيه مختارات من الأمثال التي جاءت على أفعل من كذا، ولم يتضمّنها كتاب أبي عبد الله حمزة بن الحسن الأصبهانيّ. ويقع في ثلاثة أبواب: الأوّل أمثال منسوبة إلى أربابها، والثاني غرر من رجز الشعراء، أمّا الثالث ففيه يدلي الثعالبي بدلوه، غير مكتفٍ بالجمع والترتيب، منتقلاً إلى الابتداع والتأليف. فيخصّصه لما جمعه بنفسه واخترعه وابتدعه، واللافت أنّ بعض العناوين في هذا الباب يشابه عناوين سبقت في القسمين الأوّل أو الثاني، ولكن يبدو أنّ المؤلّف أراد بإفرادها أن تحظى بعناية القارئ وملاحظته.
لقد تحمّل المحقّقان - في جميع ما سبق - عناء ردّ كلّ مثلٍ إلى مصدره العربي أو الفارسيّ، ومواطن وروده في مظانّ الكتب. وألحقا بالكتاب فهارس بالآيات، والأحاديث، وأبيات الشعر، وأشطار الأبيات، والأعلام والأماكن، الأمر الذي يجعل البحث فيه والإفادة منه أيسر وأعظم. وإنّ المطّلع اليوم على ما يُنشر من مخطوطات، يدرك بشكلٍ بدهي أنّ للتحقيق درجات، ولعلّ دأب المحقّقين كان بلوغ أعلاها.
وأخيراً، فإنّ الأمثال بما تشتمل عليه من معاني الحكمة، وإيجاز اللفظ وشيوعه، تعكس ملامح المجتمع الذي أنتجها أو تداولها، وتغري الباحثين من مجالاتٍ عدّة بدراستها. وإنّ كتاب «خاصّ الخاصّ في الأمثال» إضافة جديدة إلى هذا الحقل، من شأنها أن تستقطب إلى جانب أهل الاختصاص الهواة من قرّاء الأدب.
- طالبة دكتوراه
- الجامعة الأميركية في بيروت


مقالات ذات صلة

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية
TT

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام، ولفت الانتباه؛ لأن رواية المانجا «أنستان» أو «الغريزة» لصاحبها المؤثر أنس بن عزوز، الملقب بـ«إنوكس تاغ» باعت أكثر من 82 ألف نسخة خلال 4 أيام. وهو إنجاز كبير؛ لأن القصّة الموجهة إلى جمهور من القرّاء الشباب قد خطفت المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً من «الحوريات»، الرواية الفائزة بجائزة «الغونكور» لهذه السنة.

ولمن يستغرب هذا الرواج أو اهتمام دور النشر بالكُتاب المبتدئين من صنّاع المحتوى، فإن الظاهرة ليست بالجديدة؛ حيث إن كثيراً من المكتبات والمواقع أصبحت تخصّص رفوفاً كاملة لهذه النوعية من الكتب، كسلسلة «#فولوي مي» التابعة لدار «أشيت»، والتي تضم أعمالاً للمؤثرين تتوزع بين السّير الذاتية والقصص المصوّرة والتنمية البشرية والأسفار، وحتى الطبخ.

في فرنسا، أول تجربة من هذا القبيل كانت عام 2015، بكتاب «إنجوي ماري»، وهو السيرة الذاتية للمؤثرة ماري لوبيز المعروفة بـ«إنجوي فنيكس» (6 ملايين متابع على إنستغرام). وإن كان البعض لا يستوعب أن تكتب فتاة في سن العشرين سيرتها الذاتية، فقد يستغرب أيضاً النجاح التجاري الكبير الذي حصل عليه هذا الكتاب؛ حيث باع أكثر من 250 ألف نسخة، رغم الهجوم الشديد على الأسلوب الكتابي الرديء، حتى لقَّبتها مجلة «لي زنكوريبتبل» الثقافية متهكمة بـ«غوستاف فلوبير الجديد». شدّة النقد لم تمنع زملاءها في المهنة من خوض التجربة نفسها بنجاح؛ المؤثرة ناتو (5 ملايين متابع على يوتيوب) نشرت مع مؤسسة «روبرت لافون» العريقة رواية «أيقونة»، قدمت فيها صورة ساخرة عن عالم المجلات النسوية، وباعت أكثر من 225 ألف نسخة. وتُعدُّ دار نشر «روبرت لافون» بالذات الأكثر تعاوناً مع صناع المحتوى؛ حيث نشرت لكثير منهم.

في هذا السياق، الأكثر نجاحاً حتى اليوم كان كتاب التنمية البشرية «الأكثر دائماً+» لصاحبته لينا محفوف، الملقبة بـ«لينا ستواسيون» (5 ملايين متابع على إنستغرام) وباع أكثر من 400 ألف نسخة.

مجلة «لي زيكو» الفرنسية، تحدثت في موضوع بعنوان «صناع المحتوى؛ الدجاجة التي تبيض ذهباً لدور نشر» عن ظاهرة «عالمية» من خلال تطرقها للتجارب الناجحة لمؤثرين من أوروبا وأميركا، حملوا محتواهم إلى قطاع النشر، فكُلّلت أعمالهم بالنجاح في معظم الحالات. المجلة استشهدت بالتجربة الأولى التي فتحت الطريق في بريطانيا، وكانت بين دار نشر «بانغوين بوكس» والمؤثرة زوي سوغ (9 ملايين متابع على إنستغرام) والتي أثمرت عن روايتها الناجحة «فتاة على الإنترنت» أو «غور أون لاين»؛ حيث شهدت أقوى انطلاقة في المكتبات البريطانية بـ80 ألف نسخة في ظرف أسبوع، متفوقة على سلسلة «هاري بوتر» و«دافنشي كود».

المجلة نقلت بهذه المناسبة حكاية طريفة، مفادها أن توم ويلدون، مدير دار النشر، كان قد تعاقد مع المؤثرة بنصيحة من ابنته البالغة من العمر 12 سنة، والتي كانت متابعة وفيّة لها.

ومما لا شك فيه هو أن اهتمام دور النشر بأعمال المؤثرين يبقى مدفوعاً بالأرباح المادية المتوقعة، وهو ما أكده موضوع بمجلة «لوبوان» بعنوان «المؤثرون آلة لصنع النجاحات التجارية في قطاع النشر». كشف الموضوع عن أن تحويل المحتوى السمعي البصري لصناع المحتوى إلى الكتابي، أصبح بمثابة الورقة الرابحة للناشرين، أولاً لأنه يوفر عليهم عناء الترويج الذي تتكفل به مجتمعات المشتركين والمتابعين، وكل وسائل التواصل التابعة للمؤثرين، والتي تقوم بالعمل بدل الناشر، وهو ما قد يقلّل من خطر الفشل؛ بل قد يضمن الرواج الشعبي للعمل. ثم إنها الورقة التي قد تسمح لهم في الوقت نفسه بالوصول إلى فئات عمرية لم تكن في متناولهم من قبل: فجمهور المراهقين -كما يشرح ستيفان كارير، مدير دار نشر «آن كاريير» في مجلة «ليفر إيبدو»: «لم يكن يوماً أقرب إلى القراءة مما هو عليه اليوم. لقد نشرنا في السابق سِيَراً ذاتية لشخصيات من كل الفضاءات، الفرق هذه المرة هو أن المؤثرين صنعوا شهرتهم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولهم جمهور جاهز ونشيط، وإذا كانت هذه الشخصيات سبباً في تقريب الشباب إلى القراءة، فلمَ لا نشجعهم؟».

شريبر: الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته

هذه المعطيات الجديدة جعلت الأوضاع تنقلب رأس على عقب، فبينما يسعى الكتاب المبتدئون إلى طرق كل الأبواب أملاً في العثور على ناشر، تأتي دور نشر بنفسها إلى صناع المحتوى، باسطة أمامهم السّجاد الأحمر.

وإن كان اهتمام دور النشر بصنّاع المحتوى لاعتبارات مادية مفهوماً -بما أنها مؤسسات يجب أن تضمن استمراريتها في قطاع النشر- فإن مسألة المصداقية الأدبية تبقى مطروحة بشدّة.

بيار سوفران شريبر، مدير مؤسسة «ليامون» التي أصدرت مذكرات المؤثرة الفرنسية جسيكا تيفنو (6 ملايين متابع على إنستغرام) بجزأيها الأول والثاني، رفض الإفصاح عن كم مبيعات الكتاب، مكتفياً بوصفه بالكبير والكبير جداً؛ لكنه اعترف في الوقت نفسه بلهجة ساخرة بأن الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته؛ لكنها لم تدَّعِ يوماً أنها تكتب بأسلوب راقٍ، وكل ما كانت تريده هو نقل تجاربها الشخصية إلى الجمهور ليأخذ منها العبَر.

الناقد الأدبي والصحافي فريديك بيغ بيدر، كان أكثر قسوة في انتقاده لكتاب المؤثرة لينا ستواسيون، في عمود بصحيفة «الفيغارو» تحت عنوان: «السيرة الذاتية لمجهولة معروفة»؛ حيث وصف العمل بـ«المقرف» و«الديماغوجية»، مضيفاً: «بين الأنا والفراغ اختارت لينا ستواسيون الخيار الثاني». كما وصف الكاتبة الشابة بـ«بالجاهلة التي تعترف بجهلها»، منهياً العمود بالعبارة التالية: «147 صفحة ليس فيها سوى الفراغ، خسرتُ 19 يورو في لا شيء».

أما الناشر بيار سوفران شريبر، فقد قال في مداخلة لصحيفة «لوبوان»: «اتهمونا بنشر ثقافة الرداءة؛ لكن هذه النوعية من الكتب هي هنا لتلتقي بقرائها. إنهما عالمان بعيدان استطعنا تقريبهما بشيء سحري اسمه الكتاب. فلا داعي للازدراء».