سعيد اللاوندي مثقفاً تنويرياً عربياً

مشى على خطى أسلافه الكبار وكان يرى نفسه فيهم

سعيد اللاوندي
سعيد اللاوندي
TT

سعيد اللاوندي مثقفاً تنويرياً عربياً

سعيد اللاوندي
سعيد اللاوندي

فجعت مؤخراً برحيل الصديق العزيز المفكر اللامع الدكتور سعيد اللاوندي. كنت قد تعرفت عليه في باريس أيام زمان، عندما كنا نحضر شهادة الدكتوراه معاً، وعندما كان هو في الوقت ذاته مديراً لمكتب الأهرام في شارع يقف خلف الشانزليزيه مباشرة، إذا لم تخني الذاكرة. كنت معجباً جداً به لأنه ليس فقط تلميذاً مثلنا، وإنما أيضاً مشرفاً مسؤولاً عن المكتب الثقافي لأعرق جريدة مصرية، بل وعربية. أعتقد أني رأيت فيه آنذاك نوعاً من رفاعة رافع الطهطاوي الجديد، أو حتى طه حسين وتوفيق الحكيم. وجميعهم جددوا الثقافة العربية بشكل غير مسبوق انطلاقاً من باريس.
وأعتقد أن هذا كان هو حلم سعيد اللاوندي؛ لقد مشى على خطى أسلافه الكبار، وكان يرى نفسه فيهم حتماً. كنت معجباً ليس فقط بثقافته الواسعة، وإنما أيضاً بشخصيته القوية المحببة في الوقت ذاته. كان بشوشاً ضاحكاً متفائلاً بالحياة والوجود، في حين كنت أنا عبوساً قمطريراً. والأضداد تتلاقى وتتكامل، كما تعلمون. وكانت له طموحات فكرية واضحة، وقد حقق قسماً كبيراً منها قبل أن يداهمه الموت الذي ينتظرنا جميعاً، فهذه سنة الله في خلقه: كل نفس ذائقة الموت. وإن كنت أتمنى لو أن العمر امتد به قليلاً... فهذه تبقى حسرة وحرقة أن يرحل في الرابعة والستين فقط. كان سيعطي أكثر حتماً، كان سيتحفنا بكتب وطروحات جديدة حتماً، ولكن هذه هي مشيئة الله، ولا راد لمشيئته. وأنا من هذه الناحية مسلم مؤمن عن جد. وقد كنا نتحدث في أثناء لقاءاتنا في مكتبه، أو في أحد المقاهي الباريسية المجاورة، عن قراءاتنا ودراساتنا وأساتذتنا. كنا لا نزال في بدايات حياتنا الباريسية، وكنا مفعمين بالنشاط والحيوية والآمال العراض. كنا نتحدث عن رواد الفكر والشعر العربي، من أمثال أدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي وزكي نجيب محمود وآخرين. وأتذكر أن محمد أركون وجاك بيرك كانا في الصميم من أحاديثنا. كنا معجبين جداً بهما، وكان هو على علاقة صداقة قوية مع كلا المفكرين الكبيرين. أما أنا، فكانت علاقتي تقتصر على أستاذي المشرف محمد أركون.
لقد نشر الدكتور سعيد اللاوندي، بعد عودته من فرنسا إلى مصر، عدة كتب مثيرة، بل وجميلة مزركشة حتى بعناوينها. نذكر من بينها: «ثرثرة تحت برج إيفل»، و«عبد الرحمن بدوي - فيلسوف الوجودية الهارب إلى الإسلام»، و«الإسلاموفوبيا - لماذا يخاف الغرب من الإسلام»، إلخ. إن العنوان الأول يذكرنا برواية نجيب محفوظ «ثرثرة فوق النيل»، والعنوان الثاني يختصر مسيرة عبد الرحمن بدوي الذي ابتدأ حياته فيلسوفاً وجودياً خارجاً على الدين، ولكنه أنهاها بالعودة إلى حظيرة الدين والإيمان.
وأما الكتاب الثالث، فيشير إلى إشكالية كبرى تشغل فرنسا حالياً، والغرب كله، ألا وهي: الخوف من الإسلام، وكأنه بعبع مرعب. وكل ذلك بسبب التفجيرات الإجرامية التي حصدت بشكل عشوائي مئات الأبرياء في شوارع باريس ونيس وسواهما؛ لقد أدمت فرنسا وأوجعتها. ولكني لن أدخل في تفاصيل هذه الكتب الثلاثة على أهميتها، وإنما سأتوقف مطولاً عند آخر كتاب أصدره عام 2018، بعنوان بالغ الدلالة: تهافت المثقفين، وهو عنوان عريق في تاريخنا لأنه يذكرنا بكتاب الغزالي الشهير: تهافت الفلاسفة، أو بكتاب ابن رشد الأشهر: تهافت التهافت. ولكن لا يبدو أن الدكتور اللاوندي كان يفكر في هذين الكتابين عندما ألف أطروحته، وإنما كان يفكر بالساحة الثقافية الفرنسية. وكنا قد ذكرنا مدى تأثره بها في أثناء إقامته في بلاد فولتير وموليير. وهذه هي حالة كاتب هذه السطور أيضاً. ومعلوم أن الساحة الباريسية امتلأت في السنوات الأخيرة بعناوين من مثل: صمت المثقفين، أو نهاية المثقفين، أو وداعاً للمثقفين، إلخ. هذا، دون أن ننسى كتاب جوليان بندا القديم: خيانة المثقفين، الصادر عام 1927، ودون أن ننسى كتاب ريمون آرون: أفيون المثقفين، الصادر عام 1955 (والمقصود بذلك تخدير الآيديولوجيا الماركسية الشيوعية للمثقفين الفرنسيين، حيث لعبت بهم كالأفيون وألغت عقولهم)، ودون أن ننسى كتاب جان فرنسوا ليوتار: قبر المثقفين! كل هذه الأشياء تأثر بها قليلاً أو كثيراً عدد كبير من المثقفين العرب، ومن بينهم سعيد اللاوندي. ولكنه يشير هو إلى تأثره بشكل خاص بريجيس دوبريه، وأطروحاته عن موت المثقفين الفرنسيين. فإذا كان المثقفون الفرنسيون قد ماتوا، فما بالك بنا نحن؟ إذا كانت باريس عاصمة الثقافة العالمية قد ماتت، فما بالك بأمة العرب؟
يرى سعيد اللاوندي أن مصر فقدت قوتها الناعمة، أي إشعاعها الثقافي، بعد رحيل الرواد من أمثال رفاعة رافع الطهطاوي والأمام محمد عبده وعباس محمود العقاد والدكتور طه حسين. هذا ناهيك من سلامة موسى وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود ولويس عوض ونجيب محفوظ وآخرين. فلم يعد هناك مثقف واحد في مصر، ولا في غير مصر، بقامة هؤلاء الكبار. ولكن هذا ما يقوله الفرنسيون أيضاً عن أنفسهم. فلم يعد هناك مفكرون في حجم جان بول سارتر وميشال فوكو وجيل ديلوز وبيير بورديو وجاك دريدا وبول ريكور، إلخ. فباستثناء ريجيس دوبريه، لم يعد هناك مفكر واحد ذو وزن عالمي لدى الفرنسيين. ولكن هذا ما حصل لليونان أيضاً، كما يقول الدكتور اللاوندي نفسه. فبلد العمالقة الكبار، من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو، تقزمت وعقمت ولم تنجب فيلسوفاً كبيراً واحداً بعدهم. ربما كانت هذه هي سنة التاريخ: من سره زمن ساءته أزمان. والحضارة دوارة لا تدوم لأحد. ولكن اللاوندي لا يكفيه هذا الكلام، وإنما يلقي بالمسؤولية على عاتق كبار المثقفين الذين تخلوا عن دورهم التاريخي. لقد فقد المثقف المصري دوره التنويري أو التحذيري، بحسب رأيه، والتحم عن عمد بالنخبة الحاكمة، واقتصر دوره على التبرير أو الدفاع، ونسي (أو لعله تناسى) أن مهمته هي إزعاج الجميع، وليس طمأنتهم والربت على أكتافهم. ثم يلقي الدكتور اللاوندي بالمسؤولية على عاتق الأدعياء الجدد في الدين، فهم الذين يقودون الأمة كالقطيع، فيحكمون على هذا بالردة، وذاك بالزندقة، وينصبون أنفسهم قضاة يقتلون هذا شنقاً، والآخر بالمقصلة، والثالث رمياً بالرصاص. ونفهم من كلامه أن هذه الأمة بحاجة إلى المرور بالمرحلة التنويرية، كما حصل للأمم المتقدمة في أوروبا. فهذا ما ينقصنا فعلاً.
ويكفي أن ننظر إلى الفضائيات، ونرى الدعاة الجدد بلحاهم الكثة الكثيفة المخيفة لكي نتأكد من ذلك. عندما أراهم، أتذكر والدي، فأصاب بالهلع والرعب. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. لقد أصبح المشايخ التقليديون هم المثقفون الحقيقيون لهذه الأمة، وليس العقاد أو طه حسين، ولا الجابري ومحمد أركون؛ مصيبة حقيقية. ولذلك يؤكد الدكتور اللاوندي في هذا الكتاب المهم الممتع ضرورة قيام المثقف المصري أو العربي بدوره، المتمثل ببلورة خطاب تنويري قادر على التأثير في جيل الشباب وعقولهم، بغية إنقاذهم من براثن هذه الاتجاهات الظلامية التي تكاد تدمر مصر والمنطقة العربية بأسرها. وهذا يعني أنه لا ربيع عربي من دون تنوير عربي؛ نقطة على السطر. وربما لهذا السبب أسس الدكتور اللاوندي موقعاً إلكترونياً ثقافياً مضيئاً، تحت اسم: هوامش التنوير. وهو الموقع الذي تشرف عليه زوجته المثقفة الدكتورة فاطمة الحصي، وهي مفكرة مرموقة وكاتبة من الطراز الأول. وقد نشرت مؤخراً كتاباً لافتاً بعنوان: «حكاية الفتى أركون - رحلة حياة من الاغتراب إلى الإصلاح».
آخر مرة التقينا بها كانت في الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية. وكان ذلك على هامش مؤتمر الجنادرية الشهير. وعندئذ، أتيح لنا أن نترافق كثيراً طيلة أيام المؤتمر. كنا دائماً بعضنا مع بعض: في المطعم العام، وقاعات المؤتمر، وبهو الفندق، حيث استمتعنا بالقهوة الشهيرة، والضيافة العربية التي لا مثيل لها. وهي قهوة وضيافة استمتعت بها أيضاً مؤخراً في أبوظبي، عاصمة الإمارات العربية المتحدة. ولا أجد لها مثيلاً في أي مكان آخر في العالم العربي، ولا غير العربي. أنت فعلاً هنا في بيت حاتم الطائي! أنت هنا تحتسي القهوة العربية لا غير: أطيب قهوة في العالم! عندئذ، تتذكر أجدادك وجذورك التاريخية العميقة، وتعرف أنها موجودة هنا فقط؛ إنها جزيرة العرب الخالدة.
وعلى هامش تلك الجلسات «الجنادرية»، رحنا نتحدث كثيراً عن ذكرياتنا الباريسية القديمة، ومطالعاتنا واهتماماتنا المشتركة والمختلفة في الوقت ذاته. رحنا نبكي على الأطلال ونضحك. وأتذكر أني أضحكته كثيراً لأني بارع في فن السخرية المرة. ولعله فوجئ بهذه الصفة من صفاتي المخفية التي لا تظهر إلا مع الأصدقاء الخلص. فأنا خجول جداً عادة، ولكن عندما أفلت تفلت الأمور، وتندلع على مصراعيها. أعتقد أنه استمتع كثيراً برفقتي آنذاك. والآن، بعد رحيله، أشعر بالسعادة لأني أسعدته يوماً ما طيلة بضعة أيام فقط على هامش مؤتمر كبير في ربوع بلد عربي كبير.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي