رغم رفع الحظر الألماني... السودان يواجه الأسئلة الصعبة

من المفاجآت التي أثارت دهشة وفد سوداني زار العاصمة الألمانية برلين الأسبوع الماضي، خلال جلسة استماع داخل البرلمان الألماني، أن قرار مقاطعة ألمانيا للحكومة السودانية صدر يوم 14 يونيو (حزيران) 1989؛ أي قبل الانقلاب العسكري الذي أتى بحكم الرئيس المعزول عمر البشير. ويتأهب البرلمان الألماني (بوندستاغ) لإصدار قرار خلال أسابيع قليلة يرفع بموجبه هذا الحظر عن السودان، فهل يعني ذلك تطبيع العلاقات رسمياً بين السودان وألمانيا، أكثر الدول تأثيراً في الاتحاد الأوروبي؟
نص قرار الحظر الذي مضى عيه 30 عاماً يقول: «الحكومة (الألمانية) الفيدرالية يمكنها الاستمرار في التعاون الشامل فقط في حالة استعادة السلام في كامل البلاد واتخاذ الحكومة السودانية الإجراءات الفعالة في احترام حقوق الإنسان. مشروعات التعاون الفني والشخصي المؤثرة مباشرة على الشعب بالإمكان مواصلتها...».
وبناء على هذا القرار، استمر التعاون الألماني في حدود دعم مشروعات النازحين بولايات دارفور وكسلا وتشييد مركز للتدريب المهني في الفاشر، المساعدات التي وصفت من المراقبين بأنها تستهدف كبح جماح الهجرة إلى أوروبا أكثر من مخاطبة القضايا الأكثر تأثيراً في أوضاع المواطنين.
ورغم أن قرار رفع الحظر بات متوافقاً عليه بين المكونات السياسية الرئيسية في البرلمان الألماني وأجيزت مسودة القرار في انتظار عرضها على البرلمان خلال أسابيع قليلة، فإن ذلك لا يعني عودة التعاون التنموي، فكثير من الحيثيات «الصادمة» كانت مطروحة من الجانب الألماني للوفد السوداني بصورة صريحة ومباشرة.
ففي اجتماع مشترك بمقر وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية ببرلين، قال الدكتور ستيفن أوسولد مدير إدارة أفريقيا: «نحن في حاجة لبناء الثقة»، وقدم حيثيات «الثقة» المطلوبة فيما يشبه الاستفسار عن دور المؤسسات الأمنية في القرار السياسي والنشاط الاقتصادي أيضاً.
وقبل أن يقدم الوفد السوداني الإجابات المناسبة، مضى المسؤول الرفيع الذي وُصف بأنه متخذ القرار الأول، قائلاً: «نحن لا نرمي أموالنا من النافذة في الهواء، لا بد من معالجة أمر (الثقوب السوداء) في السودان».
الأسئلة ذاتها تكررت في جلسة الاستماع بمقر البرلمان، إذ سأل برلماني ألماني عن وضع المؤسسات الأمنية ودورها في التأثير على القرار، وزاد عليها بسؤال عن وضع «الدين» في الدولة بعد سقوط النظام الذي وصف دولياً بأنه يمثل «دولة دينية» ترعى التطرف والإرهاب.
وقطع الدكتور ستيفن الطريق أمام أي تطلع لعون ألماني في الوقت القريب، ناصحاً بالتعويل أكثر على القطاع الخاص في البلدين في هذه المرحلة.
ولكن حتى هذا الخيار ليس متاحاً بلا شروط؛ السفير فيليب أركرمان وهو رئيس إدارة أفريقيا وأميركا اللاتينية بالخارجية الألمانية، ويعدّ المهندس الأول للسياسة الخارجية الألمانية، حدد هذه الشروط بأنها تحقيق السلام وإصلاح «الاتصال المؤسسي» في الحكومة السودانية.
بدا مصطلح «الإصلاح المؤسسي» غامضاً بعض الشيء، لكن الرجل الأول في الخارجية الألمانية الذي زار السودان مرتين خلال الأسابيع الماضية ورافق وزير الخارجية هايكو ماس في زيارته للخرطوم، أفصح بصورة صريحة عن بعض كواليس العلاقات الثنائية خلال الفترة القصيرة منذ توقيع الاتفاق الدستوري الذي دشن مؤسسات وفترة الحكم الانتقالي بالسودان.
قال السفير أركرمان إن ألمانيا عرضت على الدكتور عبد الله حمدوك رئيس وزراء السودان خلال زيارته مقر الأمم المتحدة بنيويورك سبتمبر (أيلول) 2019، دعمه بأحد أبرز الخبراء الألمان في الاقتصاد لتقديم الاستشارة والنصح للحكومة السودانية، لكن الجانب السوداني لم يرد على العرض.
وتقدم وزير الخارجية الألماني هايكو ماس بمقترح آخر لاستضافة مفاوضات السلام السودانية، ولم تكلف الحكومة السودانية نفسها عناء الرد على العرض. وشكل «عدم الرد» انطباعاً لدى الألمان بضعف وهشاشة الحكومة السودانية الذي أطلق عليه السفير أركرمان «غياب الاتصال المؤسسي» وقدم وصفة علاج صريحة قائلاً: «الخلل في مكتب رئيس الوزراء حمدوك، لا بد من إصلاح مكتب رئيس الوزراء أولاً»، وبعد يومين من نشر تصريحات أركرمان أجرى حمدوك تعديلاً في طاقم مكتبه.
السودان الذي يعاني من أزمة اقتصادية خطيرة وانفلات في التضخم تسبب في ارتفاع مخيف للأسعار بات على قناعة بأن الدعم الدولي مكبل بإصرار الولايات المتحدة الأميركية على إبقاء اسمه في قائمة الدول الراعية للإرهاب، والأثقال التي يحملها من الديون الدولية. وبينما أضحى واضحاً أن خروجه من قائمة الدول الراعية للإرهاب قد يستغرق وقتاً طويلاً، وربما يتطلب دفع أموال تعويضات طالبت بها أميركا صراحة، فإن الديون الأجنبية تحجب عنه تماماً أي تواصل مالي مع الدول والمؤسسات الاقتصادية الدولية.
في الملتقى الاقتصادي الذي أقامه المعهد الملكي للشؤون الدولية «شتام هاوس» بالخرطوم مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، صرحت كاري ترك المديرة القطرية لإثيوبيا وإريتريا والسودان وجنوب السودان في البنك الدولي بأن على السودان تسوية 16 مليار دولار من ديونه الدولية قبل أن يتمتع بأي معونات أو قروض جديدة.
تاريخ الديون ممتد منذ عقود طويلة، لكن غالبيتها العظمى نمت في سنوات حكم الرئيس المعزول عمر البشير، الذي لم يحفل كثيراً بحسابات سداد ما أفرط في اقتراضه من الدول والمؤسسات الدولية والعربية.
ويبرهن على عجز السودان عن السداد ما قاله سفير دولة الهند بالخرطوم في لقاء صحافي بالخرطوم 30 سبتمبر 2019، إن ديون بلاده لا تتعدى 95 مليون دولار تسببت في تعطيل التعاون الثنائي تماماً.
بعد زيارة مقر الأمم المتحدة والاجتماع بأكثر من 50 رئيس دولة ومسؤولين في دول ومنظمات ثم زيارة رسمية إلى فرنسا، لم يجد الدكتور حمدوك سبيلاً سوى التعجيل بزيارة الرياض وأبوظبي مرافقاً للفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني، فقد بات واضحاً أن العون الذي تلقاه السودان من الدولتين مباشرة بعد سقوط النظام السابق وانتصار الثورة الشعبية كان بمثابة إلقاء طوق النجاة لغريق في منتصف البحر، وأن التعويل على التعاون والعلاقات مع السعودية والإمارات قد يكونان الخيط الفاصل بين المحافظة على أمن واستقرار السودان أو الوقوع في فخ سيناريوهات الربيع العربي الذي عصف بالاستقرار والأمن في اليمن وسوريا وليبيا.
العون الخليجي توزع بين سد حاجة السودان من السلع الحتمية مثل القمح والوقود والدواء بما يعادل 3 مليارات دولار، وتوفير سيولة نقدية نصف مليار دولار إضافية لمساعدة بنك السودان المركزي في ضبط سعر صرف الجنيه، ولم يكن العون الخليجي مشترطاً بأي التزامات سابقة أو تعهدات لاحقة.
وفي ظل كل هذه التعقيدات الدولية يظل السؤال عن مستقبل الاقتصاد السوداني مرتبطاً بمستقبل الوضع السياسي لنظام ومؤسسات الحكم في العهد الجديد.