رقعة شطرنج الأزمة اليمنية... ومفاتيح الحلول

إجماع دولي وإقليمي على أن اتفاق الرياض أنعش فرص السلام الشامل

رقعة شطرنج الأزمة اليمنية... ومفاتيح الحلول
TT

رقعة شطرنج الأزمة اليمنية... ومفاتيح الحلول

رقعة شطرنج الأزمة اليمنية... ومفاتيح الحلول

كانت الساعة تشير إلى الخامسة مساءً بتوقيت السويد. فتح شاب يمني باب كوخ متجها إلى ظلام دامس، تكسره أضواء خافتة تلوح من مائة متر تقريبا خارج شرفات قصر «جوهانسبرغ» الملكي الذي استضاف المشاورات اليمنية بداية ديسمبر (كانون الأول) 2018. لم يطق الشاب الذي يعمل في مؤسسة إعلامية دولية صبرا، إذ لم يكمل حتى تدخين سيجارته التي أشعلها قبل دقيقة، وقبل أن يعود إلى الكوخ الذي استخدمه السويديون مقرا للمركز الإعلامي لمشاورات السويد، قال لزميله: دخن سريعا، نريد إكمال رقعة الشطرنج المعقدة هذه قبل أن يدهمنا الوقت. «الشرق الأوسط» استوقفت الشاب الذي لم يفضل نشر اسمه تطبيقا لقواعد مؤسسته الإعلامية التي تمنعه التصريح، وسألته عن التشبيه فأجاب: اليمن رقعة شطرنج أحجارها ليست بالضرورة أن تكون دوما في الصف ذاته، وتحتمل أيضا أكثر من مجرد فريقين، والفريق الواحد ليس بالضرورة أن يكون الجنود فيه يرتدون اللون ذاته. إنها أعقد رقعة شطرنج موجودة في المنطقة. مضى الشاب، ومضى نحو عام على تلك المشاورات، والتصقت هذه العبارة التي قد تكون قريبة من المشهد. فما هي أوضاع رقعة شطرنج الأزمة اليمنية حاليا، بما فيها اتفاق «استوكهولم»، وما مفاتيح حلولها الممكنة؟

لم تشهد العاصمة السعودية الحدث التاريخي المتمثل بـ «اتفاق الرياض» بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي وحسب، بل كانت هناك عدة لقاءات من الممكن القول إنها حدثت للمرة الأولى. فلقاء الأمير محمد بن سلمان ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع السعودي كان الأول للمبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث.
اجتماع آخر عقد الأربعاء لطرفي اتفاق الرياض مع الأمير خالد بن سلمان نائب وزير الدفاع السعودي. لقد كانت أول مرة يجتمع خلالها الطرفان (الحكومة والانتقالي) بشكل مباشر.
كما التقى الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي رئيس المجلس الانتقالي اللواء عيدروس الزبيدي لأول مرة منذ تأسيس المجلس في عام 2017.
مسؤول أممي وصف لقاء ولي العهد السعودي مع المبعوث الأممي إلى اليمن الذي عُقد في الرياض مساء أمس (الخميس)، بـ«الإيجابي للغاية»، وقال المسؤول الذي فضل حجب اسمه إن «هناك دعما سعوديا للعملية السياسية اليمنية، والتزاما عميقا... المملكة ترى فرصة لسلام حقيقي في اليمن وتسير صوب ذلك الاتجاه».
ولا يذهب حديث المسؤول الأممي بعيدا عن النص الرسمي الذي نشرته وكالة الأنباء السعودية (واس)، التي نقلت عن الأمير محمد بن سلمان تأكيده «حرص المملكة على كل ما يحقق مصلحة الشعب اليمني وأمن واستقرار اليمن، متمنياً أن يكون اتفاق الرياض فاتحة خير لتفاهمات أوسع بين أبناء الشعب اليمني للتوصل إلى حل سياسي شامل ينهي الأزمة اليمنية».
وسبق للمبعوث أن ثمن جهود ولي العهد السعودي خلال حواره مع «الشرق الأوسط» في 31 أكتوبر (تشرين الأول)، مؤكدا «الدور القيادي الذي اضطلع به ولي العهد السعودي» وعدّ ذلك «عنصرا محوريا في تيسير التوصل لحلول بشأن نقاط اختلاف أساسية بين الأطراف»، مستدلا بما حدث خلال محادثات جدة الأخيرة. وقال: «أسهم الأمير محمد في خلق فرص أمام الأطراف لبناء الثقة فيما بينها وإيجاد أرضية مشتركة. وأشعر بالامتنان تجاه هذا الدعم الذي لا يقدّر بثمن».

وقف الحرب
«رأينا وساطات سياسية كثيرة ورأينا كيف استطاعت وساطة المملكة العربية السعودية في حل مشكلة يمنية. ما نحتاجه هو وساطة حقيقية تلبي متطلبات الشعب ولا تستمر أزمته ودماؤه وحزنه»، حسب كلام حمزة الكمالي وكيل وزارة الشباب والرياضة اليمني لـ«الشرق الأوسط» الذي تابع: «كل اليمنيين لا يريدون أن تستمر الحرب، لكن إيران تريد استمرار هذا الدمار؛ لأنها تعتبره نوعا من الاستثمار السياسي ويدفع ثمنه دماء اليمنيين... نؤكد أن الشعب اليمني يرفض إيران، وهو جزء من جغرافيا مجلس التعاون الخليجي».
ويصف الكمالي اتفاق الرياض بالقول: «هذا الاتفاق خلاصة جهد دبلوماسي سعودي كبير قادته المملكة مع جميع الأطراف اليمنية». الجهد السعودي أثمر هذا الاتفاق الذي يؤكد توحيد المكونات اليمنية ضد الميليشيات الحوثية المدعومة من إيران. «على جميع المكونات السياسية اليمنية دعم الاتفاق».
يضيف الوكيل: «مثلما أن المجلس الانتقالي الجنوبي لا يمثل كل جنوب اليمن فإن الحوثي لا يمثل كل شمال اليمن. اليمن بلد متنوع وواسع ويجب أن تكون قراراته سيادية تحتوي على جميع مكوناته وأفراده، والدولة الاتحادية هي حل اليمن، وأي حلول أخرى مؤقتة وتأجيل لمعارك ستفرز هذه الحلول المؤقتة»، مشددا على أن المرجعيات الثلاث (المبادرة الخليجية، مخرجات الحوار الوطني، القرار الأممي 2216) هي السبيل ونقطة انطلاق أي حل. ولا يختلف مع الكمالي أي طرف دولي إلا الحوثيون، الذين يقولون على مضض وبتلميحات طفيفة إنهم يقبلون بها قبل أي حوار، وحدث ذلك في الكويت والسويد.

المؤشرات... والحلول
يعتقد دبلوماسي غربي أن الأزمة اليمنية يمكن تقسيمها في الوقت الراهن إلى ثلاثة محاور؛ الأول: اتفاق استوكهولم ومفاوضات الحل الشامل بين الحكومة اليمنية والحوثيين. الثاني: الهدنة التي عرضها الحوثيون بعدم استهداف السعودية، والإشارات الإيجابية من المسؤولين السعوديين تجاهها والتي شددت على ضرورة أن الأفعال هي ما يعتد به وليس الأقوال. الثالث: اتفاق الرياض، وهو بحسب الدبلوماسي - الذي طلب عدم الإشارة إلى اسمه - الأقرب إلى التطبيق بعد توقيعه في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 في العاصمة السعودية.
المبعوث الأممي لديه 5 مؤشرات يعتقد أنها بوادر جيدة، «تدعو للشعور بالأمل وتعكس حسن النيات بين الأطراف المعنية، وتحقق تغييرات ملموسة وتقدماً حقيقياً على الأرض». وتتمثل المؤشرات الخمسة في «تراجع كبير خلال الفترة الأخيرة في أعمال العنف بالشمال، وإطلاق سراح عدد من السجناء والمحتجزين، والسماح للسفن المحملة بالنفط بالدخول إلى الحديدة مع السماح لوكالات الإغاثة بتقديم مساعدات للأشخاص المحتاجين لها في الدريهمي، إضافة إلى اتفاق الرياض».
يعتقد الدكتور تركي القبلان رئيس مركز ديمومة للدراسات الاستراتيجية في الرياض أن «اتفاق الرياض أعطى رسالة للمجتمع الدولي، والداخل اليمني والمكونات السياسية، بالاصطفاف حول الشرعية وأن الحلول الدبلوماسية ممكنة، وتوحيد الجهود تجاه الحل النهائي ممكن».
ويقول القبلان: «الحوثيون أساسا لا يوجد لديهم أفق سياسي لحل شامل، لأنهم لا يلجأون إلى التفاهم إلا من منظورين. الأول: إذا كان لديهم إخفاق عسكري في الميدان وشعروا بالضغط يلجأون إلى التلويح بالقبول بأي تفاوض. المنظور الثاني: لأن الحوثي مرتبط إقليميا بإيران، فإن كان النظام الإيراني في مأزق سياسي يعلن الحوثي أنه يقبل التفاوض والحل وما إلى ذلك... خارج هذين المنظورين لا يمكن أن يقبل الحوثيون بأي حل؛ لأنهم يرون أن أي حوار سيصيبهم في مقتل، وهي أيضا فكرة آيديولوجية مترسخة لدى الجماعة التي تعتقد أن السلم والسلام محاولة لسحب السلطة منهم أو أنه خدعة سياسية بالنسبة لهم».
ويرى القبلان أن «الضغط العسكري في الداخل اليمني خصوصا جبهات صعدة، وما تمر به إيران من عقوبات غير مسبوقة، بالإضافة إلى تحييد الحديدة، والهبّة التي تواءمت في لبنان والعراق مع روح عاصفة الحزم التي تهدف إلى وقف التغلغل الإيراني إلى العالم العربي، سوف تسهم في إنهاء التغلغل وبالتالي إنهاء الحرب. ويبدو أن القوة الناعمة التي استخدمتها السعودية لإيضاح الضرر الإيراني على المنطقة كان لها تأثيرها في ذلك».

هدنة حوثية؟
في أي حال تذهب آراء دبلوماسيين غربيين من بينهم السفير البريطاني لدى اليمن مايكل آرون، إلى أن إعلان الحوثيين في 20 سبتمبر (أيلول) عن وقف الهجمات ضد السعودية مهم. السفير قال في حوار مع «الشرق الأوسط» الأسبوع الماضي: «كان هناك بعض الهجمات بالفعل لكن ليس بالوتيرة السابقة. كما أعتقد أن الرد السعودي بالإعلان أنّهم لن يستهدفوا بعض المناطق (يشير إلى) احتمال وجود فرصة نقاش حول (تهدئة)، مما يعني تخفيض الهجمات من الجانبين، مما يقود إلى إنهاء الحرب»، مضيفاً أن «جانباً مهماً في إنهاء الحرب هو (إنهاء) الصراع بين السعودية والحوثيين».
وفي أول تعقيب سعودي على الهدنة، قال عادل الجبير وزير الدولة للشؤون الخارجية عضو مجلس الوزراء السعودي، في إطار رده على سؤال وجه له في مؤتمر صحافي: «نحكم على الأطراف الأخرى بناء على أفعالها وأعمالها، وليس أقوالها؛ ولذا فإننا سنرى إن كانوا سيطبقون فعلا (المبادرة) أم لا».
ويبقى الرهان الأممي على هذه المبادرة تحديدا؛ لأنها سوف تكون بحسب الدبلوماسيين الغربيين، اختبارا عصيبا على الحوثيين، ولأنه سيدعم الدعوات التي تقرب وجهات النظر بين الأطراف.
أما الدبلوماسي اليمني مصطفى النعمان وكيل الخارجية اليمنية الأسبق فيرى أن «المناداة بوقف الحرب ليس منطلقا من الاصطفاف مع طرف ضد آخر، ولكن لأن استمرارها لم يعد مجدياً لتحقيق الأهداف التي كانت متوخاة منها، أقول هذا لأن كلفتها البشرية والمادية فاقت كل ما كان متوقعا كما أن المنطقة صارت بأكملها بحاجة لحشد إمكاناتها في مسار التنمية والاستقرار، وهذان الهدفان لا يمكن التوصل إليهما عبر القوة فقط. ويتابع النعمان: «نحن أمام فرصة جديدة لإنهاء هذه الحرب خصوصا بعد الرد الإيجابي الذي عبرت عنه المملكة بلسان الأمير خالد بن سلمان ردا على المبادرة التي أطلقت من صنعاء لوقف العمليات العسكرية كخطوة أولى في اتجاه وقف الحرب»، مضيفا: «انعدام الثقة ما زال هو المسيطر على المناخ ولكني على يقين أن ذلك ممكن تجاوزه بضمانات متبادلة من كل الأطراف تبعد شبح التدخلات الإيرانية وغيرها».
وبسؤاله عن الدوافع التي تفضي إلى أن يركن الحوثيون إلى السلام، أجاب الدبلوماسي اليمني: «يعرف الجميع أن الذكي من اعتبر بتجارب التاريخ وتفهمها... للأسف فإن العمل السياسي ليس راسخا عند جماعة أنصار الله وهم يتعاملون مع القضايا المصيرية من منظور ضيق خاص بهم وينطلق من فهمهم للوطن والمواطنة»، مضيفا: «أتمنى أن يكونوا قد استوعبوا حجم الكارثة التي أوقعوا فيها البلد وأنفسهم فيها باللجوء إلى السلاح وسيلة لفرض قناعاتهم... حتى وإن تصوروا أن عدم هزيمتهم عسكريا هو نصر لهم إلا أنهم بذلك لا يدركون هول فواجع الحرب وآثارها... أنا أدعو لوقف الحرب منذ يومها الأول وأتصور أن هذه هي من الفرص التي لا أريد لها أن تمر كالسحاب».


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.