فبراير (شباط) 2014
أتود أن تكون مهنتك بائعاً للكتب؟ على الإجمال، ورغم لطف رب العمل معي، وبعض أيام سعيدة قضيتها في المحل: لا.
جورج أورويل، «مذكرات مكتبة»، لندن، نوفمبر (تشرين الثاني) 1936
عزوف أورويل عن ارتكاب فعل بيع الكتب قابل للفهم. فثمة صورة نمطية عن بائع الكتب: لا اجتماعي، غير متسامح، نافد الصبر. وهذه الصورة جسدها على نحو مثالي ديلَن موران في «بلاك بوكس». ويبدو هذا (على الإجمال) صحيحاً. هناك استثناءات بالطبع، فكثير من بائعي الكتب لا تنطبق عليهم هذه الصورة. أنا، للأسف، تنطبق عليّ هذه الصورة، لكني لم أكن على هذا النحو دائماً. بالنسبة لي، كنت، قبل شراء المحل، ودوداً سهل التعامل للغاية. وكوني الآن ذلك المتذمر سببه الوابل الدائم من الأسئلة البلهاء من الزبائن، والوضع المالي الحرج لأعمالي، والجدال الذي لا يكف مع موظفي المحل، وكل أولئك اللجوجين المتعبين الذين هم بحاجة دائماً إلى المساومة على بضعة بنسات. لكن هل كنت أتمنى شيئاً آخر؟ لا.
حين رأيت أول مرة محل بيع كتب في ويغتاون، كنت في الثامنة عشرة من العمر، بعد عودتي إلى البلدة من المدرسة الداخلية، وعلى وشك الذهاب إلى الجامعة. أتذكر أني كنت مع صديق نمر بجانب المحل، فتراهنت معه أنه خلال عام واحد سيُقفَل. وبعد اثني عشر عاماً، في أثناء زيارة لوالدَي في الكريسماس، دخلت إلى هناك لأعرف إن كان عندهم نسخة من «ثلاثة حُمَيات» لليو والمزلي. وخلال تبادلي الحديث مع صاحب المحل، اعترفت له بأنّي أجاهد للحصول على وظيفة استمتع بها. اقترح عليّ أن أشتري محله، لأنه على شفا التقاعد. وعندما قلت إنّي لا أملك نقوداً، أجاب: «لستَ بحاجة للنقود. لأي شيء تظنها قد وجدت البنوك؟». بعد ذلك، وخلال أقلّ من عام، في 1 نوفمبر (تشرين الثاني) 2001، إثر شهر بالضبط من يوم مولدي الحادي والثلاثين، كنت مالك «ذا بوك شوب». ربما كان من الأفضل لي قبل ذلك قراءة مقال جورج أورويل. ما كتبه في «مذكرات مكتبة» عام 1936 يثبت كونه حقيقة اليوم، ويبدو نذيراً نافعاً لكل ساذج مثلي بأن عالم بيع الكتب المستعملة ليس تماماً قصيدة عن جلوسك على كرسي وثير قرب المستوقد، وفي قدميك خفان، تدخن غليوناً، وتقرأ «انحطاط وسقوط الإمبراطورية الرومانية» لغيبون، بينما ينهمك زبائن لطاف معك في حديث ذكي، قبل أن يدفعوا حفنة من نقود. في الواقع، يمكن للحقيقة أن تكون أكثر اختلافاً. ومن بين كل ملحوظاته في المقال، هناك ملحوظة يعلق فيها أورويل بقوله إن «كثيراً من الناس الذين يأتون إلينا كانوا من النوع الذي هو مصدر إزعاج في أي مكان، لكنهم حين يكونون في مكتبة تتضاعف فرصهم»؛ إنها ربما الأكثر أثراً.
وبين عامي 1934 و1936، حين كان أورويل يعمل على روايته «دعْ الدُّرَيْقة تطير»، كنت أشتغل بدوام جزئي في مكتبة بوكلوفرز كورنر في هامستَد. نعَتَه صديقه جون كيمش بالشخص الذي بدا واثقاً بأن الزبائن ليسوا جديرين بكتبه؛ موقف هو بلا شك مألوف لكثير من بائعي الكتب. ولتقديم صورة عن التماثلات - وغالباً عن الاختلافات أيضاً - بين حياة بائعي الكتب اليوم وحياتهم زمن أورويل، لديّ في بداية كل شهر من يومياتي استشهاد من «مذكرات مكتبة». كل مَن عمل في محلي لفترة، طالت أم قصرت، قال إن التفاعلات مع الزبائن تمد بمادة أكثر من كافية لكتابة كتاب؛ كتاب جَن كامبل «أشياء غريبة يقولها الزبائن في المكتبات» هو دليل كافٍ على هذا. لذلك، وأنا مبتلى بذاكرة مروعة، شرعت بتسجيل حوادث صغيرة في المحل بوصفها «ذاكرة مساعدة» لكتاب محتمل. وإن كان تاريخ البداية يبدو اعتباطياً، فلأنه كذلك. حدث فحسب أن أبدأ بكتابة هذا يوم 5 فبراير (شباط)، وأمست «الذاكرة المساعدة» يوميات.
الأربعاء، 5 فبراير (شباط)
الكتب المطلوبة أونلاين: 5
الكتب الموجودة: 5
اتصال تلفوني في الساعة 9:25 صباحاً من رجل من جنوب إنجلترا يفكر في شراء مكتبة في اسكوتلندا، ولديه فضول في معرفة كيف يُقيَّم مخزون مكتبة من 20 ألف كتاب. بدلاً من الجواب المنطقي: «لا تتورط في هذا، يا رجل»، سألته ماذا قال المالك الحالي. فقال إن صاحبة المحل أخبرته أن معدل سعر الكتاب في مكتبتها هو 6 باوند، واقترحَتْ أن يتم تقسيم المجموع الكلي من 120 ألف باوند على ثلاثة. قلت له إنه يستطيع أن يقسّمه على عشرة على الأقل، وربما حتى على ثلاثين. البيع بالجملة في الوقت الحاضر هو أقرب إلى المستحيل، حيث ما من تاجر مستعد أن يقبل كميات كبيرة، والقليل الذين يقبلون ذلك يدفعون مبالغ زهيدة. المكتبات الآن قليلة، والمخزون وافر، فهو إذن سوق الشاري. حتى عندما كانت الأمور تسير جيداً في 2001 - السنة التي اشتريت فيها المحل - قيَّمَ المالك السابق مخزوناً من 100 ألف كتاب بثلاثين ألف باوند.
ربما كان ينبغي نصح الرجل على الهاتف بقراءة كتاب ويليام دارلنغ «بائع الكتب المفلس يتحدث ثانية» (إلى جانب مقال أورويل «مذكرات مكتبة»)، قبل أن يبادر بشراء المكتبة. كلا العملين يجب أن يُنصَح بهما لبائع كتب طموح. دارلنغ، بالمناسبة، لم يكن «بائع الكتب المفلس» في العنوان؛ كان مستثمراً في صناعة الأقمشة في أدنبورغ، لكن عرف بشكل مقنع كثيراً أن يثير انطباعاً بأنه كتب عن شخص موجود. التفاصيل دقيقة على نحو مستغرب؛ بائع كتب دارلنغ الخيالي «غير منظّم، غير صحي، من أول نظرة يبدو باهتاً، غير مشوّق. لكن مع ذلك، حين يُثار يمكن أن يتفوه بأشياء بليغة عن الكتب، مثل أي بليغ آخر».
جاءت نيكي اليوم للعمل. لم أعد قادراً على دفع رواتب موظفين بدوام كامل، خصوصاً في الشتاءات الباردة الطويلة، وأنا مُتكل على نيكي (التي هي كفء مثلما هي غريبة الأطوار) في الإنابة عني في إدارة المحل يومين في الأسبوع، ليمكنني الخروج للشراء أو لعمل آخر. هي في نهاية الأربعينات من عمرها، ولها ولدان كبيران. تسكن في بيت يطل على لوس بَي، نحو 23 كيلومتراً عن ويغتاون، وهي من شهود يهوه. وذلك، بالإضافة إلى أشغالها اليدوية التي بلا نفع، يعطي قليلاً فكرة عمن تكون هي. إنها تخيط ملابسها بنفسها، وهي مقتصدة مثل شحيح، رغم كرمها الفائق الحدود بالقليل الذي تملكه. كل جمعة تجلب لي معها شيئاً كانت قد وجدته في الليلة السابقة، بعد الاجتماع في الكينغدوم هول، في صهريج خلف أسواق موريسونز في ستْرَينْرار - تدعوه «فودي فْرايدَي» (طعام الجمعة). يصفها أبناؤها بـ«الغجرية الفوضوية»، لكنها تشكل جزءاً من نسيج المحل، شأنها في ذلك شأن الكتب، وسيفقد المكان كثيراً من رونقه من دونها.
الزبون الأول (في الساعة 10:30 صباحاً) كان واحداً من زبائننا المنتظمين القلة: مستر ديكَن. رجل حلو الحديث، في منتصف أعوامه الخمسين، بخط الخصر المعتاد الذي يميز الرجال في منتصف العمر غير النشيطين، شعره الأسود الخفيف ممشط على قمة رأسه بالطريقة التي يحاول بها الرجال إقناع الآخرين بأنهم ما زالوا يملكون عرفاً غزيراً. ملابسه كما هو واضح مفصَّلة جيداً، لكنه لم يرتدها كما يجب: ثمّة انتباه صغير لتفاصيل مثل طرف القميص، أزراره، أو أزرار البنطلون الأمامية. ويبدو كما لو أن أحداً حشا ملابسه في مدفع، وأطلقها عليه. ومهما تكن الطريقة التي نزلت بها عليه، فإنها بَقَتْ عالقة. من نواح كثيرة، هو زبون مثالي؛ لا يتصفح الكتب أبداً، ولا يدخل أبداً إلا إذا كان يعرف ما يريد. طلبه يكون عادة مرفقاً بقصاصة من صحيفة «التايمز» فيها نقد للكتاب، يقدمها لمن يكون من بيننا على الكاونتر. لغته مصقولة منتقاة، ولا يخوض في حديث عادة، لكنه ليس بالفظ أبداً، ويدفع ثمن كتبه دائماً دون مساومة. وعدا هذا، لا أعرف أي شيء عنه، ولا حتى اسمه الأول. في الواقع، غالباً ما تساءلت: لماذا يطلب الكتب من محلي، بينما يستطيع أن يطلبها عبر «أمازون»؟ ربما لا يملك كومبيوتراً، ربما لا يريد واحداً، أو ربما هو من سلالة منقرضة تفهم أن عليها إذا ما أرادت للمكتبات ألا تفنى، أن تدعمها.
عند الظهيرة، جاءت امرأة في بنطلون عسكري وبيريه إلى الكاونتر مع ستة كتب، من ضمنها كتابان عن الفن لا عيب فيهما، تقريباً جديدان، وفي الأصل غاليان جداً. مجموع الكتب بلغ 38 باونداً؛ طلبت خصما، وعندما قلت لها يمكن أن تأخذها بـ35 باونداً، أجابت: «ألا تستطيع أن تجعلها بـ30؟». كل مرّة، أشعر بإهانة لإيماني بالاحترام الإنساني، حين يشعر الزبائن - المعروض لهم خصماً على سعر هو سلفاً مخفض عن السعر الأصلي للكتاب - بأن لهم الحق في طلب 30 في المائة تقريباً إضافية، لذلك كنت أرفض إعطاءهم خصماً أكثر من ذلك؛ دفعت المرأة 35 باونداً. مقولة جانيت ستريت - بورتر إن أي شخص يرتدي بنطلوناً عسكرياً ينبغي أن يُجبر على الهبوط بمظلة في منطقة منزوعة السلاح، هي الآن تحظى بتأييدي المطلق.
إجمالي الإيراد 247.09 باوند
27 زبوناً
- فصل من كتاب بهذا العنوان ترجمه عباس المفرجي
يوميات بائع كتب
يوميات بائع كتب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة