يوميات بائع كتب

يوميات بائع كتب
TT

يوميات بائع كتب

يوميات بائع كتب

فبراير (شباط) 2014
أتود أن تكون مهنتك بائعاً للكتب؟ على الإجمال، ورغم لطف رب العمل معي، وبعض أيام سعيدة قضيتها في المحل: لا.
جورج أورويل، «مذكرات مكتبة»، لندن، نوفمبر (تشرين الثاني) 1936
عزوف أورويل عن ارتكاب فعل بيع الكتب قابل للفهم. فثمة صورة نمطية عن بائع الكتب: لا اجتماعي، غير متسامح، نافد الصبر. وهذه الصورة جسدها على نحو مثالي ديلَن موران في «بلاك بوكس». ويبدو هذا (على الإجمال) صحيحاً. هناك استثناءات بالطبع، فكثير من بائعي الكتب لا تنطبق عليهم هذه الصورة. أنا، للأسف، تنطبق عليّ هذه الصورة، لكني لم أكن على هذا النحو دائماً. بالنسبة لي، كنت، قبل شراء المحل، ودوداً سهل التعامل للغاية. وكوني الآن ذلك المتذمر سببه الوابل الدائم من الأسئلة البلهاء من الزبائن، والوضع المالي الحرج لأعمالي، والجدال الذي لا يكف مع موظفي المحل، وكل أولئك اللجوجين المتعبين الذين هم بحاجة دائماً إلى المساومة على بضعة بنسات. لكن هل كنت أتمنى شيئاً آخر؟ لا.
حين رأيت أول مرة محل بيع كتب في ويغتاون، كنت في الثامنة عشرة من العمر، بعد عودتي إلى البلدة من المدرسة الداخلية، وعلى وشك الذهاب إلى الجامعة. أتذكر أني كنت مع صديق نمر بجانب المحل، فتراهنت معه أنه خلال عام واحد سيُقفَل. وبعد اثني عشر عاماً، في أثناء زيارة لوالدَي في الكريسماس، دخلت إلى هناك لأعرف إن كان عندهم نسخة من «ثلاثة حُمَيات» لليو والمزلي. وخلال تبادلي الحديث مع صاحب المحل، اعترفت له بأنّي أجاهد للحصول على وظيفة استمتع بها. اقترح عليّ أن أشتري محله، لأنه على شفا التقاعد. وعندما قلت إنّي لا أملك نقوداً، أجاب: «لستَ بحاجة للنقود. لأي شيء تظنها قد وجدت البنوك؟». بعد ذلك، وخلال أقلّ من عام، في 1 نوفمبر (تشرين الثاني) 2001، إثر شهر بالضبط من يوم مولدي الحادي والثلاثين، كنت مالك «ذا بوك شوب». ربما كان من الأفضل لي قبل ذلك قراءة مقال جورج أورويل. ما كتبه في «مذكرات مكتبة» عام 1936 يثبت كونه حقيقة اليوم، ويبدو نذيراً نافعاً لكل ساذج مثلي بأن عالم بيع الكتب المستعملة ليس تماماً قصيدة عن جلوسك على كرسي وثير قرب المستوقد، وفي قدميك خفان، تدخن غليوناً، وتقرأ «انحطاط وسقوط الإمبراطورية الرومانية» لغيبون، بينما ينهمك زبائن لطاف معك في حديث ذكي، قبل أن يدفعوا حفنة من نقود. في الواقع، يمكن للحقيقة أن تكون أكثر اختلافاً. ومن بين كل ملحوظاته في المقال، هناك ملحوظة يعلق فيها أورويل بقوله إن «كثيراً من الناس الذين يأتون إلينا كانوا من النوع الذي هو مصدر إزعاج في أي مكان، لكنهم حين يكونون في مكتبة تتضاعف فرصهم»؛ إنها ربما الأكثر أثراً.
وبين عامي 1934 و1936، حين كان أورويل يعمل على روايته «دعْ الدُّرَيْقة تطير»، كنت أشتغل بدوام جزئي في مكتبة بوكلوفرز كورنر في هامستَد. نعَتَه صديقه جون كيمش بالشخص الذي بدا واثقاً بأن الزبائن ليسوا جديرين بكتبه؛ موقف هو بلا شك مألوف لكثير من بائعي الكتب. ولتقديم صورة عن التماثلات - وغالباً عن الاختلافات أيضاً - بين حياة بائعي الكتب اليوم وحياتهم زمن أورويل، لديّ في بداية كل شهر من يومياتي استشهاد من «مذكرات مكتبة». كل مَن عمل في محلي لفترة، طالت أم قصرت، قال إن التفاعلات مع الزبائن تمد بمادة أكثر من كافية لكتابة كتاب؛ كتاب جَن كامبل «أشياء غريبة يقولها الزبائن في المكتبات» هو دليل كافٍ على هذا. لذلك، وأنا مبتلى بذاكرة مروعة، شرعت بتسجيل حوادث صغيرة في المحل بوصفها «ذاكرة مساعدة» لكتاب محتمل. وإن كان تاريخ البداية يبدو اعتباطياً، فلأنه كذلك. حدث فحسب أن أبدأ بكتابة هذا يوم 5 فبراير (شباط)، وأمست «الذاكرة المساعدة» يوميات.
الأربعاء، 5 فبراير (شباط)
الكتب المطلوبة أونلاين: 5
الكتب الموجودة: 5
اتصال تلفوني في الساعة 9:25 صباحاً من رجل من جنوب إنجلترا يفكر في شراء مكتبة في اسكوتلندا، ولديه فضول في معرفة كيف يُقيَّم مخزون مكتبة من 20 ألف كتاب. بدلاً من الجواب المنطقي: «لا تتورط في هذا، يا رجل»، سألته ماذا قال المالك الحالي. فقال إن صاحبة المحل أخبرته أن معدل سعر الكتاب في مكتبتها هو 6 باوند، واقترحَتْ أن يتم تقسيم المجموع الكلي من 120 ألف باوند على ثلاثة. قلت له إنه يستطيع أن يقسّمه على عشرة على الأقل، وربما حتى على ثلاثين. البيع بالجملة في الوقت الحاضر هو أقرب إلى المستحيل، حيث ما من تاجر مستعد أن يقبل كميات كبيرة، والقليل الذين يقبلون ذلك يدفعون مبالغ زهيدة. المكتبات الآن قليلة، والمخزون وافر، فهو إذن سوق الشاري. حتى عندما كانت الأمور تسير جيداً في 2001 - السنة التي اشتريت فيها المحل - قيَّمَ المالك السابق مخزوناً من 100 ألف كتاب بثلاثين ألف باوند.
ربما كان ينبغي نصح الرجل على الهاتف بقراءة كتاب ويليام دارلنغ «بائع الكتب المفلس يتحدث ثانية» (إلى جانب مقال أورويل «مذكرات مكتبة»)، قبل أن يبادر بشراء المكتبة. كلا العملين يجب أن يُنصَح بهما لبائع كتب طموح. دارلنغ، بالمناسبة، لم يكن «بائع الكتب المفلس» في العنوان؛ كان مستثمراً في صناعة الأقمشة في أدنبورغ، لكن عرف بشكل مقنع كثيراً أن يثير انطباعاً بأنه كتب عن شخص موجود. التفاصيل دقيقة على نحو مستغرب؛ بائع كتب دارلنغ الخيالي «غير منظّم، غير صحي، من أول نظرة يبدو باهتاً، غير مشوّق. لكن مع ذلك، حين يُثار يمكن أن يتفوه بأشياء بليغة عن الكتب، مثل أي بليغ آخر».
جاءت نيكي اليوم للعمل. لم أعد قادراً على دفع رواتب موظفين بدوام كامل، خصوصاً في الشتاءات الباردة الطويلة، وأنا مُتكل على نيكي (التي هي كفء مثلما هي غريبة الأطوار) في الإنابة عني في إدارة المحل يومين في الأسبوع، ليمكنني الخروج للشراء أو لعمل آخر. هي في نهاية الأربعينات من عمرها، ولها ولدان كبيران. تسكن في بيت يطل على لوس بَي، نحو 23 كيلومتراً عن ويغتاون، وهي من شهود يهوه. وذلك، بالإضافة إلى أشغالها اليدوية التي بلا نفع، يعطي قليلاً فكرة عمن تكون هي. إنها تخيط ملابسها بنفسها، وهي مقتصدة مثل شحيح، رغم كرمها الفائق الحدود بالقليل الذي تملكه. كل جمعة تجلب لي معها شيئاً كانت قد وجدته في الليلة السابقة، بعد الاجتماع في الكينغدوم هول، في صهريج خلف أسواق موريسونز في ستْرَينْرار - تدعوه «فودي فْرايدَي» (طعام الجمعة). يصفها أبناؤها بـ«الغجرية الفوضوية»، لكنها تشكل جزءاً من نسيج المحل، شأنها في ذلك شأن الكتب، وسيفقد المكان كثيراً من رونقه من دونها.
الزبون الأول (في الساعة 10:30 صباحاً) كان واحداً من زبائننا المنتظمين القلة: مستر ديكَن. رجل حلو الحديث، في منتصف أعوامه الخمسين، بخط الخصر المعتاد الذي يميز الرجال في منتصف العمر غير النشيطين، شعره الأسود الخفيف ممشط على قمة رأسه بالطريقة التي يحاول بها الرجال إقناع الآخرين بأنهم ما زالوا يملكون عرفاً غزيراً. ملابسه كما هو واضح مفصَّلة جيداً، لكنه لم يرتدها كما يجب: ثمّة انتباه صغير لتفاصيل مثل طرف القميص، أزراره، أو أزرار البنطلون الأمامية. ويبدو كما لو أن أحداً حشا ملابسه في مدفع، وأطلقها عليه. ومهما تكن الطريقة التي نزلت بها عليه، فإنها بَقَتْ عالقة. من نواح كثيرة، هو زبون مثالي؛ لا يتصفح الكتب أبداً، ولا يدخل أبداً إلا إذا كان يعرف ما يريد. طلبه يكون عادة مرفقاً بقصاصة من صحيفة «التايمز» فيها نقد للكتاب، يقدمها لمن يكون من بيننا على الكاونتر. لغته مصقولة منتقاة، ولا يخوض في حديث عادة، لكنه ليس بالفظ أبداً، ويدفع ثمن كتبه دائماً دون مساومة. وعدا هذا، لا أعرف أي شيء عنه، ولا حتى اسمه الأول. في الواقع، غالباً ما تساءلت: لماذا يطلب الكتب من محلي، بينما يستطيع أن يطلبها عبر «أمازون»؟ ربما لا يملك كومبيوتراً، ربما لا يريد واحداً، أو ربما هو من سلالة منقرضة تفهم أن عليها إذا ما أرادت للمكتبات ألا تفنى، أن تدعمها.
عند الظهيرة، جاءت امرأة في بنطلون عسكري وبيريه إلى الكاونتر مع ستة كتب، من ضمنها كتابان عن الفن لا عيب فيهما، تقريباً جديدان، وفي الأصل غاليان جداً. مجموع الكتب بلغ 38 باونداً؛ طلبت خصما، وعندما قلت لها يمكن أن تأخذها بـ35 باونداً، أجابت: «ألا تستطيع أن تجعلها بـ30؟». كل مرّة، أشعر بإهانة لإيماني بالاحترام الإنساني، حين يشعر الزبائن - المعروض لهم خصماً على سعر هو سلفاً مخفض عن السعر الأصلي للكتاب - بأن لهم الحق في طلب 30 في المائة تقريباً إضافية، لذلك كنت أرفض إعطاءهم خصماً أكثر من ذلك؛ دفعت المرأة 35 باونداً. مقولة جانيت ستريت - بورتر إن أي شخص يرتدي بنطلوناً عسكرياً ينبغي أن يُجبر على الهبوط بمظلة في منطقة منزوعة السلاح، هي الآن تحظى بتأييدي المطلق.
إجمالي الإيراد 247.09 باوند
27 زبوناً
- فصل من كتاب بهذا العنوان ترجمه عباس المفرجي


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.