باريس قلقة من انتقام «الدواعش» على أراضيها

وزير داخليتها يدعوه إلى الحذر

TT

باريس قلقة من انتقام «الدواعش» على أراضيها

لم تتأخر باريس في اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة احتمال استهدافها، انتقاماً لمقتل زعيم «داعش». ويسود اعتقاد في فرنسا أن «داعش» سيحاول الرد على قتل أبو بكر البغدادي. لذا، فإن وزير الداخلية كريستوف كاستانير، وجّه كتاباً إلى المسؤولين الأمنيين في باريس وجميع المناطق الفرنسية وقادة الأجهزة وأهمها الإدارة العامة للأمن الداخلي «المخابرات الداخلية» يدعوهم فيه إلى «ضرورة اليقظة المكثفة» من أجل مواجهة أي احتمال لأعمال انتقامية. ويرى الوزير الفرنسي في كتابه أن الدعاية الجهادية التي يقوم بها «داعش»، «يمكن أن تتضمن دعوات للقيام بأعمال انتقامية»، الأمر الذي يُفترض به «أن يقود إلى الحذر الشديد خصوصاً بمناسبة النشاطات العامة» التي يمكن أن تجري على الأراضي الفرنسية.
لا شك أن العملية الإرهابية التي شهدتها الشهر الماضي، مديرية الشرطة في العاصمة الفرنسية، والتي أوقعت أربعة قتلى ينتمون إلى جهاز مكافحة الإرهاب على أيدي موظف في المديرية المذكورة اعتنق فكراً جهادياً وهاجم بالسلاح الأبيض زملاءه، حيث كان يعمل منذ 16 عاماً، تدفع السلطات الفرنسية إلى مزيد من الحذر خصوصاً أن فرنسا كانت في السنوات الخمس الماضية مسرحاً لأكبر عمليات إرهابية عرفتها أوروبا. كذلك، فإن باريس تتخوف من عودة جهادييها من سوريا والعراق، فضلاً عن تخوفها من وجود «ذئاب منفردة» أو خلايا نائمة يمكن «تشغيلها» رداً على مقتل زعيم «داعش». وقد عدّ الرئيس إيمانويل ماكرون، تعقيباً على مقتل أبو بكر البغدادي، أن ما حصل «مرحلة» ولا يعني أن الحرب ضد «داعش» قد انتهت.
عقب عملية مديرية الشرطة، كانت وزارة الداخلية ومعها الأجهزة الأمنية موضع انتقادات حادة لعجزها عن اكتشاف المؤشرات التي تدل على اعتناق ميكاييل هاربون، منفذ مقتلة مديرية الشرطة، الفكر الإرهابي، وبالتالي تدارك ارتكابه عمله الجرمي. ولذا، فإن كريستوف كاستانير دعا في كتابه المعمم إلى الأجهزة الأمنية إلى «التنبه خصوصاً لكل المعلومات التي يمكن أن تصل إلى مسامع الشرطة والتي يُفترض أن تُنقل فورياً إلى الأجهزة المختصة» في مكافحة الإرهاب. كذلك حث الوزير رجال الشرطة على التنبه لسلامتهم خارج ساعات الخدمة. وتذكر المصادر الفرنسية أن مسؤولين من «داعش» دعوا مراراً في السابق إلى استهداف فرنسا التي عاشت لثلاثة أعوام في ظل حالة الطوارئ التي لم تُرفع إلا بعد أن سن قانون يستعيد الأساسي مما تضمنه تلك الحالة. وفي مداخلة له أمام النواب، أعلن كاستانير أن 60 محاولة إرهابية تم إحباطها في فرنسا في السنوات الأخيرة، وأن إحداها كانت ترمي إلى استنساخ ما حصل في نيويورك في سبتمبر (أيلول) عام 2001 من استهداف البرجين.
حتى اليوم، تتمسك باريس برفض استعادة متطرفيها الموجودين بحوزة «قسد» شمال شرقي سوريا رغم الهجوم التركي والضغوط التي يمارسها الرئيس الأميركي على الأوروبيين. لكنّ مشكلة باريس أن بغداد التي سبق لها أن تسلمت 13 جهادياً فرنسياً لم تعد مستعدة لتسلم المزيد خصوصاً في ظل أوضاعها الأمنية والضغوط السياسية على الحكومة. وإذا زادت أوضاع شمال شرقي سوريا سوءاً، فإن الحكومة الفرنسية ستجد نفسها مدعوة لإعادة النظر في موقفها ليس فقط بالنسبة إلى مئات الأطفال والنساء الموجودين في مخيمات الأكراد ولكن أيضاً بالنسبة إلى الجهاديين الذين تفيد المعلومات بأن عددهم يقل عن المائة.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟