غداة اختياره من مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية مديراً عاماً جديداً، تسارعت التساؤلات عن توجهات الدبلوماسي الأرجنتيني رافايل ماريانو غروسي (58 سنة)، الذي يحظى بدعم كبير من الولايات المتحدة، حيال الأزمة المتعلقة بالأزمة النووية المتفاقمة مع إيران. وكان غروسي، الذي يوصف بأنه «مخضرم الدبلوماسية النووية»، قد حصل على تزكية العدد الكامل لمجلس حكام الوكالة المؤلف من 35 عضواً خلال هذا الأسبوع في العاصمة النمساوية فيينا، حيث مقر الوكالة. إلا أنه فاز في الجولة الثالثة من الانتخابات ضمن سباق تنافسي غير عادي بـ24 صوتاً مقابل 10 أصوات ضد كورنيل فيروتا، الروماني الذي يتولى منصب المدير العام بالنيابة منذ وفاة المدير العام السابق الياباني يوكيا أمانو في يوليو (تموز) الماضي. وللعلم، فإن غروسي لن يباشر عمله إلا بعد مصادقة المؤتمر العام للوكالة المؤلف من 171 عضواً على تعيينه، في جلسة استثنائية ستنعقد في 2 ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
كشف دبلوماسيون أن واشنطن قادت حملة من خلف الأضواء لاختيار الدبلوماسي الأرجنتيني رافايل غروسي مديراً عاماً الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الذي يتوقع أن يبدأ مهمته لمدة 4 سنوات في 3 ديسمبر (كانون الأول). وخلافاً للمعتاد، لم تكن دول الاتحاد الأوروبي موحّدة هذه المرة وراء مرشح أوروبي واحد لهذا المنصب.
كان غروسي قد عمل في منصب كبير الموظفين إبان عهد أمانو بين عامي 2010 و2013. ومنذ ذلك الحين عمل سفيراً للأرجنتين لدى الوكالة التي تعمل مع دولها الأعضاء وشركائها لتعزيز التكنولوجيات النووية الآمنة والسليمة والسلمية ومنع انتشار الأسلحة النووية. كذلك أمضى غروسي سنوات عدة مسؤولاً كبيراً في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية. وقاد أخيراً مراجعة دولية لمعاهدة حظر الانتشار التي تهدف إلى وضع حد لانتشار الأسلحة النووية. وهو سيترأس مؤتمر مراجعة معاهدة حظر الانتشار النووي المقرر عقده في نيويورك خلال العام المقبل، علماً أنه ينعقد مرة واحدة كل 5 سنوات.
نبذة شخصية
ولد رافايل غروسي في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس عام 1961. وتخرّج عام 1983 في الجامعة البابوية الكاثوليكية في العاصمة بشهادة بكالوريوس في العلوم السياسية. ثم التحق عام 1985 بالسلك الدبلوماسي الأرجنتيني. وبعد ذلك حصل عام 1997 من جامعة جنيف بدرجة ماجستير، ثم درجة دكتوراه في العلاقات الدولية والتاريخ والسياسة الدولية.
صاحب خبرة واسعة
بدأ المدير العام الجديد تجربته في المجال النووي من خلال التعاون بين وزارة الخارجية وشركة «اينفاب» الأرجنتينية. وتولى رئاسة مجموعة الأمم المتحدة للخبراء الحكوميين المعنية بالسجل الدولي للأسلحة بين عامي 1997 و2000. ثم صار لاحقاً مستشاراً للأمين العام المساعد للأمم المتحدة في مجال نزع الأسلحة. وتولى بين عامي 2002 و2007 منصب كبير الموظفين لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية.
أثناء عمل غروسي مع الأمم المتحدة زار المنشآت النووية لكوريا الشمالية، وشارك في اجتماعات عدة عقدت مع ممثلي السلطات الإيرانية سعياً للتوصل إلى اتفاق لتجميد البرنامج النووي لدى طهران. وأيضاً خلال عمله في وزارة الخارجية الأرجنتينية، تولى منصب المدير العام للتنسيق السياسي، ثم عمل سفيراً لدى بلجيكا، وممثلاً لبلاده لدى مكتب الأمم المتحدة في جنيف.
وبين عامي 2010 و2013 شغل منصب نائب المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية. وعينته الرئيسة الأرجنتينية كريستينا فرنانديز دي كيرشنر (نائبة الرئيس حالياً) سفيراً لدى النمسا ومنظمات دولية مقرها في فيينا، على أن يكون سفيراً أيضاً في كل من سلوفاكيا وسلوفينيا.
مواقفه إزاء إيران
يميل غروسي، الذي وضع منصب المدير العام في الوكالة نصب عينيه منذ مدة طويلة، وفكر في الترشح لخوض الانتخابات ضد يوكيا أمانو، إلى تبني مواقف أكثر تشدداً إزاء إيران، خصوصاً، بعدما اعتمدت سلوكاً يمثل مشكلة متزايدة بالنسبة إلى الوكالة المكلفة بالإشراف على النشاطات النووية في كل أنحاء العالم. ومعلومٌ أنه في سياق التصعيد مع الولايات المتحدة، وعدت إيران باتخاذ تدابير جديدة في أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الراهن للابتعاد عما حددته «خطة العمل المشتركة الشاملة» - أي الاتفاق النووي الذي وقعته عام 2015 مع ما كان يسمى «مجموعة الخمس زائد 1» التي تضم الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، بالإضافة إلى ألمانيا، وكانت «الخطة» قد وضعت قيوداً صارمة... ولكن مؤقتة على البرنامج النووي الإيراني. ويخشى الدبلوماسيون الغربيون أن تكون هذه الانتهاكات الإيرانية الأكثر أهمية حتى الآن. وعندما يتسلم مهماته في ديسمبر (كانون الأول) المقبل، سيشرف غروسي على تحقيقات تجريها الوكالة الدولية للطاقة الذرية في ادعاءات عن أن إيران احتفظت بمواد مشعة في موقع سرّي بضاحية توركوز آباد في طهران، علماً أن الأخيرة تصرّ على أن نشاطها النووي كان دائماً لأغراض مدنية.
أمانو: منتقدون ومدافعون
من ناحية ثانية، يعتقد منتقدو الوكالة، التي تعد المركز العالمي للتعاون في التطبيقات والطاقة والعلوم والتكنولوجيا النووية، أن فريق أمانو لم يكن حازماً بما فيه الكفاية لجهة التحقيق في الجهود النووية الإيرانية. ولقد أوضحوا في أكثر من مناسبة أنهم يريدون لخبراء الوكالة أن يتفقّدوا المواقع المشتبه فيها، وإجراء مقابلات مع الأشخاص الذين ترد أسماؤهم في بعض الوثائق لمعرفة ما إذا كانوا ما زالوا يشاركون في أعمال غير مشروعة مرتبطة بصنع أسلحة نووية أم لا.
أما المدافعون عن الوكالة فيجادلون بأنها تابعت الادعاءات في شأن موقع «توركوز آباد» المشتبه فيه، مشيرين إلى أن كورنيل فيروتا (المدير العام بالوكالة) طالب طهران علناً في سبتمبر (أيلول) الماضي بالتوقف عن عرقلة تحقيقات الوكالة في النشاطات المشتبه فيها هناك. ويؤكد مسؤولو الوكالة أنهم زاروا المنشآت الإيرانية غير النووية، بما فيها الجامعات، حيث يمكن إجراء البحوث المتعلقة بالأسلحة. في مطلق الأحوال، لا يتوقع الدبلوماسيون حدوث تحوّلات كبرى خلال تولي غروسي في شأن القضايا الأكثر أهمية للوكالة، مثل مراقبة تطبيق «خطة العمل المشتركة الشاملة» مع إيران أو السعي إلى عودة مفتشي الوكالة إلى كوريا الشمالية، التي كانت قد طردت المفتشين عام 2009. ولقد وصف تغيير القيادة بأنه «فرصة لإعادة التقويم»، في تلميح إلى أنه يخطط لإصلاح معتدل بدلاً من الإصلاح الجذري. وفيما يتعلق بعمليات التحقيق من النشاطات النووية الإيرانية، قال غروسي إنه «يعتزم الالتزام بالتفويض الذي منحته الدول الأعضاء في الوكالة بالترابط الوثيق مع الأطراف المعنية»، مضيفاً أن «المسألة ترتدي أهمية كبرى للجميع». أيضاً، أبلغ الدبلوماسي الأرجنتيني صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية أنه «على استعداد لمتابعة ما هو مقبول، لكن المتابعة ليست برنامجي». وأردف: «نحن بحاجة إلى التكيف. نحن بحاجة إلى أن نتطوّر».
غروسي ينبّه إلى محاذير الإفراط في ربط الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالاتفاق النووي الإيراني، الذي يواجه «متاعب شديدة» منذ أعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب عام 2018 انسحاب الولايات المتحدة منه، سعياً إلى استبدال صفقة أوسع وأكثر تشدداً به، تركز أيضاً على برنامج إيران للصواريخ الباليستية وعلى سلوكها الإقليمي. غير أنه في المقابل، يؤكد في الوقت ذاته أن «على الوكالة ألا تكون جزءاً من النقاش السياسي»، مستخلصاً أنه «من الخطأ تعريف الوكالة بخطة العمل المشتركة الشاملة أو بأي اتفاق سياسي آخر». وتابع: «علينا أن نكون حازمين ونزيهين في آن معاً»، في مراقبة نشاطات إيران.
ضغوط كثيرة
غروسي بذلك يعكس ما فعله في خطاباته خلال الجولات الأخيرة من التصويت؛ إذ تلافى الإشارة بالاسم إلى إيران، لكنه شدد على ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية في شأن التحقق من أن الدول تستخدم التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية فقط، متعهداً مواصلة هذا الدور بطريقة حازمة وعادلة.
ورداً على سؤال عن تأثير المدير العام، لفت إلى أنه «يحدّد الأولويات، ويرأس المفتشين» في الوكالة التي لديها وجهان: أحدهما تشجيعي يتعلق بوضع معايير السلامة والتعاون التقني، والآخر رقابي، فالوكالة تفتش. وأشار إلى الحالات الخاصة، مسمياً إيران وكوريا الشمالية وسوريا، حيث يحدد المدير العام طبيعة عمليات التفتيش والتقارير التي تليها. واعترف بأن «هذه مسؤولية كبيرة»، مذكّراً بـ«الضغوط الكبيرة» التي يمارسها الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن، علماً أن لكل منهم مصلحة مختلفة عن مصالح الآخرين. وشرح أنه «في حالة إيران، على سبيل المثال، تريد مجموعة من الدول في المجلس معايير حازمة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية بينما لا تريد المجموعة الأخرى أي مبالغة من الوكالة». ولاحظ أن «هناك مبادرات جارية للبحث عن الاستقرار، إما من خلال هذا الاتفاق النووي أو عبر تعديله».
أما في ملف كوريا الشمالية، فهناك «حالة مختلفة لأن هناك بالفعل انتشاراً» للأسلحة النووية لدى هذه الدولة، بحسب غروسي، الذي أكد أن الوكالة تعتمد «فقط على معلومات الاستخبارات والأقمار الاصطناعية». ثم قال: «يجب أن تظل الوكالة في حالة تأهب، لأنه إذا جرى التوصل إلى اتفاق سياسي على التفتيش، يجب أن يكون هناك مفتشون في بيونغ يانغ في غضون 10 ساعات».