مظاهرات العراق: أهداف مشروعة وسقوف متضاربة

بين الغضب الشيعي... والحذر السنّي

مظاهرات العراق: أهداف مشروعة وسقوف متضاربة
TT

مظاهرات العراق: أهداف مشروعة وسقوف متضاربة

مظاهرات العراق: أهداف مشروعة وسقوف متضاربة

لم تكن الطبقة السياسية التي حكمت العراق بعد عام 2003 تتوقع هذا النمط من المظاهرات التي سرعان ما تحولت إلى احتجاجات واسعة النطاق.
الأيام الأولى منها، حين اندلعت في الأول من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حصدت أرواح مئات القتلى وآلاف الجرحى في سابقة لم تحصل من قبل. وبينما قدمت الحكومة والبرلمان حزما إصلاحية هي الأكبر من نوعها منذ 16 سنة، فإنها لم تؤثر سواء في زخم الاحتجاجات وتنوعها أو في تنوع سقوف مطالبها التي وصلت إلى حد الدعوة إلى تغيير النظام. والمتظاهرون، بعد وقوع أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، أعلنوا عن تأجيل مظاهراتهم إلى يوم الخامس والعشرين من الشهر الحالي الذي يصادف مرور سنة كاملة على تولي رئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي مهام منصبه.

تنفست الطبقة السياسية في العراق الصعداء خلال فترة أسبوعين في وقت بقي زخم الإعداد للمظاهرات المليونية المقبلة بدءا من يوم الـ25 من الشهر الحالي قائماً على قدم وساق، على الرغم من استمرار تقديم التنازلات من قبل الحكومة، بما فيها فتح المزيد من فرص التوظيف أو الخدمات، وتوزيع قطع الأراضي، وإعادة النظر في الرواتب والامتيازات لكبار المسؤولين ولشرائح أخرى في المجتمع.
وفضلاً عن دعوات المرجعية الدينية للتهدئة، فإن تنسيقيات المظاهرات بقيت مستمرة في التحشيد ورفع سقف المطالب دون أن تلتفت إلى ما يصدر عن البرلمان والحكومة العراقية. وفي أثناء ذلك صدر التقرير الخاص بلجنة التحقيق بالأحداث التي رافقت المظاهرات، والتي طلب المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني من رئيس الوزراء عادل عبد المهدي تشكيلها «لكي تبين حقيقة ما حصل، ومن هي الجهات والأطراف التي قصرت في عملها... المتمثل حصراً في حماية المتظاهرين ممن أطلق عليهم المندسّين والقنّاصين».

تحقيق مخيب للآمال
وفي حين كان العراقيون ينتظرون نتائج التقرير لكي تكشف الحقيقة، أو جزءاً منها في الأقل، لتضع النقاط على الحروف، الأمر الذي يمكن أن يكون له تأثير في سحب البساط من تحت أقدام الجهات التي بدأت تركب موجة المظاهرات، فإن نتائج التقرير نفسه جاءت مخيبة للآمال.
ذلك أن التقرير لم يكشف حقيقة ما حصل بشكل مهني كما كان مأمولاً. وبدلاً من أن يوضح هوية الأطراف التي تتحمل مسؤولية إطلاق الرصاص الحي، أو كيفية دخول مندسّين إلى قلب المظاهرات في ظل وجود أجهزة أمن ومخابرات واستخبارات، فإنه حمّل المسؤولية لعدد من القادة العسكريين من قادة العمليات أو قادة الشرطة في المحافظات التي وقعت فيها المظاهرات، وهي في غالبيتها، العاصمة بغداد ومحافظات الوسط والجنوب.

مفارقة دستورية
طبقا لتجربة المظاهرات في العراق منذ عام 2011 بالتزامن مع الربيع العربي آنذاك، فإن كل توقعات الطبقة السياسية الحاكمة في العراق ما كانت تتعدى ما هو مطلبي عام، يمكن حله بطرق وأساليب مختلفة ما دامت تقع تحت سقف الدستور الذي يضمن حرية التظاهر. والواقع أن الفصل الخاص بالحريات بالدستور العراقي يُعد من أفضل فصول الدستور الذي تقع مهمة إلغائه في مقدمة مطالب المتظاهرين الآن.
وفي حين حرص كتاب الدستور العراقي، الذي سبق التصويت عليه بنسبة زادت على الـ80 في المائة من أبناء الشعب العراقي - وبخاصة في الوسطين الشيعي والكردي عام 2005 - على جعل المواد الخاصة بالحقوق والحريات، وكذلك النظام الفيدرالي من بين أهم مواده التي اعتني تماماً بصياغتها، فلقد بدت المواد الأخرى ذات الطبيعة السياسية الخلافية مملوءة بالألغام التي لا أحد يتوقع متى تنفجر.
وفي حين بدأت الخلافات مبكرة حول المادة 124 الخاصة بالتعديلات الدستورية التي حددت وقتذاك سقفاً زمنياً لا يتعدى الشهور الأربعة لتعديل المواد الخلافية فيه، فإن الخلافات استمرت حتى هذا اليوم دون أن يتمكن الأفرقاء السياسيون من حسم تعديل المواد الدستورية العالقة.
المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها بين المركز وإقليم كردستان، وفي مقدمتها محافظة كركوك، ظلت مادة خلافية حتى اليوم، مع أن الدستور حدد لها سقفاً زمنياً لا يتجاوز عام 2007. يضاف إلى ذلك وجود أكثر من 50 مادة دستورية بقيت جامدة حتى الآن، بسبب فشل الكتل والأحزاب والقوى السياسية في تنظيمها بقانون طبقاً لما ينص عليه الدستور. انطلاقاً من ذلك، فإن المطلب الأول للمظاهرات بات الآن هو تغيير الدستور، بعدما كانت المطالب في البداية لا تتجاوز الخدمات مثل فرص العمل والسكن والضمان الصحي والاجتماعي.

حسابات مؤجلة
ربما كانت أكثر المفارقات اللافتة في المظاهرات العراقية اليوم المطالبة بتغيير الدستور بالدرجة الأولى، وتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، وكتابة قانون انتخابي جديد، هي أنها انطلقت من أوساط الشباب حصراً... وفي المناطق والأحياء ذات الغالبية الشيعية من بغداد وباقي محافظات الوسط والجنوب ذات الغالبية الشيعية.
وبينما يفسّر عبد الله الخربيط، النائب في البرلمان العراقي عن محافظة الأنبار - ذات الغالبية السنية - في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، امتناع العرب السنة عن المشاركة في المظاهرات بأنها تهدف إلى «تجنب توجيه اتهامات جاهزة للسنة بأن خلفها حزب البعث والإرهاب و(داعش)، فإن خروج المتظاهرين من قاع الأحياء الشيعية الفقيرة، بما فيها العشوائيات، يؤكد أن النظام الذين راهنوا عليه والذي تقوده غالبية شيعية حاكمة لم ينجح في تحقيق ما كانوا يأملون بتحقيقه».
ويرى الخربيط أن «المطالب العامة للمظاهرات صحيحة، وهي مطالب مشروعة وكان ينبغي أن تتحقق خلال السنوات الـ16 الماضية... لكن فشل نظام المحاصصة الذي تشارك فيه الجميع (الشيعة والسنة والكرد) هو الذي فجرّ الغضب الجماهيري». وبيّن النائب أن «طبيعة رد الفعل القاسية من قبل القوات الأمنية، أو بعضها على الأقل، على المتظاهرين ما كان مبرراً. وبالتالي فإن دخول السنة في المظاهرات كان من الممكن أن يخلق مشكلة على صعيد كيفية التعامل معهم... خصوصاً أن لهم تجارب سلبية سابقة، عندما أدت إلى حصول مشاكل كبيرة وهو ما مهّد فيما بعد لدخول (داعش) واحتلالها المحافظات الغربية».

غضب المناطق الشيعية
أما لماذا تفجّر الغضب الشعبي في أوساط الشيعة، وتحديداً، مناطق الوسط والجنوب، فإن لذلك أسبابا و«سيناريوهات» مختلفة؛ منها أن الجيل الجديد من أبناء هذه المناطق، وإن كان لا يختلف عن سواه من أبناء المكوّنات الأخرى (السنة والكرد)، بات ينظر إلى أن الطبقة التي تصدّرت السلطة، وهي شيعية في المقام الأول، لم تحقق له ما كان ينتظره من وطن يتمتع بكل ما تتمتع به الأوطان من عيش كريم وفرص عمل متساوية وعدالة اجتماعية وحكم رشيد. وهذا، مع العلم، أن العراق بلد غني بموارده وثرواته.
من ثم، بدت الحسابات التي انطلق منها هذا الجيل مؤجلة، وتعود إلى 16 سنة مضت. وطبقاً لطبيعة الحكم الذي يتركز بيد الشيعة - الذين لهم رئاسة الوزراء التي تتضمن كل الصلاحيات - كان ينبغي أن يكون حال العراق في وضع أفضل بكثير مما هو عليه اليوم، ولا سيما، أن معظم الشيعة الفقراء يقطنون في منازل بائسة في عشوائيات ومدن صفيح. ومن ثم، فإن فقراءهم يشعرون بالمفارقة من أن تكون السلطة بيدهم... وأن يتركّز الغنى والثروات في يد قلة قليلة ممن كانوا يعيشون خارج العراق وجاؤوا إليه مع الاحتلال الأميركي عام 2003.

الحلول والسقوف والأولويات
هذه أول مظاهرات في العراق تدخل شهرها الثاني، في وقت يزداد زخمها الجماهيري لتشمل مؤخراً طلبة الجامعات والمدارس الإعدادية. وبينما بدأت المظاهرات شيعية مناطقية (أحياء بغداد ذات الغالبية الشيعية) ومحافظات الوسط والجنوب ذات الغالبية الشيعية، فإنها تحولت إلى وطنية عامة تقريباً بعدما انضمت إليها أحياء ذات غالبية سنّية من العاصمة بغداد. وفي الوقت الذي لم تخرج مظاهرات في المحافظات الغربية ذات الغالبية السنّية خشية أن يجري اختطافها، كما حصل في مظاهرات عام 2013 التي مهدت لعودة تنظيم «داعش»، سجّلت مساهمات من بعض تلك المحافظات بإرسال مواد غذائية وطبية إلى المتظاهرين في ساحة التحرير.
مع كل ما تقدّم، فإن هذه المظاهرات، بدلت تعاطي السلطات العراقية الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية مع مطالب المتظاهرين. وباتت تراها كجزء من الحلول الضرورية الممهدة للحل النهائي لمشكلة النظام السياسي في البلاد. وهذا، رغم عدم وجود أهداف موحدة للمظاهرات فضلاً عن عدم بروز قيادات لها... ما يجعل سقوفها مرتفعة مرة ومتناقضة مرة أخرى.
وفي هذا السياق، في إطار الحلول المقترحة من قبل السلطات الثلاث في العراق وصلتها بالسقوف المتضاربة للمظاهرات... تتجسد المشكلة بالأولويات. إذ في حين تكاد تتفق الطبقة السياسية بكل قواها على أن أهداف المظاهرات سلمية ومشروعة، فإنهم يرون أن البداية هي تقديم الحلول ذات الطابع الخدمي (فرص عمل وسكن وضمان صحي واجتماعي)... وصولاً إلى إصلاح بنية النظام الأساسية بدءاً من تعديل الدستور، وإقرار قانون انتخابات جديد، وإمكانية تحويل العراق من نظام برلماني إلى رئاسي.
غير أن المتظاهرين يرفضون إصلاحات الحكومة، مهما بدت جادة، لأنهم يريدون البدء بإصلاح النظام أولاً. وعليه، فهم يصرون مرة على إقالة الحكومة، أو إلغاء النظام كله مرة أخرى... من دون وجود خريطة طريق يمكن أن تتحقق من خلالها مثل هذه الآلية.

تصويت البرلمان... والفساد
البرلمان العراقي من جهته، صوّت على حزمة من القرارات والإجراءات عدّت الأقوى منذ عام 2003، الذي يشكل بداية النظام السياسي الجديد في العراق.
من بين أهم القرارات التي اتخذها البرلمان: إلغاء مجالس المحافظات والمجالس البلدية في الأقضية والنواحي، وهو ما يُعد أقوى ضربة للحكم المحلي في البلاد.
كذلك قرر البرلمان تشكيل لجنة لتعديل الدستور العراقي. وصوّت على إلزام الحكومة عدم الجمع بين راتبين، ومن بينها رواتب رفحاء التي أثارت على مدى سنوات جدلاً في الأوساط العراقية بسبب جمع المشمولين بها راتبا لكل فرد في العائلة. كما صوّت على إلغاء امتيازات الرئاسات الثلاث والمناصب الكبرى في البلاد.
القضاء من جهته، اتخذ إجراءات استثنائية بشأن مكافحة الفساد في البلاد. وقال المجلس في بيان له إنه «على ضوء ما يجري من أحداث وبعد المداولة الإلكترونية، والاجتماع الطارئ بين رئيس مجلس القضاء الأعلى مع أعضاء مجلس القضاء الأعلى، فقد توصل المجلس إلى الإيعاز إلى المحكمة المركزية لمكافحة الفساد باتخاذ الإجراءات الاستثنائية بإصدار مذكرات القبض بحق المتهمين الداخلة قضاياهم ضمن اختصاص المحكمة ومنع سفرهم والإيعاز إلى الجهات التنفيذية بذلك».
وأضاف: «كما يعلن المجلس أن المادة الثانية الفقرة 2 من قانون مكافحة الإرهاب النافذ تنص على أن يعد من الأفعال الإرهابية (العمل بالعنف والتهديد على هدم أو إتلاف أو أضرار عن عمد مبان أو أملاك عامة أو مصالح حكومية أو مؤسسات أو هيئات حكومية أو دوائر الدولة والقطاع الخاص أو المرافق العامة)، كذلك يعد بموجب الفقرة 5 من المادة الثانية المذكورة عملاً إرهابياً مَن يعتدي بالأسلحة النارية على دوائر للجيش أو للشرطة أو الدوائر الأمنية أو الاعتداء على القطعات العسكرية الوطنية، وأن هذه الجرائم يعاقب عليها القانون بالإعدام وفق قانون مكافحة الإرهاب».
وفي هذا الصدد، أكد سعيد ياسين موسى، عضو المجلس الأعلى لمكافحة الفساد في العراق، الذي يترأسه رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الإجراءات الاستثنائية، التي اتخذها مجلس القضاء الأعلى على صعيد بدء إجراءات فعالة لمحاربة الفساد، سوف تؤدي إلى حسم نحو أكثر من 12 ألف ملف فساد كانت محمية في السابق بسبب التأخير في الإجراءات الإدارية التي كانت تمثل سياجا منيعا لحماية الفاسدين».
وأضاف موسى أن «تأخير حسم تلك الملفات لم يكن بسبب القضاء، بل بسبب التحقيقات الإدارية التي كان يحق لرئيس الدائرة - الذي هو برتبة وزير أو وكيل - تأخيرها لأسباب مختلفة، وبالتالي لا تصل إلى القضاء للبت فيها، وهو ما تم تجاوزه الآن». وبيّن أن «من بين الـ12 ألف ملف فساد كان قد حسم نحو 8000 آلاف منها، بينما بقيت قضايا مهمة تعد بالآلاف. ولذلك بدأت الآن مثل هذه الإجراءات الحاسمة لتضع الأمور في نصابها الصحيح، حيث صدرت مذكرات قبض بحق كثيرين ممن كانوا محمين لهذا السبب أو ذاك».
ليس هذا فقط، فإن إجراءات القضاء شملت إجراءات رفع الحصانة عن النواب المتهمين بالفساد، وهي مسألة كانت من الصعوبة بمكان خلال الفترات الماضية. ولقد قرر رئيس البرلمان محمد الحلبوسي البدء بنفسه، حين طلب من البرلمان رفع الحصانة عنه وعن نائبيه، في محاولة منه لتشجيع السلطة التشريعية على المضي في إجراءاتها الهادفة إلى بدء مرحلة جديدة من العمل الرقابي في البلاد.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.