جميعنا يعي مدى أهمية الطباعة لتاريخنا البشري، فمنذ اختراعها في القرن الخامس عشر أتاحت إنتاج الكتب والصحف والمجلات بأعداد هائلة، وأدى ذلك بدوره لتحفيز ونشر صناعات جديدة، مثل النشر، كما مهدت الطباعة الطريق أمام تغييرات كبرى في رؤية المواطنين للكيفية التي ينبغي أن يجري بها حكمهم؛ مما أدى إلى مجتمعات أكثر انفتاحا وديمقراطية.
لكن، هل تدري كيف أحدثت آلة الطباعة ثورة في صناعة النظارات؟ لقد رغب الأوروبيون في ارتداء نظارات تمكنهم من قراءة جميع المواد التي تنتجها آلات الطباعة. قبل ذلك عندما كانت المواد المتوافرة للقراءة قليلة، لم يعبأ الكثيرون بمشكلة طول النظر التي تصيبنا في منتصف العمر، وكان من الصعب الحصول على نظارات، علاوة على ارتفاع أسعارها، إلا أنه بفضل آلة الطباعة ولدت صناعة كاملة، هي صناعة العدسات.
وسرعان ما اكتشف صانعو النظارات أنها تمثل مجرد نمط واحد من العدسات. بحلول عام 1590، تمكنوا من استخدام العدسات بأسلوب أطلق عليه «الميكروسكوب» أتاح رؤية أصغر الأشياء حجما، وبعد جيل، جرى اختراع «التليسكوب» للمساعدة في رؤية الأشياء الضخمة شديدة البعد. وساعدت هذه «التليسكوبات» بدورها في تغيير نظرتنا لكيفية تطور البشر والأرض.
من ناحيته، أسهم «الميكروسكوب» في تحقيق قفزات كبرى بمجال الطب، وأخيرا، أدى ظهور أنواع جديدة من العدسات في تغيير تعريف الإعلام، ليضم التصوير والأفلام والتلفاز.
ويزخر كتاب ستيفين جونسون الجديد، «كيف وصلنا للحظة الحالية»، بالكثير من الأمثلة الطريفة المتعلقة بـ6 اختراعات أسهمت في صياغة عالمنا المعاصر، وتدور فكرة الكتاب ببساطة حول أن فترات الابتكار السريع تخلق دوما حالة من الاضطراب؛ حيث يحاول المواطنون فهم سبر أغوار الاختراعات الجديدة. ويؤكد جونسون أن الابتكارات الجديدة تخلف تداعيات جانبية يتعذر حتى على أذكى العقول التكهن بها. أما عنوان الكتاب بالكامل فهو «كيف وصلنا للحظة الحالية: ستة اختراعات صاغت عالمنا المعاصر»، وهو صادر عن دار نشر «ريفرهيد».
تحمل نصيحة جونسون أهمية خاصة اليوم، ذلك أن الهواتف الذكية والحواسب اللوحية المتطورة من حولنا تقلب العالم رأسا على عقب، ويقف العالم الصناعي الآن في خضم حالة عالمية من القلق؛ حيث يسعى لفهم مدى إيجابيات وسلبيات هذا التطور التقني. وهنا يأتي كتاب جونسون ليذكرنا ليس فقط بأن المجتمع الحديث عايش مثل هذه اللحظات من قبل، وإنما أيضا للتأكيد على أن مثل هذه القضايا هي جزء لا يتجزأ من التطور.
ولا يدعي جونسون امتلاكه رؤية محددة حيال الخير أو الشر الكامن وراء الابتكارات الستة التي يسلط الضوء عليها وهي: الزجاج، البرد، الصوت، النظافة، الوقت، الضوء، إلا أن أسلوب عرضه العام يبث روحا إيجابية.
من جانبي، أعتقد أن «سيليكون فالي» تحول لمنطقة مهيمنة ذات نفوذ كبير الآن على صعيد الاقتصاد الأميركي على غرار الحال مع «ديترويت» خلال النصف الأول من القرن العشرين؛ حيث تطمح أكثر العناصر نبوغا الآن في التوجه غربا للعمل بشركات مثل: «غوغل»، و«آبل»، و«فيسبوك»، و«تويتر»، و«أمازون»، و«مايكروسوفت».
بيد أن المشكلة تكمن في أنه في الوقت الذي تجني فيه هذه الشركات ثروات ضخمة تضاهي ما كانت شركات صناعة السيارات تحققه في أوجها، فإنها لا توظف لديها سوى نسبة ضئيلة للغاية مقارنة بالعمالة في شركات السيارات. وتشير الإحصاءات إلى أن صانعي السيارات وظفوا أكثر من مليون عامل بحلول خمسينات القرن الماضي، عندما كانت «جنرال موتورز» الأولى بين شركات العالم من حيث الأرباح. الآن، توظف الشركات الكبرى بمجال التقنية حسب قيمة الرسملة السوقية - «غوغل» و«آبل» و«مايكروسوفت» - أقل من 25 في المائة من ذلك العدد.
يتميز جونسون عامة بأسلوب كتابة أخاذ، خاصة مع امتلاكه قدرة التعامل مع قضايا بالغة التعقيد وطرح أسلوب تطورها على نحو ييسر فهمها، كما أن اختياره للابتكارات الستة التي يتناولها لافت للانتباه. الكثيرون منا كانوا يتوقعون أن يركز كتاب من هذا النوع على أنماط متنوعة من الطاقة أو تطور صناعة الحديد الصلب أو الطائرات، لكن، من منا التفت لأهمية الزجاج في تاريخ العالم؟ أو الساعة البندولية التي اخترعها غاليليو، وهي أول آلة تحسب الوقت بدقة وصولا لوحدة الدقيقة؟ وعن هذا الاختراع الأخير، يتساءل جونسون: «هل كان يمكن حدوث الثورة الصناعية من دونه؟»
تبقى المشكلة الوحيدة في كتاب جونسون الجديد أن الموضوعات الستة جميعها تناولتها الأبحاث بإسهاب من قبل، فرغم أن أحدا لم يفكر في حشدها معا بكتاب واحد، حظيت كل منها بكثير من الكتب حول تاريخها.
* خدمة «واشنطن بوست»
خاص بـ«الشرق الأوسط»