طرابلس «عروس الثورة» تهتف لـ«النبطية» و«الضاحية الجنوبية»

احتشادها أدهش اللبنانيين بعد أن وُسمت بالتطرف لسنوات

TT

طرابلس «عروس الثورة» تهتف لـ«النبطية» و«الضاحية الجنوبية»

على وقع هتافات «كلن يعني كلن» و«الشعب يريد إسقاط النظام» والموسيقى الحماسية الصاخبة، يتابع الفنان التشكيلي محمد أبرش منذ أيام، مع عشرة من المتطوعين، تغيير وجه «ساحة النور» في طرابلس التي باتت أشهر ساحات الاعتصام في لبنان، وأكثرها احتشاداً وأعلاها صوتاً. فقد فوجئ المعتصمون بأن المبنى الأساسي الذي يقف على شرفته الناشطون ليديروا الحراك ويهتفون بالشبان، بدأت تكتسي جدرانه بالعلم اللبناني بمساحة ضخمة. المبنى المهجور منذ ما يقارب أربعين سنة غيرت وجهه الاحتجاجات. ويشرح أبرش، أن التبرعات لمبادرته سمحت له بشراء الطلاء واستئجار ثلاث رافعات، يقف عليها المتطوعون كل يوم بالتنسيق مع منظمي المظاهرة لاستكمال الدهان. وإن كانت مبادرتهم إحساساً منهم بأن ثورتهم مستمرة لوقت طويل، أم أنها ذكرى لهذه الانتفاضة الشعبية، يقول: «الاثنان معاً. المهم أننا نريد لطرابلس أن يصبح لها وجه آخر غير ذاك الذي وُسمت به».
كل له مبادرته في ساحة النور أو «نجمة الثورة» وعروسها كما باتت تسمى. لا، بل كل مجموعة لها تظاهرتها على الساحة، ونشاطاتها التي تديرها على هواها. هنا من يسمون أنفسهم «حراس المدينة» يحاولون أن ينسقوا النشاطات، لكن العفوية تبقى غالبة. ثمة من يتبرعون لشراء المياه التي توزع، ومطاعم تحضر السندويشات أو المناقيش وربما الحلويات كما فعل «الحلاب» بتوزيع الكنافة، ومطعم الدنون الذي يسهم أفراد العائلة في التحضير كما في التوزيع بأنفسهم في الساحة.
اكتظاظ ساحة النور وحيويتها أدهشت اللبنانيين جميعاً. طرابلس التي وصمت لسنوات بأنها قندهار، وأنها موئل المتطرفين، بعد عشرين جولة قتال، تعيش منذ انتهاء هذه الجولات عام 2014 حالة من التردي الاقتصادي المدقع. كان واضحاً في السنة الأخيرة أن عدد المحال التجارية التي تغلق مثير للقلق، وأن نسبة البطالة ارتفعت إلى حد يشي بالانفجار.
في الليل يتحول أحد الشوارع الرئيسية المتفرعة من ساحة النور، والتي أغلقت بفعل التظاهر، إلى مرآب كبير للدراجات النارية التي تصطف فيه بالمئات. هذا دلالة على أن الشبان في الساحة، وهم غالبية ساحقة، آتون من مناطق محرومة. من المفارقات أن شبان جبل محسن وباب التبانة الذين أشعلوها حرباً شعواء فيما بينهم طوال ست سنوات، هم من أنشط الحاضرين. فرّقتهم السياسة وأعاد عوزهم اللحمة بينهم. ولا مانع من أن تصطف النراجيل أيضاً وتستجلب الكراسي، وبدل الجلوس أمام باب البيت طوال النهار، فإن في ساحة النور كل ما يلزم. ثمة توزيع للتمر وأحياناً القهوة، وفي الليل مع الأغنيات الثورية والهتافات التي لا تزال تبحث عن نفسها ثمة «دي جيه»، يأتي ليسعد الحاضرين بموسيقاه التي أصبح ينتظرها المنتفضون هنا بفارغ الصبر.
يحاول المعتصمون الترفيه عن أنفسهم، وتمضية الوقت. لكن خلف المظاهر الاحتفالية آلاماً كثيرة. كلٌ جاء بدافع شخصي في الأصل. يجمعهم إحساسهم أن ثمة من اختلسهم وتركهم في عطالة لا أفق لها. ومن له عمل فهو لا يكفيه. كما أحد المتظاهرين الذي يعمل في مجال «الديليفري» وهو على وشك أن يطرد، ومتظاهرة ناقشت شهادة الدكتوراه العام الماضي وتعرف أن أمل قبولها لتعلّم في الجامعة في ظل النظام الحالي متعلق برضا أحد الزعماء. أو السيدة المسنة التي اتخذت لها زاوية تتفرج على الجموع وحين نسألها تقول: «حفيدي غرق في البحر منذ أشهر، أما سمعتم به في التلفزيون؟ لو كان لنا دولة لنظمت السباحة ولما كنا فقدناه! أنا هنا من أجله»، ولا تستطيع أن توقف دموعا تنهمر من عينيها. وسيدة أخرى جاءت لأن أولادها باتوا خارج لبنان ولا أمل في عودتهم دون «تغيير جذري». المطالب أكثر من أن تحصر. كل يعتبر أن الدولة تركته يتيماً وتسببت له بكارثة، إما لغيابها أو لإجحافها.
الإحساس بأن توجيه الشتائم لشخصيات بعينها، كما في الأيام الأولى، قد يتسبب بفرقة، لجم أصحاب الهتافات عن تصويب الاتهامات إلى سياسيين بالاسم. صار المحتجون يرسلون بتحياتهم إلى «النبطية» و«صور» و«الضاحية الجنوبية». إلى جانب الساحة خيمة صغيرة نصبها أهالي الموقوفين الإسلاميين الذين يطالبون بالإفراج عن أبنائهم. لولا الأناشيد الدينية الصادحة، والتي يصعب أن تسمعها بسبب الموسيقى الثورية الصاخبة على المنصات لما انتبه لهم أحد. كلٌ جاء بألمه ومطالبه وأحزانه وآماله وطموحاته، من كل الأعمار، أغنياء وفقراء، أطباء، مهندسون وعمال. الغضب جمع الناس في هذا المكان الذي كان دائماً رمزاً لتغير الأهواء في طرابلس. هذه الساحة التي كانت تعرف باسم رجل الاستقلال عبد الحميد كرامي وكان تمثاله يتوسطها، انقلب اسمها إلى ساحة النور وأُنزل التمثال لتحل محله كلمة «الله» في الثمانينات من القرن الماضي، مع صعود نجم حركة «التوحيد» الإسلامي. وهي لاتساعها وقربها من السراي الحكومي، ووجودها على مدخل عاصمة الشمال كانت دائماً، مركزاً للاحتجاجات على مختلف أنواعها. لكن لم يسبق لساحة النور أبداً أن شهدت تواجد ما يقارب 100 ألف شخص دفعة واحدة، فما يحدث في طرابلس هذه الأيام ليس فقط نقمة على الزعماء، ورفضاً لوسم المدينة تارة بالإرهاب والتطرف، وتارة أخرى بالتخلف، إنما هو أيضاً تجمع لعاطلين عن العمل أو مهددين بفقدان القليل الذي يصلهم، وصرخة خوف من مستقبل لم يعد يرى فيه الشبان بصيص نور.



انخفاض شديد في مستويات دخل الأسر بمناطق الحوثيين

فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
TT

انخفاض شديد في مستويات دخل الأسر بمناطق الحوثيين

فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)

بموازاة استمرار الجماعة الحوثية في تصعيد هجماتها على إسرائيل، واستهداف الملاحة في البحر الأحمر، وتراجع قدرات المواني؛ نتيجة الردِّ على تلك الهجمات، أظهرت بيانات حديثة وزَّعتها الأمم المتحدة تراجعَ مستوى الدخل الرئيسي لثُلثَي اليمنيين خلال الشهر الأخير من عام 2024 مقارنة بالشهر الذي سبقه، لكن هذا الانخفاض كان شديداً في مناطق سيطرة الجماعة المدعومة من إيران.

ووفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فقد واجهت العمالة المؤقتة خارج المزارع تحديات؛ بسبب طقس الشتاء البارد، ونتيجة لذلك، أفاد 65 في المائة من الأسر التي شملها الاستطلاع بانخفاض في دخلها الرئيسي مقارنة بشهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي والفترة نفسها من العام الماضي، وأكد أن هذا الانخفاض كان شديداً بشكل غير متناسب في مناطق الحوثيين.

وطبقاً لهذه البيانات، فإن انعدام الأمن الغذائي لم يتغيَّر في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية، بينما انخفض بشكل طفيف في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين؛ نتيجة استئناف توزيع المساعدات الغذائية هناك.

الوضع الإنساني في مناطق الحوثيين لا يزال مزرياً (الأمم المتحدة)

وأظهرت مؤشرات نتائج انعدام الأمن الغذائي هناك انخفاضاً طفيفاً في صنعاء مقارنة بالشهر السابق، وعلى وجه التحديد، انخفض الاستهلاك غير الكافي للغذاء من 46.9 في المائة في نوفمبر إلى 43 في المائة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

وضع متدهور

على النقيض من ذلك، ظلَّ انعدام الأمن الغذائي في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية دون تغيير إلى حد كبير، حيث ظلَّ الاستهلاك غير الكافي للغذاء عند مستوى مرتفع بلغ 52 في المائة، مما يشير إلى أن نحو أسرة واحدة من كل أسرتين في تلك المناطق تعاني من انعدام الأمن الغذائي.

ونبّه المكتب الأممي إلى أنه وعلى الرغم من التحسُّن الطفيف في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، فإن الوضع لا يزال مزرياً، على غرار المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، حيث يعاني نحو نصف الأسر من انعدام الأمن الغذائي (20 في المائية من السكان) مع حرمان شديد من الغذاء، كما يتضح من درجة استهلاك الغذاء.

نصف الأسر اليمنية يعاني من انعدام الأمن الغذائي في مختلف المحافظات (إعلام محلي)

وبحسب هذه البيانات، لم يتمكَّن دخل الأسر من مواكبة ارتفاع تكاليف سلال الغذاء الدنيا، مما أدى إلى تآكل القدرة الشرائية، حيث أفاد نحو ربع الأسر التي شملها الاستطلاع في مناطق الحكومة بارتفاع أسعار المواد الغذائية كصدمة كبرى، مما يؤكد ارتفاع أسعار المواد الغذائية الاسمية بشكل مستمر في هذه المناطق.

وذكر المكتب الأممي أنه وبعد ذروة الدخول الزراعية خلال موسم الحصاد في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر، الماضيين، شهد شهر ديسمبر أنشطةً زراعيةً محدودةً، مما قلل من فرص العمل في المزارع.

ولا يتوقع المكتب المسؤول عن تنسيق العمليات الإنسانية في اليمن حدوث تحسُّن كبير في ملف انعدام الأمن الغذائي خلال الشهرين المقبلين، بل رجّح أن يزداد الوضع سوءاً مع التقدم في الموسم.

وقال إن هذا التوقع يستمر ما لم يتم توسيع نطاق المساعدات الإنسانية المستهدفة في المناطق الأكثر عرضة لانعدام الأمن الغذائي الشديد.

تحديات هائلة

بدوره، أكد المكتب الإنمائي للأمم المتحدة أن اليمن استمرَّ في مواجهة تحديات إنسانية هائلة خلال عام 2024؛ نتيجة للصراع المسلح والكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ.

وذكر أن التقديرات تشير إلى نزوح 531 ألف شخص منذ بداية عام 2024، منهم 93 في المائة (492877 فرداً) نزحوا بسبب الأزمات المرتبطة بالمناخ، بينما نزح 7 في المائة (38129 فرداً) بسبب الصراع المسلح.

نحو مليون يمني تضرروا جراء الفيضانات منتصف العام الماضي (الأمم المتحدة)

ولعبت آلية الاستجابة السريعة متعددة القطاعات التابعة للأمم المتحدة، بقيادة صندوق الأمم المتحدة للسكان، وبالشراكة مع برنامج الأغذية العالمي و«اليونيسيف» وشركاء إنسانيين آخرين، دوراً محورياً في معالجة الاحتياجات الإنسانية العاجلة الناتجة عن هذه الأزمات، وتوفير المساعدة الفورية المنقذة للحياة للأشخاص المتضررين.

وطوال عام 2024، وصلت آلية الاستجابة السريعة إلى 463204 أفراد، يمثلون 87 في المائة من المسجلين للحصول على المساعدة في 21 محافظة يمنية، بمَن في ذلك الفئات الأكثر ضعفاً، الذين كان 22 في المائة منهم من الأسر التي تعولها نساء، و21 في المائة من كبار السن، و10 في المائة من ذوي الإعاقة.

وبالإضافة إلى ذلك، تقول البيانات الأممية إن آلية الاستجابة السريعة في اليمن تسهم في تعزيز التنسيق وكفاءة تقديم المساعدات من خلال المشاركة النشطة للبيانات التي تم جمعها من خلال عملية الآلية وتقييم الاحتياجات.