بطل من نوع خاص

مع أولى سطور رواية «الحجاب المرفوع»، التي صدرت عن دار «أثر للنشر والتوزيع» بترجمة التونسي منير عليمي. سيكتشف القارئ أنه أمام بطل من نوع خاص، يتنبأ بموته، ويُقرر على فراشه الأخير أن يستبق هذا الموت بحكاية عن عقله «المُختلف»، والشاعر الذي يسكن بداخله، وتلك المنحة -النقمة التي تسمى بالقدرة على التخاطر والنبوءات... «أكاد أرى ما سيحدث حين أموت وما الذي سيحدث في اللحظات الأخيرة من حياتي».
الرواية عبارة عن «نوقيلا» للكاتبة الإنجليزية الراحلة جورج إليوت، وإن لم تكن واحدة من أشهر رواياتها كما روايتاها «ميدل مارش» و«آدم بيد»،
تطرح إليوت عبر بطلها «لاتيمور» قصة تدور في فلك أعمالها المشغولة بثيمات التواصل الإنساني والتعاطف، عبر بطل منحته عقلاً مختلفاً بقدرات خاصة تُمكنه من التخاطر والعبور إلى أفكار الآخرين، فنقلت عالم روايتها القصيرة إلى قلب النفس البشرية، جاعلة منه موطناً للأحداث، وفضاءً لرجل مُنهك يحتضر على إيقاعات موت قادم ببطء كي يتخلص من كل آلامه وأوهامه.
تدور الرواية، التي تقع في 63 صفحة، على لسان راوٍ واحد وهو «لاتيمور» الذي شبّ وهو يستشعر في نفسه الغرابة، منذ أن فقد أمه في عمر مبكر، ولم يعهد من والده العناية والتعويض عن فقد الأم، فنشأ كـ«طفل غريب»، يقول وهو يسترجع فصولاً من طفولته: «لا حاجة لي بالبقاء في مرحلة كهذه من حياتي، قلت ما يكفي كي أشير إلى أن طبيعتي كانت على درجة كبيرة من الحساسية وعلى درجة من الغرابة وإنها نشأت في وسط غير منتظم لا يمكنه تذوق معنى السعادة».
حمل له سن الشباب تجربة مغايرة حين أرسله والده إلى جينيفا لإكمال دراسته، وهناك التقى صديقه تشارلز ميني، الذي كان يقول إنه كان شريكه في العزلة «رغم أن عزلته كانت لأسباب تختلف عن أسبابي»، وهناك داهمه مرض مزمن تسبب في نهاية حياته بجينيفا، وعادت علاقته بوالده لتأخذ ملامح جديدة من العناية بالابن المريض «هذه الحياة السعيدة في جينيفا كانت نهايتها على يد مرض مزمن، كان إلى حد ما جلياً بالنسبة إلي، مرض يحملني إلى ذكريات باهتة من المعاناة».
يبدأ لاتيمور بعد مرضه في اكتشاف قدراته على التخاطر وسماع أفكار من حوله بشكل مزعج، كان يصفه بـ«حدسي المرضي تجاه البشر»، وتتكشف مع روايته لسيرته علاقاته بالمقربين منه وعلى رأسهم شقيقه ألفراد، الذي كان يراه مُناقضاً تماماً مع الهشاشة التي في داخله، وتتضاعف أزمة لاتيمور النفسية حيال شقيقه بعد أن يتزوج من الفتاة التي كان مغرما بها وهي «بيرثا» الفتاة الشقراء الجميلة التي كانت واحة من الألغاز بالنسبة له، وأصعب من كان يمكنه قراءة أفكاره على الإطلاق.
وفي مسار دارمي يموت شقيقه، فيتيح له القدر فرصة الزواج بأرملة شقيقه بيرثا «كنا قد تزوجنا بعد ثمانية عشر شهراً بعد وفاة ألفراد، في صباح بارد في أفريل، حتى أتى البرد وأتت أشعة الشمس كلاهما معاً مع بيرثا، وهي ترتدي ثوبها الأبيض مع وشاح شاحب أخضر ومسحة من الشحوب ترتدي وجهها وهي تتراءى لي بشعرها الذي كان أشبه بروح تنبعث من الصباح».
ولكن سرعان ما يتبدد الحب مع اكتشافه تورط بيرثا في كراهيته وتخطيطها لقتله وتسميمه، وهو خبر صادم يتلقاه لاتيمور بهدوء من رأى ذات المشهد من قبل «الذعر كان مألوفاً بالنسبة إلي والنبوءة الجديدة لم تكن إلا مجرد ألم قديم يعيد تكرار نفسه في ظروف جديدة».
تنتهي الرواية من حيث بدأت بنبوءة موته ولحظة احتضاره، التي كان يرى طيوفها جليّة «من المؤكد أنني سأكون جالساً فوق كرسي تمام العاشرة ليلاً، لأتلقى الدرس الأخير».
ويصعب خلال قراءة «الحجاب المرفوع» تجاوز أن كاتبتها هي واحدة من ألغاز الأدب العالمي، فاسمها الحقيقي هو «ماري آن إيفانس» لكنها تخفت تحت قناع رجل وانتحلت اسماً مستعاراً هو جورج إليوت، وحجتها في ذلك رغبتها في أن يتم أخذ أعمالها على محمل الجد كي لا تخضع للتنميط وتنعت أعمالها بالرومانسية لمجرد أن كاتبتها امرأة.