تجول رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، عبر مختلف أرجاء بلاده مترامية الأطراف، من سواحل المحيط الهادي إلى سواحل الأطلسي، ووصولاً إلى القطب الشمالي. وخلال طريقه، حرص على مصافحة الأيدي، وملاعبة الأطفال، والوقوف لالتقاط صور «سيلفي»، وأحياناً كان يفعل كل هذا في لحظة واحدة.
وبمرور الوقت، تحولت جولته الانتخابية التي يسعى من ورائها لإعادة انتخابه لرئاسة الوزراء إلى جولة اعتذار، بعدما تكشف أنه عندما كان شاباً دهن وجهه باللون الأسود تشبهاً بأصحاب البشرة الداكنة. وتسببت هذه الصورة الكاريكاتيرية العنصرية في ضرر شديد له، بجانب أنه بدا وكأنها تؤكد على صحة انتقاد موجه إلى شخصيته: فلطالما حذر منتقدوه من أن صورته الليبرالية ليست سوى قناع سياسي.
وأشار هؤلاء النقاد إلى أن ترودو يزعم مناصرته لقضايا البيئة، بينما لم يتوان عن شراء خط أنابيب غاز، ويزعم مناصرته لحقوق المرأة، بينما مارس التنمر ضد المدعية العامة.
ومع توجّه الكنديين للإدلاء بأصواتهم في انتخابات وطنية، أمس الاثنين، ثمة تساؤل رئيسي يراود ترودو: هل سيغفر له الناخبون؟ هل سيختارونه، حتى وإن لم يكن دوماً القائد الذي كانوا يأملونه؟
في هذا الصدد، قالت إيف غبوري (19 عاماً)، التي تدرس الجغرافيا البيئية في جامعة مونتريال: «إنه منافق»، مضيفة أنها قد تغفر له تلوين وجهه باللون الأسود، لكنها لن تغفر له قط شراء خط أنابيب. وكان ترودو قد اكتسح الطريق نحو السلطة منذ أربع سنوات في فوز انتخابي جاء بمثابة مفاجأة، ليصبح رمزاً عالمياً لليبرالية في وقت كانت الشعبوية اليمينية تحكم قبضتها على الكثير من البلدان الديمقراطية الأخرى. ونجح ترودو في اجتذاب الشباب، عبر تزعمه قضايا حقوق المرأة والسكان الأصليين، والتزامه بالتصدي لارتفاع درجة حرارة الأرض.
وفي وقت مبكر، تركت حكومته أصداءً إيجابية عندما كشفت النقاب عن واحد من أكثر مجالس الوزراء توازناً بين الرجال والنساء على مستوى العالم، وقننت عشبة الماريغوانا بهدف الترفيه، ورحبت بأكثر عن 25.000 لاجئ سوري.
أيضاً، تعامل ترودو مع رئيس أميركي متقلب المزاج، وعزز اتفاقاً تجارياً مع الولايات المتحدة. وتحت قيادته، أبلى الاقتصاد الكندي بلاءً حسناً. إلا أن تعهده باتباع توجه «مشمس» حيال القضايا السياسية، تعرض للتقويض في وقت سابق من العام الحالي، عندما تدخل في قضية جنائية أحد أطرافها شركة كندية كبرى.
وقال ترودو إنه كان يحاول إنقاذ الوظائف من خلال الضغط على المدعية العامة ووزيرة العدل جودي ويلسون رايبولد، للسعي وراء استصدار عقوبة مدنية، بدلاً من السعي وراء عقد محاكمة جنائية. إلا أن ويلسون رايبولد، وهي من السكان الأصليين للبلاد، اتهمت ترودو ومساعديه الرجال في معظمهم بالضغط عليها على نحو غير مناسب، وقالت إنها شعرت بأنها تتعرض لتنمر.
وأقر مفوض فيدرالي معني بآداب العمل السياسي، أن ترودو خرق قانون منع تعارض المصالح. وأعرب قطاع كبير من الرأي العام عن صدمته حيال هذا الحادث، فذلك زعيم تعهد باتباع توجه جديد وصادق وشفاف حيال الحكم، يعمد إلى إقحام اعتبارات سياسية في قضية جنائية.
وأثار هذا الأمر قلق الكثيرين، وأضر بصورة ترودو كثيراً، لكن هذا لم يكن كل شيء.
في وقت سابق من فترة ولايته، استغل ترودو 4.5 مليار دولار كندي، أو نحو 3.4 مليار دولار، في شراء خط أنابيب يربط بين الرمال النفطية في ألبرتا وساحل المحيط الهادي. وأثارت هذه الصفقة غضب الكثير من أنصار الحفاظ على البيئة، الذين قالوا إن ترودو أكثر اهتماماً بصناعة الطاقة (التقليدية) الكندية من البيئة.
وفي وقت قريب، اصطحب ترودو أسرته في زيارة رسمية للهند؛ حيث ارتدوا جميعاً ملابس محلية فاخرة. ورغم أن هذا الفعل ربما تم بحسن نية، فإنه ظهر مفتقراً إلى الحساسية الثقافية. بعد ذلك، ظهرت صور قديمة له وهو يغطي وجهه باللون الأسود على الأقل ثلاث مرات، منها فيديو يرتدي خلاله باروكة شعر أفريقية ويخرج لسانه.
وفي حديثه في وقت قريب إلى فتاتين توأم داكنتي البشرة، قال ترودو: «أنا آسف لجرحي مشاعر البعض»، وذلك في واحد من اعتذاراته العلنية الكثيرة خلال حملته الانتخابية.
وربما يتضح نهاية الأمر أن هذه المشكلات كثيرة للغاية، ومن المتعذر على ترودو اجتيازها. وكشفت استطلاعات الرأي (قبل توجّه الكنديين إلى صناديق الاقتراع) أن معدلات تأييد ترودو تبلغ 35 في المائة، نصف ما كانت عليه خلال عامه الأول الكامل في منصب رئيس الوزراء. وبذلك، يجد ترودو نفسه في منافسة انتخابية محتدمة مع اختيار الكنديين لبرلمانهم الجديد. ويرى خبراء أن ترودو يواجه إمكانية أن يصبح رئيس وزراء لفترة واحدة، أو ربما ينتهي به الحال إلى ممارسة الحكم بالاعتماد على حكومة أقلية غير مستقرة.
وعلى امتداد حملته الانتخابية، دخل الحزب الليبرالي الذي يقوده ترودو في منافسة قوية أمام خصمه الرئيسي، حزب المحافظين الذي يقوده أندرو شير. وإن كان العديد من المحللين يرون أنه خلال عطلة نهاية الأسبوع، مالت الكفة قليلاً لصالح ترودو. وعلى اليسار، يتنافس حزب ترودو مع الحزب الديمقراطي الجديد، وحزب الخضر.
من جهته، يقاوم ترودو، ليس فقط من خلال الاعتذارات، وإنما يعمد إلى التأكيد على أجندته الليبرالية، ويؤكد أنه حال انتخاب المحافظين سيمحون كل آثار التقدم الذي حققه الليبراليون. وقال ترودو، البالغ 47 عاماً، الأسبوع الماضي، «إننا ندرك أنه لا يزال يتعين بذل مجهود أكبر بكثير لجميع الـ900.000 نسمة الذين رفعناهم من هوة الفقر، وأن هناك آخرين كثيرين بحاجة إلى العون». وأضاف: «الآن ليس الوقت المناسب للعودة إلى الخلف».
ورغم الصعاب التي يواجهها، لا يزال ترودو يتميز بقدر واضح من النجومية. فخلال حملته، نجح في جذب حشود كبيرة حوله، وكانت هناك لحظات كثيرة جرى تصويرها، ونالت شعبية واسعة عبر «إنستغرام»، وهي لحظات يتميز ترودو ببراعة خاصة في خلقها.
بجانب ذلك، تعززت صورة ترودو كمتحدث رسمي ناجح باسم كندا على الساحة العالمية، الأسبوع الماضي، عندما خرج الرئيس السابق باراك أوباما، الذي كان يحظى بشعبية واسعة في كندا أثناء رئاسته، عبر «تويتر»، ليعلن تأييده لرئيس الوزراء الكندي باعتباره قائداً تقدمياً «يحتاج إليه العالم».
ومع هذا، لا يمكن للحملة الانتخابية محو سجل الماضي الشخصي والمهني، الذي أثار تساؤلات حول شخصية ترودو. في هذا الصدد، قال شير، زعيم حزب المحافظين، خلال مناظرة جرت قريباً، وذلك أثناء سخريته من ترودو، لقوله إنه لا يتذكر كم مرة ارتدى «قناعاً أسود اللون»: «الحقيقة أنه يرتدي دوماً قناعاً».
من ناحية أخرى، ورغم الإشادات الكثيرة التي انهالت على ترودو لوضعه فكرة المصالحة مع السكان الأصليين على رأس أجندته الوطنية، يشكو بعض أبناء هذه الفئة من أنه لم ينفذ جميع وعوده.
وعلى ما يبدو، فإن الكثير من الكنديين على غير استعداد لمسامحة ترودو على خذلانه لهم بعض الأحيان. ومع ذلك، فإنهم في الوقت ذاته لا يبدون متحمسين تجاه البدائل، الأمر الذي قد يؤدي نهاية الأمر إلى إعادة انتخابه.
جدير بالذكر أن الكنديين لم يستسيغوا شير (40 عاماً)، السياسي الذي يواجه مشكلة واضحة في تحديد المبادئ التي يمثلها، ويتخذ مواقف معارضة لمواقف غالبية الكنديين حيال قضايا اجتماعية.
على اليسار، نجحت السياسات اليسارية القوية للحزب الديمقراطي الجديد بخصوص الرعاية الصحية والضرائب، في تقويض محاولات ترودو تصوير نفسه أفضل ضامن للمساواة الاجتماعية. كما شهدت شعبية زعيم الحزب، جاغميت سنغ، أول شخص غير أبيض يتزعم حزباً وطنياً كبيراً في كندا، ارتفاعاً الأسبوع الماضي. ومع هذا، ربما فات الأوان لأن يترك ذلك تأثيراً ملموساً على نتائج الانتخابات.
اللافت أنه ليست جميع المشكلات المتعلقة بصورة ترودو من صنع يديه، فقد واجه رئيس الوزراء الحالي صعوبات بسبب المقارنة المستمرة بينه وبين والده، بيير إليوت ترودو، واحد من أكثر رؤساء الوزراء الكنديين شعبية.
وعن ذلك، قال مارك ميلر، عضو البرلمان عن الحزب الليبرالي وصديق مقرب من ترودو منذ فترة الدراسة الثانوية: «اضطر دوماً للتعامل مع مشاعر تحامل ضده، باعتباره أقل قوة وأنه ليس كوالده، منذ أن كان في الـ12 أو الـ13. وقد تعلم منذ وقت مبكر ألا يخشى اسمه».
* خدمة «نيويورك تايمز»
هل يسامح الكنديون جاستن ترودو؟
استطلاعات الرأي جاءت سلبية قبل فتح صناديق الاقتراع
هل يسامح الكنديون جاستن ترودو؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة