بنعمر الزياني وريموند البيضاوية يُمتعان جمهور ختام «الأندلسيات الأطلسية» في الصويرة

لقاء ريموند البيضاوية وبنعمر الزياني في مهرجان الصويرة
لقاء ريموند البيضاوية وبنعمر الزياني في مهرجان الصويرة
TT

بنعمر الزياني وريموند البيضاوية يُمتعان جمهور ختام «الأندلسيات الأطلسية» في الصويرة

لقاء ريموند البيضاوية وبنعمر الزياني في مهرجان الصويرة
لقاء ريموند البيضاوية وبنعمر الزياني في مهرجان الصويرة

بقدر ما شكل الحفل الفني الذي جمع محمد بنعمر الزياني وريموند البيضاوية على خشبة ساحة «المنزه» في الصويرة، ضمن فعاليات مهرجان «الأندلسيات الأطلسية»، في دورته الـ16. التي اختتمت مساء السبت، فرصة أمام جمهور التظاهرة لاستعادة المجد الذهبي للأغنية المغربية، أكد ميزة المغرب كوطن متعدد الروافد والمكونات.
الأمسية، التي أراد لها المنظمون أن تكون «حدثاً بارزاً في تاريخ الموسيقى المغربية»، وأن تحمل معاني التكريم على شرف الشيخ مويزو، ذلك «المنشد الملتزم، المناضل الصارم من أجل كل القضايا التي عرفتها ملحمة اليهودية المغربية خلال القرن العشرين، وهي ملحمة مثيرة ويشوبها شيء من التناقض أحياناً»، أوفت بكل وعودها، فكانت، كما قال عبد السلام الخلوفي المدير الفني للمهرجان، لقاءً فريداً ومتفرداً، ودليلاً على أنّ «أندلسيات» الصويرة «أكبر من لقاء عابر»، و«فرصة لعقد لقاءات استثنائية وغير مسبوقة، برسالة واضحة: نغني للإنسانية».
وأدى الفنانان اللذان طبعا الساحة الفنية المغربية، على مدى العقود الماضية، باقة من أجمل أغانيهما، أو من الريبرتوار الغنائي المغربي العصري والشعبي، لعدد من باقي رموز الأغنية المغربية، الشيء الذي تفاعل معه الجمهور الغفير على نحو إيجابي. ويعد الزياني من أمهر العازفين على آلة الكمان. وهو يلقب، عند كثير من متابعي تجربته بـ«جيمي هندريكس الكمان». وتعلم هذا الفنان العزف على آلة الكمان على يد فنان طبع تاريخ الفن المعاصر في المغرب، هو الراحل محمد قيبو المشهور بلقب «الماريشال»؛ كما أنّه رفيق درب فنان مغربي آخر هو بوشعيب البيضاوي. وتميز الزياني بأدائه الذي تراوح بين اختيارات موسيقية متعددة، بينها «الشكوري»، الذي «يمتاز بسلاسة جمله الموسيقية وإيقاعاته المغربية الرائعة والفريدة وكلماته العذبة الحساسة، التي تحكي عن الغرام والحب والإخاء»، والذي «غناه اليهود المغاربة متأثرين بموروث فني أندلسي بعد حملات التهجير المسعورة التي تعرض لها اليهود والمسلمون إبان سقوط الحكم الإسلامي ومعها الأندلس».
واشتغل الزياني، على مدى مسيرته الفنية الطويلة، مع كبار الأسماء التي طبعت الريبرتوار الغني لهذا الفن، وكما أعاد أداء أجمل أغاني الفنانة الزوهرة الفاسية، من قبيل أغنية «العروسة»، وسليم الهلالي، وأغاني «محنّي الزين» و«العين الزرقة» و«دور بيها يا الشيباني»؛ وسامي المغربي وأغنية «قفطانك محلول»، وألبير سويسة وأغنية «يا ربي الحنين»، وفيليكس المغربي وأغنية «العطار»، وليلى العباسي وأغنية «آجيني آجيني».
ويتم تقديم ريموند البيضاوية كفنانة كبيرة «تذكرنا بحلاوة الانتماء لأرض طيبة، اسمها المغرب»، يحسب لها أنّها ظلت «تتنقل كالزهرة بين روائع الربيرتوار الموسيقي المغربي»، الشيء الذي جعل «المغاربة يحتفظون لها بكثير من الذكريات الجميلة». وكما هو حال الحاجة الحمداوية، كسبت «الجوهرة» قلوب عشاق الموروث الشعبي والأندلسي المغربي، ممن يحفظون أغانيها ويذكرون طريقة حضورها على خشبة الغناء، سواء تعلق بأغنيات خاصة بها أو تعود لفنانين آخرين، أو من الموروث الموسيقي المغربي، خاصة أغاني «يـْــديرها الكاس» و«العظمة ما منوش» و«كيف نعمل؟» و«واش الحب كيداوي؟» و«العار يا العار» و«العلوة» و«عياد آعياد آ ميمتي» و«يا نّــاسيني» و«الماضي فات» و«ما أنا إلا بشر» و«يا بيضاوة واش هواكم يتداوى؟» و«شوفي غيرو» و«تزوج ما قالها ليا» و«اصحيبي اصحيبي» و«آ لوليد آ لوليد»، هي التي عرفت، أيضاً، بأدائها للأغاني الوطنية، من قبيل «احنا مغاربة». وتعرف ريموند البيضاوية، واسمها الحقيقي ريموند كوهين أبيكاسيس، بتعلقها الكبير ببلدها الأصلي، المغرب، هي التي ولدت بالدار البيضاء، عام 1943. من أسرة مغربية يهودية. كما أنّ لريموند البيضاوية، التي يلقبها كثيرون بـ«جوهرة الشرق»، مواهب متعددة، تشمل، فضلاً عن الغناء والموسيقى، السينما والمسرح، هي التي تعتبر من أوائل المغربيات اللائي تألقن في أداء الشعبي والملحون والحوزي وأغاني المنوعات.
يشار إلى أنّ دورة هذه السنة من مهرجان «الأندلسيات الأطلسية»، الذي انطلق تنظيمه في 2003، من طرف «جمعية الصويرة موغادور»، تواصلت، على مدى أربعة أيام، تحت شعار «التعايش»، وتميزت بمشاركة عشرات الموسيقيين الذين أتحفوا جمهور التظاهرة في 15 حفلاً فنياً، بفضاءات «دار الصويري» وساحة «المنزه» و«بيت الذاكرة»، فضلاً عن «الزاوية القادرية» التي فتحت أبوابها في أمسية تم خلالها الاحتفاء، بالعربية والعبرية، بأجمل القصائد التي طبعت موروث طرب الآلة بالمغرب؛ علاوة على معرض تشكيلي تحت عنوان «التعايش» للفنانة مليكة الدمناتي؛ وموعدين صباحيين خصصا للنقاش والحوار في موضوع «أهمية المكان... أهمية الروابط»، بمشاركة مثقفين وفاعلين في مجالات متعددة، من المغرب والخارج.
وكما جرت العادة في الدورات السابقة، حضر الفلامينغو لتأثيث فعاليات دورة هذه السنة من المهرجان، الذي يمنح الصويرة نفحة فنية وجمالية، في أمسية تحت عنوان «فلامنغو ونوبة أندلسية»، مع ليونور ليال وأرسولا لوبيز وتمارة لوبيز، في حفل جمعهن بأوركسترا «روافد»، إحدى أفضل مجموعات الموسيقى الأندلسية، بقيادة عمر متيوي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)