الأسواق المالية اللبنانية تتوازن نسبياً بفضل السيولة والتدابير الوقائية

امرأة تستخدم آلة لسحب النقود في بيروت بعد معاودة المصارف فتح أبوابها أول من أمس الجمعة (إ.ب.أ)
امرأة تستخدم آلة لسحب النقود في بيروت بعد معاودة المصارف فتح أبوابها أول من أمس الجمعة (إ.ب.أ)
TT

الأسواق المالية اللبنانية تتوازن نسبياً بفضل السيولة والتدابير الوقائية

امرأة تستخدم آلة لسحب النقود في بيروت بعد معاودة المصارف فتح أبوابها أول من أمس الجمعة (إ.ب.أ)
امرأة تستخدم آلة لسحب النقود في بيروت بعد معاودة المصارف فتح أبوابها أول من أمس الجمعة (إ.ب.أ)

نجحت المصارف اللبنانية، خلال يومين مدعمين بساعات عمل إضافية، في استيعاب الموجة المرتقبة مسبقاً للسحوبات النقدية والمعززة بحجم العمليات المتراكمة جراء الإقفال المتواصل لأسبوعين متتاليين، والمعزز أيضاً بمصادفة معاودة العمل مع صرف الرواتب الشهرية للعاملين في القطاعين العام والخاص، بينما عمد البنك المركزي إلى ضخ السيولة المطلوبة، مع الاستعداد وإبقاء الصناديق مفتوحة لتلبية أي احتياجات مصرفية طارئة.
ورُصدَ انكفاء تام للازدحام في اليوم الثاني لمعاودة فتح أبواب المصارف أمام الزبائن. كما تراجع الضغط على أجهزة الصرف الآلي، وهذا ما يسهم في تسريع عودة التوازن إلى الأسواق المالية والمصرفية في الأسبوع المقبل، خصوصاً إذا نجحت المفاوضات غير المعلنة في بلورة تفاهمات جديدة بشأن تأليف الحكومة الجديدة التي يترجم تركيبتها تسمية المرشح لرئاستها في الاستشارات النيابية المرتقبة.
وأكّد رئيس جمعية مصارف لبنان سليم صفير أن البنوك اللبنانية لم تشهد «أي تحركات غير عادية لحركة الأموال» يومي الجمعة والسبت، بعد أن ظلت مغلقة لمدة أسبوعين بسبب الاحتجاجات في مختلف أنحاء البلاد. وقال لوكالة «رويترز»: «رد الفعل كان تقريباً ما توقعناه وترقبناه. ورغم ذلك، طرح الناس كثيراً من الأسئلة وقدمنا أكبر قدر ممكن من التطمينات».
وعزز هدوء التعاملات والسحوبات التزام موظفي المصارف بتعليمات صارمة من الإدارات العليا لاعتماد أقصى قواعد حُسن التعامل مع الزبائن وتلبية طلباتهم دون تمييز، وتفهم هواجسهم بخصوص الودائع ومحاولة طمأنتهم إلى حفظ حقوقهم، بحيث يتم صرف أي وديعة مع عوائدها، ومهما كان حجمها، عند استحقاقها. كما يمكن إجراء عمليات تحويل من الليرة إلى الدولار ضمن الهامش السعري الحقيقي (1501 - 1515 ليرة لكل دولار)، ووفقاً للمواصفات السابقة التي تفرض تجميد الحسابات بالعملات لفترة معينة بين 6 أشهر وسنة.
في المقابل، أكد مسؤولون مصرفيون لـ«الشرق الأوسط» أن التزام البنك المركزي والمصارف بقواعد العمل السوقية وحرية القطع والتحويل، لا يشكل حائلاً دون تنظيم هذا النوع من العمليات والتدقيق فيها انطلاقاً من القاعدة المعتمدة «اعرف عميلك». ولكل مصرف اتخاذ التدابير المناسبة التي تضمن الاستجابة لطلبات عملائه المطابقة للمواصفات المعتمدة قبل الأزمة من جهة، وحفظ حق البنك في الامتناع عن التجاوب مع طلبات لزبائن غير معتادين أو معروفين من قبل الموظفين والإدارات العامة من جهة موازية. وهذا حق قانوني للمصارف ويسهم في الحد من التسعير العشوائي للدولار خارج النطاق الرسمي، ويحول دون إجراء أي تحويلات مشبوهة.
وعملياً، اعتمدت غالبية المصارف تدابير متشددة في عمليات التحويل إلى الخارج، بحيث تم ربطها بتبيان الهدف منها ومن دون المس بحرية العميل وقراره. فالتحويلات ذات الطابع الضروري لعمليات الاستيراد للمواد الأساسية حظيت بأولوية ودون تقييد. كذلك الأمر بالنسبة لاحتياجات الأفراد المتصلة بشؤون حياتية أو صحية أو تعليمية. أما عمليات التحويل المحفزة بالعامل «النفسي» جراء الهواجس أو بتأثير من حملات التهويل، فتخضع لنقاش هادئ ومحاولة طمأنة العميل إلى متانة المراكز المالية للبنوك والتزامها بأفضل المعايير الدولية، وتأكيد الحرص على حقوق العملاء. فضلاً عن تبيان الكلفة المرتفعة محلياً وخارجياً المفروضة على شكل عمولات لتنفيذ هذا النوع من العمليات، وانتهاء بإبداء التجاوب لتنفيذ العملية على دفعات متتالية قيمة وزمنياً في حال إصرار العميل.
ويؤكد مصرفيون أن أولوية التعامل مع الضرورات بعد انقطاع عن العمل غير مسبوق في عدد أيامه وتواصله، تفرض اللجوء إلى إجراءات وقائية مؤقتة. لكنها لا تصل مطلقاً إلى مفهوم تقييد الرساميل والودائع أو إخضاعها لأي استثناءات أو أعباء. وقد أثبتت تجربة اليوم الأول من معاودة العمل أن القطاع المالي المحلي يحوز خبرات مشهودة اكتسبها في محطات مفصلية سابقة في إدارة التعامل مع ظروف طارئة ومفاجئة.
ووفق رصد موازٍ أجرته «الشرق الأوسط»، عاد الطلب وبوتيرة تصاعدية إلى أسواق «اليوروبوندز» في الداخل والخارج، لتنعكس موجة الهبوط الحاد والقياسي التي أوصلت أسعار الأوراق إلى ما بين 50 و70 في المائة من قيمها الأصلية، إلى ملامح موجة عكسية أنتجت في بدايتها تحسناً بنسب راوحت بين 3 و5 في المائة في أول يوم عمل بعد الإقفال القسري. وهو مسار يؤمل تعزيزه بنسب تحسن إضافية مع عودة النشاط الطبيعي بداية الأسبوع المقبل، مع الرهان الاستثماري على توجهات أكثر إيجابية للمرجعيات الداخلية الفاعلة وتسريع تأليف الحكومة الجديدة.
ووفق التحليل الدوري الذي تصدره مجموعة «عودة» المصرفية، سجلت سندات الدين المقومة بالدولار بعض التصحيح التصاعدي في الأسعار يومي الخميس والجمعة، إثر عودة الطلب من قبل المتعاملين المؤسساتيين الأجانب. وبلغ متوسط المردود المثقل 20.76 في المائة في نهاية هذا الأسبوع، بعد أن كان قد بلغ مستوى قياسياً نسبته 22.66 في المائة يوم الأربعاء. كذلك، أقفل متوسط الهامش المثقل (قياساً بالسندات الأميركية) على 2186 نقطة أساس في نهاية هذا الأسبوع بعد أن كان وصل إلى 2366 نقطة أساس يوم الأربعاء. وعلى صعيد كلفة تأمين الدين، تراوح هامش مقايضة المخاطر الائتمانية لـ5 سنوات بين 1510 و1565 نقطة أساس يوم الجمعة مقابل 1610 - 1670 نقطة أساس يوم الأربعاء و1305 - 1330 نقطة أساس في نهاية الأسبوع السابق.
وفي سياق متصل بنشاط السوق المالية، شهدت بورصة بيروت التي عاودت العمل أيضاً تداولات محدودة وحصرية على أسهم شركة سوليدير (إعمارية وسط بيروت) أفضت إلى انحدار إضافي بنسبة قاربت 13 في المائة في سعر السهم ليصل إلى 4.75 دولار، عوضت سندات الدين الدولية المصدرة من الحكومة جزءاً وافراً من خسائرها بنسب راوحت بين 3 و5 في المائة. وكرست مسار التعافي النسبي الذي بدا أصلاً في التداولات الخارجية عقب استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري وترقب بوادر للخروج من الوضعية شديدة التأزم التي فرضتها الاحتجاجات الشعبية العارمة منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وفي تقييم أجرته مجموعة «الاعتماد اللبناني»، شهدت حركة التداول على بورصة بيروت تباطؤاً ملموساً خلال الشهر العاشر من عام 2019 بسبب تعليق نشاط السوق الرسميّة لنحو الأسبوعَين في ظلّ الانتفاضة الشعبيّة التي اشتعلت ليل 17 أكتوبر، ما أدّى إلى إغلاق كثير من المؤسّسات أبوابها نتيجة المظاهرات الكبيرة وقطع الطرقات. إلّا أنّ إجمالي عدد الأسهُم المتداولة على البورصة قد تمّ تعزيزه بفعل صفقة كبيرة من الأسهُم العاديّة المدرجة التابعة لبنك لبنان والمهجر في مطلع الشهر، التي تخطّى عددها 4 ملايين دولار أميركي.



القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
TT

القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)

تراهن الحكومة المصرية على القطن المشهور بجودته، لاستنهاض صناعة الغزل والنسيج وتصدير منتجاتها إلى الخارج، لكن رهانها يواجه تحديات عدة في ظل تراجع المساحات المزروعة من «الذهب الأبيض»، وانخفاض مؤشرات زيادتها قريباً.

ويمتاز القطن المصري بأنه طويل التيلة، وتزرعه دول محدودة حول العالم، حيث يُستخدم في صناعة الأقمشة الفاخرة. وقد ذاع صيته عالمياً منذ القرن التاسع عشر، حتى أن بعض دور الأزياء السويسرية كانت تعتمد عليه بشكل أساسي، حسب كتاب «سبع خواجات - سير رواد الصناعة الأجانب في مصر»، للكاتب مصطفى عبيد.

ولم يكن القطن بالنسبة لمصر مجرد محصول، بل «وقود» لصناعة الغزل والنسيج، «التي مثلت 40 في المائة من قوة الاقتصاد المصري في مرحلة ما، قبل أن تتهاوى وتصل إلى ما بين 2.5 و3 في المائة حالياً»، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الذي أكد عناية الدولة باستنهاض هذه الصناعة مجدداً، خلال مؤتمر صحافي من داخل مصنع غزل «1» في مدينة المحلة 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أشار مدبولي، حسب ما نقله بيان مجلس الوزراء، إلى أن مشروع «إحياء الأصول» في الغزل والنسيج يتكلف 56 مليار جنيه (الدولار يعادل 50.7 جنيها مصري)، ويبدأ من حلج القطن، ثم تحويله غزلاً فنسيجاً أو قماشاً، ثم صبغه وتطويره حتى يصل إلى مُنتج سواء ملابس أو منسوجات، متطلعاً إلى أن ينتهي المشروع نهاية 2025 أو بداية 2026 على الأكثر.

وتكمن أهمية المشروع لمصر باعتباره مصدراً للدولار الذي تعاني الدولة من نقصه منذ سنوات؛ ما تسبب في أزمة اقتصادية دفعت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ مرتين أولاهما عام 2016 ثم في 2023.

وبينما دعا مدبولي المزارعين إلى زيادة المساحة المزروعة من القطن، أراد أن يطمئن الذين خسروا من زراعته، أو هجروه لزراعة الذرة والموالح، قائلاً: «مع انتهاء تطوير هذه القلعة الصناعية العام المقبل، فسوف نحتاج إلى كل ما تتم زراعته في مصر لتشغيل تلك المصانع».

وتراجعت زراعة القطن في مصر خلال الفترة من 2000 إلى عام 2021 بنسبة 54 في المائة، من 518 ألفاً و33 فداناً، إلى 237 ألفاً و72 فداناً، حسب دراسة صادرة عن مركز البحوث الزراعية في أبريل (نيسان) الماضي.

وأرجعت الدراسة انكماش مساحته إلى مشكلات خاصة بمدخلات الإنتاج من بذور وتقاوٍ وأسمدة، بالإضافة إلى أزمات مرتبطة بالتسويق.

أزمات الفلاحين

سمع المزارع الستيني محمد سعد، وعود رئيس الوزراء من شاشة تليفزيون منزله في محافظة الغربية (دلتا النيل)، لكنه ما زال قلقاً من زراعة القطن الموسم المقبل، الذي يبدأ في غضون 3 أشهر، تحديداً مارس (آذار) كل عام.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «زرعت قطناً الموسم الماضي، لكن التقاوي لم تثمر كما ينبغي... لو كنت أجَّرت الأرض لكسبت أكثر دون عناء». وأشار إلى أنه قرر الموسم المقبل زراعة ذرة أو موالح بدلاً منه.

نقيب الفلاحين المصري حسين أبو صدام (صفحته بفيسبوك)

على بعد مئات الكيلومترات، في محافظة المنيا (جنوب مصر)، زرع نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، القطن وكان أفضل حظاً من سعد، فأزهر محصوله، وحصده مع غيره من المزارعين بقريته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن أزمة أخرى خيَّبت أملهم، متوقعاً أن تتراجع زراعة القطن الموسم المقبل مقارنة بالماضي (2024)، الذي بلغت المساحة المزروعة فيه 311 ألف فدان.

تتلخص الأزمة التي شرحها أبو صدام لـ«الشرق الأوسط» في التسويق، قائلاً إن «المحصول تراكم لدى الفلاحين شهوراً عدة؛ لرفض التجار شراءه وفق سعر الضمان الذي سبق وحدَّدته الحكومة لتشجيع الفلاح على زراعة القطن وزيادة المحصول».

ويوضح أن سعر الضمان هو سعر متغير تحدده الحكومة للفلاح قبل أو خلال الموسم الزراعي، وتضمن به ألا يبيع القنطار (وحدة قياس تساوي 100 كيلوغرام) بأقل منه، ويمكن أن يزيد السعر حسب المزايدات التي تقيمها الحكومة لعرض القطن على التجار.

وكان سعر الضمان الموسم الماضي 10 آلاف جنيه، لمحصول القطن من الوجه القبلي، و12 ألف جنيه للمحصول من الوجه البحري «الأعلى جودة». لكن رياح القطن لم تجرِ كما تشتهي سفن الحكومة، حيث انخفضت قيمة القطن المصري عالمياً في السوق، وأرجع نقيب الفلاحين ذلك إلى «الأزمات الإقليمية وتراجع الطلب عليه».

ويحدّد رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن التابع لوزارة الزراعة، الدكتور مصطفى عمارة، فارق سعر الضمان عن سعر السوق بنحو ألفي جنيه؛ ما نتج منه عزوف من التجار عن الشراء.

وأكد عمارة أن الدولة تدخلت واشترت جزءاً من المحصول، وحاولت التيسير على التجار لشراء الجزء المتبقي، مقابل أن تعوض هي الفلاح عن الفارق، لكن التجار تراجعوا؛ ما عمق الأزمة في السوق.

يتفق معه نقيب الفلاحين، مؤكداً أن مزارعي القطن يتعرضون لخسارة مستمرة «سواء في المحصول نفسه أو في عدم حصول الفلاح على أمواله؛ ما جعل كثيرين يسخطون وينون عدم تكرار التجربة».

د. مصطفى عمارة رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية (مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري)

فرصة ثانية

يتفق المزارع ونقيب الفلاحين والمسؤول في مركز أبحاث القطن، على أن الحكومة أمامها تحدٍ صعب، لكنه ليس مستحيلاً كي تحافظ على مساحة القطن المزروعة وزيادتها.

أول مفاتيح الحل سرعة استيعاب أزمة الموسم الماضي وشراء المحصول من الفلاحين، ثم إعلان سعر ضمان مجزٍ قبل موسم الزراعة بفترة كافية، وتوفير التقاوي والأسمدة، والأهم الذي أكد عليه المزارع من الغربية محمد سعد، هو عودة نظام الإشراف والمراقبة والعناية بمنظومة زراعة القطن.

ويحذر رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن من هجران الفلاحين لزراعة القطن، قائلاً: «لو فلاح القطن هجره فـلن نعوضه».

أنواع جديدة

يشير رئيس غرفة الصناعات النسيجية في اتحاد الصناعات محمد المرشدي، إلى حاجة مصر ليس فقط إلى إقناع الفلاحين بزراعة القطن، لكن أيضاً إلى تعدد أنواعه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن القطن طويل التيلة رغم تميزه الشديد، لكن نسبة دخوله في المنسوجات عالمياً قليلة ولا تقارن بالقطن قصير التيلة.

ويؤكد المسؤول في معهد بحوث القطن أنهم استنبطوا بالفعل الكثير من الأنواع الجديدة، وأن خطة الدولة للنهوض بصناعة القطن تبدأ من الزراعة، متمنياً أن يقتنع الفلاح ويساعدهم فيها.