الرواية... تجربة فكرية ـ تخييلية

قرأت قبل شهور رواية «Still Alice» للكاتبة ليزا غينوفا Lisa Genova، ومما شجّعني على قراءة الرواية مشاهدتي للفيلم السينمائي المنتَج عام 2014، المأخوذ عن الرواية، الذي حازت عنه الممثلة جوليان مور على جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة لتجسيدها الدور الرئيسي في الفيلم. كانت غايتي الأساسية من وراء قراءة النص الأصلي للرواية معرفة الكيفية التي طوّعت بها الكاتبة ذلك الحشد من التفاصيل الطبية عن مرض ألزهايمر، في سياق سردية روائية حقّقت انتشاراً واسعاً فرض نفسه على السينما الهوليوودية التي لا تغامر بإنتاج فيلم ما لم تحدس في عناصره ما يحقق لها الربح الفاحش بقصته المثيرة ووقائعه الاستثنائية.
تتركّز ثيمة الرواية حول حياة أليس هولاند، البروفسورة في مادة علم النفس المعرفي والآليات الإدراكية الخاصة بديناميكيات تعلم اللغة، تعمل أستاذة في جامعة هارفرد بصحبة زوجها الأستاذ في الجامعة ذاتها. تعمد الروائية - منذ الصفحات الأولى - إلى تمهيد الأرضية أمام القارئ ليعرف أنه إزاء شخصية تعاني تمظهرات مرضية تشير إلى بوادر مرض ألزهايمر.
أثارت اهتمامي تلك العبارات المفتاحية التي وضعتها المؤلفة قبل المتن الروائي:
«حتى في ذلك الوقت قبل ما يزيد قليلاً على السنة، كانت ثمة خلايا عصبية دماغية قريبة من أذنيها تذوي في سكينة تامة إلى حدّ جعلَ من المستحيل أن تسمع أليس صوت استغاثة تلك الخلايا المتلاشية. يمكن أن يعتقد البعض أن هذا المرض قد غدر بها وجعل خلاياها العصبية الدماغية تسلك مساراً يفضي لدمارها الذاتي، وسواء كان هذا جريمة جزيئية أم انتحاراً ذاتياً للخلايا، فقد عدمت تلك الخلايا الوسيلة الكفيلة بتحذير أليس مما سيحدث لها عمّا قريب قبل أن تذوي إلى الأبد...».
تساءلتُ وأنا أقرأ هذه العبارات التخصصية البعيدة عن السياقات الأدبية المألوفة في مفتتح الروايات: كيف أمكن لهذا الحشد اللغوي المزحوم باستعارات مفاهيمية علمية أن يثير انتباه القارئ خصوصاً في مفتتح الرواية؟ ودفعني الفضول للبحث عن السبب الذي جعل هذه الرواية تحقّق مبيعات كبرى (بيست سيللر)Bestseller وتُترجم إلى سبع وثلاثين لغة، نعلم أن المؤلفة هي ذاتها عالمة أعصاب متخصصة، وقد غامرت بتحمّل تكاليف نشر هذه الرواية عام 2007 (وهي روايتها الأولى التي نُشرت بعدها ثلاثة أعمال أخرى)، ثم دفعت المبيعات الكبيرة للرواية دار نشر مرموقة هي «سايمون آند تشوستر» لشراء حقوق نشر الرواية من الكاتبة عام 2009، وإعادة نشرها بصيغة كتاب جيب زهيد الثمن بغية إيصال الكتاب بعد نجاحه المدوي إلى أوسع حلقة من القرّاء.
دفعتني تساؤلاتي إلى قراءة مراجعات نقدية عدّة للرواية، وقد اتفقت معظم المراجعات على ضرورة أن يمتلك القارئ شيئاً من معرفة معقولة بعِلْم النفس الإكلينيكي، أو أن يسعى على الأقل إلى امتلاك شيء من تلك المعرفة، إذا شاء الاستمرار في قراءة هذه الرواية، كما أكّدت المراجعات النقدية أنه من المهمّ الاصطبار على قراءة الصفحات الأولى التي بدت واضحة الجفاف وتعوزها المتعة والتشويق المطلوب الذي يثير شهية القارئ ويجذبه إلى متابعة العمل الروائي.
> يمتاز الإنسان بقدرته الفريدة على خلق الأفكار ومساءلتها والتلذذ العقلي حد الانتشاء بها، غير أن تلك القدرة محكومة بمحفزات توفرها بيئة الإنسان المتقدمة من جانب ومثابرته الشخصية على اكتساب المعارف من جانب ثانٍ، أما في البيئات المتخلفة، فإن تلك القدرة تُعامل على نحو مدمّر، ويجري مسخها والاستخفاف بها، ويعتبرها كثيرون أمراً عقيماً يعجز عن توفير متطلبات العيش الأولية، وعلى الضدّ من ذلك نجد اهتماماً واسعاً بهذه القدرة في المجتمعات المتطورة، لإدراكها أن القدرة الإنسانية على توليد الأفكار هي «منجم ذهب لا نضوب لثروته»، ليس على صعيد الاهتمامات العامة فحسب، بل بالمعنى النفعي للعبارة، ويتعاظم اهتمام النظم التعليمية في تلك المجتمعات بالتركيز على تعليم كلاسيكيات الأدب والفلسفة في وقت مبكر من أعمار الطلبة لإدراكهم أن تلك الكلاسيكيات (بدءًا من المحاورات الأفلاطونية والأساطير الملهمة والملاحم ومختارات من الروايات الحداثية وما بعد الحداثية) تعزّز التفكير المبدع، وتحفز العقول الفتية على التعامل مع الأفكار.
يتساءل بعضنا: لماذا نعتبر الانتشاء بالأفكار التجريدية خاصية فريدة للعقل البشري؟ يكمن الجواب في معرفتنا بأن الأفكار التجريدية (كالرياضيات) تعني إمكانية توليد الأفكار بمعزل عن المؤثرات الفيزيائية المحسوسة الواقعة خارج نطاق العقل، مما يعني أسبقية العقل على الموجودات المادية، وقدرته على إنتاج الأفكار، حتى في غياب تلك الموجودات، وبوسع الروائي الاستفادة من هذه الخاصية، التي توفّر للعقل طاقة تخييلية هائلة تجعل من بعض الأعمال الروائية ضرباً من «تجارب فكرية»، قوامها الأفكار الممتعة.
يظنّ البعض بأن العمل الروائي كائن طفيلي يعتاش على الرؤية المادية المجردة، والانغماس الجسدي في تجارب البوتقة البشرية الفوارة، ويتجاهل هذا البعض أن كل عمل روائي أصيل (شأن كل إبداع آخر) يوظّف الطاقة التخييلية التي تعززها الأفكار، ويدور في مدارها، ومن غير سحر الأفكار البارعة الملهمة لن تكون الرواية سوى «حدوتة» مسطّحة وملفّقة تعتمد اللغة العاطفية السيالة والبوح المجاني والتبسيط المفرط لإرضاء فئات محددة من القراء، في حين تمتاز الروايات العظيمة (مثل روايات دوستويفسكي وتوماس مان وريبيكا غولد شتاين) بأنها لعبة ذهنية ثرية في المقام الأول، وليست محض سرد وقائعي لحوادث محددة أو مفترضة، غير أنها تختلف نوعياً عن الألعاب الذهنية الأخرى، لأنها لا تستمدّ مادتها الأولية من مواضعات متفق عليها، بل من الواقع الفيزيائي الذي يحيا الإنسان في مدياته، ويصحّ هذا الأمر على مختلف أطياف الفن الروائي حتى تلك الروايات ذات النزعة الميتافيزيقية، كبعض أعمال هيرمان هيسه وماري روبنسون ومارغريت آتوود.
يرفض البعض ممن يكتبون الرواية أو ممن يعملون في مجال عرض الكتب في الصحافة فكرة انطواء الرواية على مادة معرفية لقناعة مسبقة لديهم بأن الرواية هي حكاية ممتعة ترصد حياة مجموعة من الشخصيات، وتسرد، بأسلوب شيق ولغة مطواعة، وقائع حياة الشخصيات ومصائرها، ويفوتهم أن تعزيز السرد بمواد معرفية لا يجيء مطلقاً بشكل فوقي مقحَم أو بطريقة مباشرة (كما يفعل بعض الكتّاب) وإنما يتم بتكثيف الخبرة البشرية في خلاصات مركَّزة أو ما ندعوه «عبارات خوارزمية» بصياغات ملهمة أقرب إلى الحكمة المضغوطة التي ما أن يكتشفها القارئ حتى يتمتم: ما أروع هذه العبارة! كم هي ثمينة ومشرقة، ليتني عرفتها من قبل، إذن لكانت حياتي اتخذت مساراً مختلفاً عمّا مررت به، ولكانت بهجتي باكتشاف الحياة وثرائها قد تسامت لمرتقيات بعيدة ولتجنبتُ مزالق وخسارات كنتُ في غنى عنها.
> شهد اليوم، وفي كل بقاع عالمنا، انحساراً معرفياً كبيراً مقابل تفجُّر معلوماتي هائل، وتكمن المشكلة دوماً في كيفية تحويل ذلك التفجر المعلوماتي، الذي يشبه الانفجار الكوني العظيم، إلى معرفة موجهة لصالح الفرد والمجتمع معاً، وقد جاءت لنا الوسائط الرقمية الشائعة بنوع من القدرة السهلة والجاهزة للحصول على المعلومة، إنما دون توظيفها لاحقاً في صيغة معرفة هادفة تقود إلى خبرة منتجة، وتفاقمت هذه الإشكالية حتى على صعيد المؤسسات التي كانت تُعتبر تقليدياً مصادر مزوّدة للمعرفة (مثل المدرسة والجامعة والصحيفة اليومية)، بعد انحسار الرغبة في القراءة الرصينة والاستعاضة عنها بالمتعة الصورية العابرة المفتقدة لأي قيمة فلسفية، ووصل الأمر إلى حدّ بلغ معه مرتبة المعضلة القومية في كثير من الدول، بعد أن شهدت مخرجات التعليم تباطؤاً واضح المعالم في القدرات الجمعية، إذ أصبح التفوق والإنجاز الأكاديمي وغير الأكاديمي غارقاً في الفردانية وبعيداً عن التمثلات الجمعية، مقارنة بما سبق، ووسط بيئة بهذه المواصفات بوسع الرواية أن تكون وسيطاً معرفياً مقصوداً أكثر من أي وسيط آخر، لتوفير المعرفة الهادفة عبر توظيف وسائلها اللامحدودة في المناورة والقدرة على تمرير الأفكار، في إطار جمالي تمازجه بالمتعة.
تلمست، في قراءاتي للرواية وعبر ترجماتي لحوارات كثيرة مع كُتّاب الرواية وكاتباتها، ميلاً طاغياً للروائيين المعاصرين نحو جعل الرواية نصّاً معرفياً بحدود ما يمكنهم توظيفه ويأنسون له، وسنلمس في روايات القرن الحادي والعشرين قبسات متزايدة من المعرفة العلمية والفلسفية والسيكولوجية والتأريخية تتواشج مع الصفات الخاصة لكل شخصية، وتبرز اهتماماتها وأحلامها ونمط سلوكها، ويتفق هذا الأمر مع القناعة المتزايدة بأن الرواية الحديثة ستلعب في السنوات المقبلة دور «الحاضنة المعرفية»، التي تزوّد الأجيال المسحورة بالعالم الرقمي بقدر معقول من تلاوين المعرفة المتجددة، وسيكون بوسع الروائي المتمكن (عبر مقاربة مفردات المعرفة بوسائل ناعمة وسلسة) إعادة التوازن بين المعرفة التحليلية والرقمية المهيمنة، ليساعد بعمله الإبداعي على تعزيز كفاءة قرائه الشباب في استخدام الطاقات الخلاقة المتاحة للعقل البشري.
- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية مقيمة في الأردن