من {البوساء} إلى اليوم... لمن الشوارع؟

موضع صراع دائم بين الشعوب والأنظمة

مشهد من فيلم «البؤساء» المستوحى من رواية فيكتور هوغو - فيكتور هوغو
مشهد من فيلم «البؤساء» المستوحى من رواية فيكتور هوغو - فيكتور هوغو
TT

من {البوساء} إلى اليوم... لمن الشوارع؟

مشهد من فيلم «البؤساء» المستوحى من رواية فيكتور هوغو - فيكتور هوغو
مشهد من فيلم «البؤساء» المستوحى من رواية فيكتور هوغو - فيكتور هوغو

من سانتياغو إلى لندن، ومن برشلونة إلى بيروت، ومن بغداد إلى هونغ كونغ، تغص شوارع وميادين العواصم والمدن الكبرى اليوم بجموع متظاهرين قد لا يجمع بينهم نضال موحد أو عدو مشترك، لكنهم جميعاً استبدّ بهم الغضب على ممارسات الأنظمة الحاكمة في بلدانهم حتى وصلت بهم الأمور إلى حدود الخروج الجماعي عن الطاعة التي يفرضها العقد الاجتماعي السائد وترتيبات القوّة، التي من دونها لا يستقر نظام سياسي، ولا يبقى إلا على أساسات مهتزة.
ظاهرة الخروج إلى الشوارع والميادين العامة عبر التاريخ الحديث - أقلّه منذ بدايات العصر الرأسمالي - لم تعد مجرّد فوضى كرنفالية يمكن فيها للجموع البشرية تنفيس غضبها مما يحل بها من مظالم بالصراخ وبالغناء وبالرقص، بل هي أصبحت تهديداً حاسماً لا يمكن التغاضي عنه طويلاً من قبل النخب المهيمنة على السلطة بوصفه قطعاً لشرايين تدفق البضائع والخدمات، وإعاقة للعمل الاقتصادي وتنفيراً للسياح والمستثمرين. ولذا؛ فإن الدولة بوصفها الأداة التي تستخدمها النخبة لتنظيم الأمور في بلد ما، اندفعت دائماً لمواجهة المتظاهرين وبقسوة بالغة أحياناً بغية استعادة السيطرة على شرايين التجارة والأعمال منهم.
ولعل رواية «البؤساء» للفرنسي فيكتور هوغو من أول الأعمال الأدبية التي أرّخت، وإن بصيغة غير مباشرة لذلك الصراع المستمر بين الناس والأنظمة للاستحواذ على الشوارع. وعلى الرغم من أن الإنتاجات التلفزيونية والمسرحية الكثيرة عن الرواية تصور المتاريس التي أقامها المتظاهرون خلال ثورة 1830 وكأنها تراكم من الصناديق وقطع الأثاث المهملة، فإن الرواية تشير بوضوح إلى متاريس مبينة بانتظام دقيق كجدران من حجارة رصف الطرقات التي كانت سائدة حينها في شوارع باريس، وعمد المتظاهرون إلى نزعها من أماكنها وتدويرها كمادة بناء لجدران تغلق الطرقات المؤدية إلى أحيائهم، وتحميهم من طلقات رجال درك الحكومة وهجومات الفرسان، في الوقت الذي لا يمكن إشعال النيران بها بسهولة. وقد استمرت شوارع باريس ساحة لمعارك جذب وشذب بين الحكومات والمتظاهرين طوال الفترة منذ أيام الثورة الفرنسية في العقد الأخير من القرن الثامن عشر وخلال معظم القرن التاسع عشر. وتسجل المصادر التاريخيّة 21 مواجهة بين الطرفين استخدمت فيها تقنية المتاريس خلال تلك الفترة العصيبة من التاريخ الفرنسي - والتي شهدت ما لا يقل عن 6 تقلبات في شكل النظام الحاكم بين الملكية والجمهورية والإمبراطورية - تراوح عددها بين الـ4000 متراس (1830) إلى 6000 (1848).
ويبدو أن السلطات الفرنسية ضاقت ذرعاً بلعبة المتاريس هذه، ولذا كان من أول الأشياء التي فعلها نابليون الثالث فور إعلان نفسه إمبراطوراً للبلاد أن استدعى البارون جورج - ايوجين هاوسمان وكلفه بمهمة إيجاد حلّ نهائي لها. هاوسمان لم يكن معمارياً، لكنه كان شديد الحماسة لتهديم أحياء فقراء المدينة كافة الذين كلما غضبوا «نتيجة انطباعات موهومة أو اقتراحات متطرفة» أغلقوا أحياءهم بالمتاريس، وخرجوا عن سلطة الحكومة.
خطة هاوسمان لحماية النظام تضمنت إزالة عدد كبير من تلك الأحياء وتقطيع أوصال البعض الآخر عبر شق عشرات الطرق العريضة المستقيمة التي تمتد كالأشعة عبر أحياء المدينة كافة على نحو لا يعود معه ممكناً استخدام المتاريس لعزل الأحياء. وقد وصف الأميركي مارك توين عند زيارته لباريس نتاج تنفيذ تلك الخطة الهائلة التي وكأنها أسقطت على تخطيط العاصمة من السماء، كاستعادة حاسمة للشوارع من أيدي الرعاع: «الذين سيتعيّن عليهم منذ الآن البحث عن ملعب آخر إن هم رغبوا في مواجهة السلطات مستقبلاً؛ إذ إن طلقة مدفع منصوب في شمال المدينة كانت لتستمر دون أن تجد ما يعيقها حتى جنوب المدينة سوى أجساد المتظاهرين».
ومع ذلك، فإن فقراء باريس كان لهم رأي آخر. إذ نزعوا حجارة الطرقات مجدداً خلال اضطرابات 1871 التي قادت إلى كميونة باريس الاشتراكية وأقاموا متاريس قاتلوا وراءها بشجاعة منقطعة النظير قبل أن تستعيد السلطات زمام المبادرة عبر العنف الشديد وسفك الدماء بلا حساب. وقد استعاد المتظاهرون الفرنسيّون هذه التقنية مجدداً خلال ثورة الطلاب عام، 1968 وكذلك أثناء مظاهرات السترات الصفر الحاليّة، وكأنهم جميعهم يتوارثون السخريّة من أحلام المسيو هاوسمان بارون الطّرق الشعاعية. بينما كتب عالم النفس الألماني فيلهايم رايتش أنه كان متيقناً من فشل الثورة اليسارية في بلاده بداية ثلاثينات القرن الماضي بعدما لاحظ أن المتظاهرين كانوا يلتزمون بإرشادات «الرجاء عدم الدّوس على الحشائش» أثناء تنقلهم عبر الشوارع والأماكن العامة ببرلين. ربما كان على الفقراء الألمان أن يتعلموا شيئاً عن فنون الاحتجاج في الشوارع من جيرانهم الفرنسيين.
اللندنيون الفقراء اختاروا طريقة أخرى للاحتجاج عبر احتلال ميدان الطرف الأغر الشهير في قلب العاصمة. وهم عام 1887 حولوا ذلك الميدان إلى ما يشبه فندقاً هائلاً في الهواء الطلق أقاموا فيه مع عوائلهم، واستحموا وغسلوا ملابسهم في نوافير مائه الباذخة، في حين انتشر بينهم الخطباء الثوريون وأصحاب الطرق الدينية والمشعوذون والمحسنون يوزعون الشعارات الصارخة والمناشير والأناجيل وأرغفة الخبز وقطع الصابون، حتى ضاق الميدان بسكانه العابرين على وسعه ففاضوا إلى الشوارع المجاورة. وقتها تحوّل ذلك الجزء من العاصمة الإمبراطورية إلى ما يشبه معسكراً خارجاً عن القانون على نحو استدعى تدخل رجال الشرطة لإخلاء الناس مرات عدة دون نجاح يذكر؛ إذ كانوا كلما طردوا من زاوية انتقلوا إلى أخرى. وهكذا عزمت السلطات على استخدام القوة الحاسمة لاستعادة الميدان، ووجدت في المظاهرة التي نظمت هناك خلال شهر نوفمبر (تشرين الثاني) للمطالبة بإطلاق سراح نائب آيرلندي من السجن فرصتها السانحة، فشنت هجوماً - سمي بالأحد الدامي - قتل فيه وجرح عشرات المتظاهرين قبل أن يتفرقوا. لكنهم مع ذلك ما لبثوا وبعد أقل من أسبوع أن عادوا للميدان مجددا وخأضوا مواجهة عنيفة مع البوليس في جنازة أحد المتظاهرين القتلى. وتكررت تلك المواجهات مرات عدة تالياً، دون أن يتمكن أي من الفريقين من فرض سيطرة نهائية على المكان.
تلك المواجهات دفعت السلطات البريطانيّة إلى البحث في تطوير أساليب مواجهة تجمعات المتظاهرين. وبالفعل فقد تم تشكيل قوة خاصة لقمع الشغب عام 1925 في شنغهاي - كانت حينها مستعمرة بريطانيّة – أتقنت فنون السيطرة على الحشود، وخوض مواجهات الشوارع وقمع المتظاهرين بمطلق القسوة. وقد نقل ويليام فيربرين آمر قوة بوليس شنغهاي البريطانية تلك الفنون المستحدثة لاحقاً إلى أجهزة أشرطة الولايات المتحدة وسنغافورة وقبرص وهونغ كونغ بوصفها أفضل الممارسات في ذلك المجال، قبل أن يتحول الكيان الإسرائيلي إلى بيت الخبرة الأول في العقود الأخيرة - بالاستفادة من القمع اليومي والمستمر للفلسطينيين -، وتدربت شرطة كثير من الدول في أوروبا وأميركا وأفريقيا على أيدي خبرائه البارزين.
تغير طابع لعبة الشوارع مجددا بداية من عام 2000 على يد البروفسور جين شارب عالم السياسة الأميركي البارز الذي كان أطلق في 1992 فكرة المقاومة اللاعنفية، وهي تقنيّات متعددة (وصلت عددها إلى 198 كما في كتابه الذائع الصيت «من الديكتاتورية إلى الديمقراطية») يمكن للمتظاهرين ضد الأنظمة الحاكمة تبني الكثير منها معاً أو من خلال خطة متدرجة في إطار مواجهتهم للسلطات، مع الاستفادة من التطور الهائل في مجال الاتصالات والنقل المباشر للصور إلى أنحاء المعمورة كافة. وقد استخدمت تلك التقنيات بنجاح فيما سمي الثورات الملونة التي اجتاحت شرقي أوروبا صربيا وأوكرانيا ولاحقاً في ثورات ما سمي الربيع العربي في مصر وليبيا وسوريا، وساعدت على قلب أنظمة اشتهرت بصلفها واستخدامها للقمع المفرط.
وهكذا من شوارع عواصم العالم شرقا وغرباً، تتجدد صراعات الشوارع، ويبدو أن الحراكات الجماهيرية ستبقى دائماً ملعب المواجهة المتكررة بين الشعوب والأنظمة عندما تفشل الساحات الأخرى البرلمانية والقضائية والإعلامية في حسم الصراعات أو تقديم البدائل. عندها سينتصر حتماً الطّرف الذي سينجح في فرض سيطرته على الشوارع والميادين العامة، ليبقى السؤال الحاسم لكل منازلة بين المجتمع ودولته دائماً: لمن الشوارع اليوم؟



«رقم سري» يناقش «الوجه المخيف» للتكنولوجيا

لقطة من مسلسل «رقم سري» (الشركة المنتجة)
لقطة من مسلسل «رقم سري» (الشركة المنتجة)
TT

«رقم سري» يناقش «الوجه المخيف» للتكنولوجيا

لقطة من مسلسل «رقم سري» (الشركة المنتجة)
لقطة من مسلسل «رقم سري» (الشركة المنتجة)

حظي مسلسل «رقم سري»، الذي ينتمي إلى نوعية دراما الغموض والتشويق، بتفاعل لافت عبر منصات التواصل الاجتماعي، وسط إشادة بسرعة إيقاع العمل وتصاعد الأحداث رغم حلقاته الثلاثين.

ويُعرض المسلسل حالياً عبر قناتي «dmc» و«dmc drama» المصريتين، إلى جانب منصة «Watch IT» من السبت إلى الأربعاء من كل أسبوع، وهو من إخراج محمود عبد التواب، وتأليف محمد سليمان عبد الملك، وبطولة ياسمين رئيس، وصدقي صخر، وعمرو وهبة، وأحمد الرافعي.

ويعد «رقم سري» بمنزلة الجزء الثاني من مسلسل «صوت وصورة» الذي عُرض العام الماضي بطولة حنان مطاوع، للمخرج والمؤلف نفسيهما. وينسج الجزء الجديد على منوال الجزء الأول نفسه من حيث كشف الوجه الآخر «المخيف» للتكنولوجيا، لا سيما تقنيات الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن أن تورط الأبرياء في جرائم تبدو مكتملة الأركان.

السيناريو تميز بسرعة الإيقاع (الشركة المنتجة)

وتقوم الحبكة الأساسية للجزء الجديد على قصة موظفة بأحد البنوك تتسم بالذكاء والطموح والجمال على نحو يثير حقد زميلاتها، لا سيما حين تصل إلى منصب نائب رئيس البنك. تجد تلك الموظفة نفسها فجأة ومن دون مقدمات في مأزق لم يكن بالحسبان حين توكل إليها مهمة تحويل مبلغ من حساب فنان شهير إلى حساب آخر.

ويتعرض «السيستم» بالبنك إلى عطل طارئ فيوقّع الفنان للموظفة في المكان المخصص بأوراق التحويل وينصرف تاركاً إياها لتكمل بقية الإجراءات لاحقاً. يُفاجَأ الجميع فيما بعد أنه تم تحويل مبلغ يقدر بمليون دولار من حساب الفنان، وهو أكبر بكثير مما وقع عليه وأراد تحويله، لتجد الموظفة نفسها عالقة في خضم عملية احتيال معقدة وغير مسبوقة.

وعَدّ الناقد الفني والأستاذ بأكاديمية الفنون د. خالد عاشور السيناريو أحد الأسباب الرئيسية وراء تميز العمل «حيث جاء البناءان الدرامي والتصاعدي غاية في الإيجاز الخاطف دون اللجوء إلى الإطالة غير المبررة أو الثرثرة الفارغة، فما يقال في كلمة لا يقال في صفحة».

بطولة نسائية لافتة لياسمين رئيس (الشركة المنتجة)

وقال عاشور في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «المخرج محمود عبد التواب نجح في أن ينفخ الروح في السيناريو من خلال كاميرا رشيقة تجعل المشاهد مشدوداً للأحداث دون ملل أو تشتت، كما أن مقدمة كل حلقة جاءت بمثابة جرعة تشويقية تمزج بين ما مضى من أحداث وما هو قادم منها في بناء دائري رائع».

وأشادت تعليقات على منصات التواصل بالمسلسل باعتباره «تتويجاً لظاهرة متنامية في الدراما المصرية مؤخراً وهي البطولات النسائية التي كان آخرها مسلسل (برغم القانون) لإيمان العاصي، و(لحظة غضب) لصبا مبارك؛ وقد سبق (رقم سري) العديد من الأعمال اللافتة في هذا السياق مثل (نعمة الأفوكاتو) لمي عمر، و(فراولة) لنيللي كريم، و(صيد العقارب) لغادة عبد الرازق، و(بـ100 راجل) لسمية الخشاب».

إشادة بتجسيد صدقي صخر لشخصية المحامي (الشركة المنتجة)

وهو ما يعلق عليه عاشور، قائلاً: «ياسمين رئيس قدمت بطولة نسائية لافتة بالفعل، لكن البطولة في العمل لم تكن مطلقة لها أو فردية، بل جماعية وتشهد مساحة جيدة من التأثير لعدد من الممثلين الذين لعبوا أدوارهم بفهم ونضج»، موضحاً أن «الفنان صدقي صخر أبدع في دور المحامي (لطفي عبود)، وهو ما تكرر مع الفنانة نادين في شخصية (ندى عشماوي)، وكذلك محمد عبده في دور موظف البنك».