مظاهرات العراق: أهداف مشروعة وسقوف متضاربة

بين الغضب الشيعي... والحذر السنّي

مظاهرات العراق: أهداف مشروعة وسقوف متضاربة
TT

مظاهرات العراق: أهداف مشروعة وسقوف متضاربة

مظاهرات العراق: أهداف مشروعة وسقوف متضاربة

لم تكن الطبقة السياسية التي حكمت العراق بعد عام 2003 تتوقع هذا النمط من المظاهرات التي سرعان ما تحولت إلى احتجاجات واسعة النطاق.
الأيام الأولى منها، حين اندلعت في الأول من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حصدت أرواح مئات القتلى وآلاف الجرحى في سابقة لم تحصل من قبل. وبينما قدمت الحكومة والبرلمان حزما إصلاحية هي الأكبر من نوعها منذ 16 سنة، فإنها لم تؤثر سواء في زخم الاحتجاجات وتنوعها أو في تنوع سقوف مطالبها التي وصلت إلى حد الدعوة إلى تغيير النظام. والمتظاهرون، بعد وقوع أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، أعلنوا عن تأجيل مظاهراتهم إلى يوم الخامس والعشرين من الشهر الحالي الذي يصادف مرور سنة كاملة على تولي رئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي مهام منصبه.

تنفست الطبقة السياسية في العراق الصعداء خلال فترة أسبوعين في وقت بقي زخم الإعداد للمظاهرات المليونية المقبلة بدءا من يوم الـ25 من الشهر الحالي قائماً على قدم وساق، على الرغم من استمرار تقديم التنازلات من قبل الحكومة، بما فيها فتح المزيد من فرص التوظيف أو الخدمات، وتوزيع قطع الأراضي، وإعادة النظر في الرواتب والامتيازات لكبار المسؤولين ولشرائح أخرى في المجتمع.
وفضلاً عن دعوات المرجعية الدينية للتهدئة، فإن تنسيقيات المظاهرات بقيت مستمرة في التحشيد ورفع سقف المطالب دون أن تلتفت إلى ما يصدر عن البرلمان والحكومة العراقية. وفي أثناء ذلك صدر التقرير الخاص بلجنة التحقيق بالأحداث التي رافقت المظاهرات، والتي طلب المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني من رئيس الوزراء عادل عبد المهدي تشكيلها «لكي تبين حقيقة ما حصل، ومن هي الجهات والأطراف التي قصرت في عملها... المتمثل حصراً في حماية المتظاهرين ممن أطلق عليهم المندسّين والقنّاصين».

تحقيق مخيب للآمال
وفي حين كان العراقيون ينتظرون نتائج التقرير لكي تكشف الحقيقة، أو جزءاً منها في الأقل، لتضع النقاط على الحروف، الأمر الذي يمكن أن يكون له تأثير في سحب البساط من تحت أقدام الجهات التي بدأت تركب موجة المظاهرات، فإن نتائج التقرير نفسه جاءت مخيبة للآمال.
ذلك أن التقرير لم يكشف حقيقة ما حصل بشكل مهني كما كان مأمولاً. وبدلاً من أن يوضح هوية الأطراف التي تتحمل مسؤولية إطلاق الرصاص الحي، أو كيفية دخول مندسّين إلى قلب المظاهرات في ظل وجود أجهزة أمن ومخابرات واستخبارات، فإنه حمّل المسؤولية لعدد من القادة العسكريين من قادة العمليات أو قادة الشرطة في المحافظات التي وقعت فيها المظاهرات، وهي في غالبيتها، العاصمة بغداد ومحافظات الوسط والجنوب.

مفارقة دستورية
طبقا لتجربة المظاهرات في العراق منذ عام 2011 بالتزامن مع الربيع العربي آنذاك، فإن كل توقعات الطبقة السياسية الحاكمة في العراق ما كانت تتعدى ما هو مطلبي عام، يمكن حله بطرق وأساليب مختلفة ما دامت تقع تحت سقف الدستور الذي يضمن حرية التظاهر. والواقع أن الفصل الخاص بالحريات بالدستور العراقي يُعد من أفضل فصول الدستور الذي تقع مهمة إلغائه في مقدمة مطالب المتظاهرين الآن.
وفي حين حرص كتاب الدستور العراقي، الذي سبق التصويت عليه بنسبة زادت على الـ80 في المائة من أبناء الشعب العراقي - وبخاصة في الوسطين الشيعي والكردي عام 2005 - على جعل المواد الخاصة بالحقوق والحريات، وكذلك النظام الفيدرالي من بين أهم مواده التي اعتني تماماً بصياغتها، فلقد بدت المواد الأخرى ذات الطبيعة السياسية الخلافية مملوءة بالألغام التي لا أحد يتوقع متى تنفجر.
وفي حين بدأت الخلافات مبكرة حول المادة 124 الخاصة بالتعديلات الدستورية التي حددت وقتذاك سقفاً زمنياً لا يتعدى الشهور الأربعة لتعديل المواد الخلافية فيه، فإن الخلافات استمرت حتى هذا اليوم دون أن يتمكن الأفرقاء السياسيون من حسم تعديل المواد الدستورية العالقة.
المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها بين المركز وإقليم كردستان، وفي مقدمتها محافظة كركوك، ظلت مادة خلافية حتى اليوم، مع أن الدستور حدد لها سقفاً زمنياً لا يتجاوز عام 2007. يضاف إلى ذلك وجود أكثر من 50 مادة دستورية بقيت جامدة حتى الآن، بسبب فشل الكتل والأحزاب والقوى السياسية في تنظيمها بقانون طبقاً لما ينص عليه الدستور. انطلاقاً من ذلك، فإن المطلب الأول للمظاهرات بات الآن هو تغيير الدستور، بعدما كانت المطالب في البداية لا تتجاوز الخدمات مثل فرص العمل والسكن والضمان الصحي والاجتماعي.

حسابات مؤجلة
ربما كانت أكثر المفارقات اللافتة في المظاهرات العراقية اليوم المطالبة بتغيير الدستور بالدرجة الأولى، وتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، وكتابة قانون انتخابي جديد، هي أنها انطلقت من أوساط الشباب حصراً... وفي المناطق والأحياء ذات الغالبية الشيعية من بغداد وباقي محافظات الوسط والجنوب ذات الغالبية الشيعية.
وبينما يفسّر عبد الله الخربيط، النائب في البرلمان العراقي عن محافظة الأنبار - ذات الغالبية السنية - في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، امتناع العرب السنة عن المشاركة في المظاهرات بأنها تهدف إلى «تجنب توجيه اتهامات جاهزة للسنة بأن خلفها حزب البعث والإرهاب و(داعش)، فإن خروج المتظاهرين من قاع الأحياء الشيعية الفقيرة، بما فيها العشوائيات، يؤكد أن النظام الذين راهنوا عليه والذي تقوده غالبية شيعية حاكمة لم ينجح في تحقيق ما كانوا يأملون بتحقيقه».
ويرى الخربيط أن «المطالب العامة للمظاهرات صحيحة، وهي مطالب مشروعة وكان ينبغي أن تتحقق خلال السنوات الـ16 الماضية... لكن فشل نظام المحاصصة الذي تشارك فيه الجميع (الشيعة والسنة والكرد) هو الذي فجرّ الغضب الجماهيري». وبيّن النائب أن «طبيعة رد الفعل القاسية من قبل القوات الأمنية، أو بعضها على الأقل، على المتظاهرين ما كان مبرراً. وبالتالي فإن دخول السنة في المظاهرات كان من الممكن أن يخلق مشكلة على صعيد كيفية التعامل معهم... خصوصاً أن لهم تجارب سلبية سابقة، عندما أدت إلى حصول مشاكل كبيرة وهو ما مهّد فيما بعد لدخول (داعش) واحتلالها المحافظات الغربية».

غضب المناطق الشيعية
أما لماذا تفجّر الغضب الشعبي في أوساط الشيعة، وتحديداً، مناطق الوسط والجنوب، فإن لذلك أسبابا و«سيناريوهات» مختلفة؛ منها أن الجيل الجديد من أبناء هذه المناطق، وإن كان لا يختلف عن سواه من أبناء المكوّنات الأخرى (السنة والكرد)، بات ينظر إلى أن الطبقة التي تصدّرت السلطة، وهي شيعية في المقام الأول، لم تحقق له ما كان ينتظره من وطن يتمتع بكل ما تتمتع به الأوطان من عيش كريم وفرص عمل متساوية وعدالة اجتماعية وحكم رشيد. وهذا، مع العلم، أن العراق بلد غني بموارده وثرواته.
من ثم، بدت الحسابات التي انطلق منها هذا الجيل مؤجلة، وتعود إلى 16 سنة مضت. وطبقاً لطبيعة الحكم الذي يتركز بيد الشيعة - الذين لهم رئاسة الوزراء التي تتضمن كل الصلاحيات - كان ينبغي أن يكون حال العراق في وضع أفضل بكثير مما هو عليه اليوم، ولا سيما، أن معظم الشيعة الفقراء يقطنون في منازل بائسة في عشوائيات ومدن صفيح. ومن ثم، فإن فقراءهم يشعرون بالمفارقة من أن تكون السلطة بيدهم... وأن يتركّز الغنى والثروات في يد قلة قليلة ممن كانوا يعيشون خارج العراق وجاؤوا إليه مع الاحتلال الأميركي عام 2003.

الحلول والسقوف والأولويات
هذه أول مظاهرات في العراق تدخل شهرها الثاني، في وقت يزداد زخمها الجماهيري لتشمل مؤخراً طلبة الجامعات والمدارس الإعدادية. وبينما بدأت المظاهرات شيعية مناطقية (أحياء بغداد ذات الغالبية الشيعية) ومحافظات الوسط والجنوب ذات الغالبية الشيعية، فإنها تحولت إلى وطنية عامة تقريباً بعدما انضمت إليها أحياء ذات غالبية سنّية من العاصمة بغداد. وفي الوقت الذي لم تخرج مظاهرات في المحافظات الغربية ذات الغالبية السنّية خشية أن يجري اختطافها، كما حصل في مظاهرات عام 2013 التي مهدت لعودة تنظيم «داعش»، سجّلت مساهمات من بعض تلك المحافظات بإرسال مواد غذائية وطبية إلى المتظاهرين في ساحة التحرير.
مع كل ما تقدّم، فإن هذه المظاهرات، بدلت تعاطي السلطات العراقية الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية مع مطالب المتظاهرين. وباتت تراها كجزء من الحلول الضرورية الممهدة للحل النهائي لمشكلة النظام السياسي في البلاد. وهذا، رغم عدم وجود أهداف موحدة للمظاهرات فضلاً عن عدم بروز قيادات لها... ما يجعل سقوفها مرتفعة مرة ومتناقضة مرة أخرى.
وفي هذا السياق، في إطار الحلول المقترحة من قبل السلطات الثلاث في العراق وصلتها بالسقوف المتضاربة للمظاهرات... تتجسد المشكلة بالأولويات. إذ في حين تكاد تتفق الطبقة السياسية بكل قواها على أن أهداف المظاهرات سلمية ومشروعة، فإنهم يرون أن البداية هي تقديم الحلول ذات الطابع الخدمي (فرص عمل وسكن وضمان صحي واجتماعي)... وصولاً إلى إصلاح بنية النظام الأساسية بدءاً من تعديل الدستور، وإقرار قانون انتخابات جديد، وإمكانية تحويل العراق من نظام برلماني إلى رئاسي.
غير أن المتظاهرين يرفضون إصلاحات الحكومة، مهما بدت جادة، لأنهم يريدون البدء بإصلاح النظام أولاً. وعليه، فهم يصرون مرة على إقالة الحكومة، أو إلغاء النظام كله مرة أخرى... من دون وجود خريطة طريق يمكن أن تتحقق من خلالها مثل هذه الآلية.

تصويت البرلمان... والفساد
البرلمان العراقي من جهته، صوّت على حزمة من القرارات والإجراءات عدّت الأقوى منذ عام 2003، الذي يشكل بداية النظام السياسي الجديد في العراق.
من بين أهم القرارات التي اتخذها البرلمان: إلغاء مجالس المحافظات والمجالس البلدية في الأقضية والنواحي، وهو ما يُعد أقوى ضربة للحكم المحلي في البلاد.
كذلك قرر البرلمان تشكيل لجنة لتعديل الدستور العراقي. وصوّت على إلزام الحكومة عدم الجمع بين راتبين، ومن بينها رواتب رفحاء التي أثارت على مدى سنوات جدلاً في الأوساط العراقية بسبب جمع المشمولين بها راتبا لكل فرد في العائلة. كما صوّت على إلغاء امتيازات الرئاسات الثلاث والمناصب الكبرى في البلاد.
القضاء من جهته، اتخذ إجراءات استثنائية بشأن مكافحة الفساد في البلاد. وقال المجلس في بيان له إنه «على ضوء ما يجري من أحداث وبعد المداولة الإلكترونية، والاجتماع الطارئ بين رئيس مجلس القضاء الأعلى مع أعضاء مجلس القضاء الأعلى، فقد توصل المجلس إلى الإيعاز إلى المحكمة المركزية لمكافحة الفساد باتخاذ الإجراءات الاستثنائية بإصدار مذكرات القبض بحق المتهمين الداخلة قضاياهم ضمن اختصاص المحكمة ومنع سفرهم والإيعاز إلى الجهات التنفيذية بذلك».
وأضاف: «كما يعلن المجلس أن المادة الثانية الفقرة 2 من قانون مكافحة الإرهاب النافذ تنص على أن يعد من الأفعال الإرهابية (العمل بالعنف والتهديد على هدم أو إتلاف أو أضرار عن عمد مبان أو أملاك عامة أو مصالح حكومية أو مؤسسات أو هيئات حكومية أو دوائر الدولة والقطاع الخاص أو المرافق العامة)، كذلك يعد بموجب الفقرة 5 من المادة الثانية المذكورة عملاً إرهابياً مَن يعتدي بالأسلحة النارية على دوائر للجيش أو للشرطة أو الدوائر الأمنية أو الاعتداء على القطعات العسكرية الوطنية، وأن هذه الجرائم يعاقب عليها القانون بالإعدام وفق قانون مكافحة الإرهاب».
وفي هذا الصدد، أكد سعيد ياسين موسى، عضو المجلس الأعلى لمكافحة الفساد في العراق، الذي يترأسه رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الإجراءات الاستثنائية، التي اتخذها مجلس القضاء الأعلى على صعيد بدء إجراءات فعالة لمحاربة الفساد، سوف تؤدي إلى حسم نحو أكثر من 12 ألف ملف فساد كانت محمية في السابق بسبب التأخير في الإجراءات الإدارية التي كانت تمثل سياجا منيعا لحماية الفاسدين».
وأضاف موسى أن «تأخير حسم تلك الملفات لم يكن بسبب القضاء، بل بسبب التحقيقات الإدارية التي كان يحق لرئيس الدائرة - الذي هو برتبة وزير أو وكيل - تأخيرها لأسباب مختلفة، وبالتالي لا تصل إلى القضاء للبت فيها، وهو ما تم تجاوزه الآن». وبيّن أن «من بين الـ12 ألف ملف فساد كان قد حسم نحو 8000 آلاف منها، بينما بقيت قضايا مهمة تعد بالآلاف. ولذلك بدأت الآن مثل هذه الإجراءات الحاسمة لتضع الأمور في نصابها الصحيح، حيث صدرت مذكرات قبض بحق كثيرين ممن كانوا محمين لهذا السبب أو ذاك».
ليس هذا فقط، فإن إجراءات القضاء شملت إجراءات رفع الحصانة عن النواب المتهمين بالفساد، وهي مسألة كانت من الصعوبة بمكان خلال الفترات الماضية. ولقد قرر رئيس البرلمان محمد الحلبوسي البدء بنفسه، حين طلب من البرلمان رفع الحصانة عنه وعن نائبيه، في محاولة منه لتشجيع السلطة التشريعية على المضي في إجراءاتها الهادفة إلى بدء مرحلة جديدة من العمل الرقابي في البلاد.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.