مرة جديدة، تحوّل وسط بيروت التجاري إلى ساحة للتكسير والتخريب على أيدي فريق من المتظاهرين ممن دأبوا على اختراق التحركات الشعبية بأعمال شغب مشبوهة. ولم تنفع نداءات وزيرة الداخلية، ريا الحسن، للمتظاهرين بوجوب المحافظة على الأملاك العامة، حيث شهد قلب العاصمة ليلة أول من أمس، أعمال شغب واسعة.
وأعادت الأحداث الأخيرة طرح السؤال عن خلفية إلغاء الدور التجاري والاجتماعي لوسط بيروت، سواء كما كان في القرن الماضي قبل اندلاع الحرب الأهلية (عام 1975) التي حوّلته إلى ركام، أو بعد انتهاء هذه الحرب (1990) مع مشروع إعادة بنائه الذي تولته شركة «سوليدير».
ويرى بعض المحللين أن الاحتجاجات في المركز المحوري للمدن أمر طبيعي يسهم في إيصال صوت المحتجين، في حين يعتبر بعض آخر أن المتضررين من السلطة تستفزهم شركة «سوليدير» التي غيّرت صيغة وسط المدينة وعصرنتها وفرضت مقاييسها الاقتصادية والاجتماعية العالية بعيداً عن الأسواق الشعبية التي كانت تميّز المكان وتكرّس دوره المنبثق من تاريخيته وفق تطور طبيعي لحاجة أهل بيروت، من جهة، وللبنانيين الذين يعدّونه محطة للنقل إلى كل المناطق عبر «ساحة البرج»، من جهة أخرى.
وعلى هذا الأساس، يقول محللون إن شريحة من المشاركين في الاحتجاجات تريد شل وظيفة وسط بيروت لأنه محسوب على فريق رئيس الحكومة سعد الحريري، والمحطة الأولى لضربه كانت اعتصام «حزب الله» فيه أواخر عام 2006. ما شكّل بداية ضمور دور العاصمة اللبنانية وحوّلها إلى مركز للاحتجاج المترافق مع الشغب في بعض الأحيان. وأدى ذلك أيضاً إلى هروب المستثمرين، في ظل انقسامات داخلية وانحسار الإقبال الخارجي، والخليجي تحديداً، على لبنان.
يقول نائب بيروت السابق محمد قباني، لـ«الشرق الأوسط»، إن «استقطاب وسط بيروت للمظاهرات والاحتجاجات غير مستغرب، كما في كل عواصم العالم.
لكن المؤسف أن هذا التحركات تتزامن مع تراجع حركته الاقتصادية بفعل الأحداث المتعاقبة وإقفال مداخل المجلس النيابي في ساحة النجمة، ما أثّر على شارع المعرض والأسواق القديمة. إلا أن هذه الحالة موقتة وستستعيد أسواق وسط بيروت زخمها بعد انحسار الأزمة الاقتصادية. فالمنطقة جذابة بشوارعها التراثية وخصوصيتها، وأصحاب المصالح سيعودون إليها بالتأكيد».
ويعدّ قباني أن مشروع إعادة إعمار وسط بيروت من خلال شركة «سوليدير» كان أفضل الحلول بعد انتهاء الحرب الأهلية. ويقول: «كانت حال الوسط مخيفة. ولولا مشروع سوليدير الجبار بإشراف رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري لبقي وضع المكان على حاله».
إلا أن المحامي ورئيس «جمعية التجارة العادلة في لبنان» سمير عبد الملك يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «وسط بيروت شكّل تجربة فريدة لكل من عايشه قبل الحرب الأهلية. كانت أسواقه بمثابة سوبرماركت اللبنانيين. تزدحم مطلع كل شهر بالناس الذين يأتون لشراء حاجاتهم ويقصدونها بشكل طبيعي ضمن سياق حياتهم اليومية. الحرب الأهلية دمّرت هذا الدور.
فانقطعت العلاقة مع المكان. وتكرس الانقطاع مع إعادة إعمار وسط بيروت بمخطط يتناقض مع روح المكان، ويبتر العلاقة الطالعة من الذكريات الشعبية لجماعات تلتقي وتتحاور وتتبادل همومها أثناء تسوقها. فالوسط كان طريقة عيش وليس تعايشاً.
ورغبنا كجمعية في تجنب خسارة روحه وإبقائه شعبياً ليجمع الشعب، لكن إدارة (سوليدير) كانت في عالم آخر، ووضعت شروطاً تعجيزية تحول دون إقدام شرائح منوعة من الشعب على الاستثمار في المكان».
ويقول الخبير الاقتصادي الأستاذ الجامعي أنطون حداد لـ«الشرق الأوسط» إن «وسط بيروت اكتسب أهميته الاقتصادية قبل الحرب لأنه حضن وظائف متعددة تطال شرائح اجتماعية على امتداد السلم الاجتماعي. وبعد الحرب جاءت فكرة (سوليدير) ليؤدي الوسط وظائف اقتصادية ذات قيمة مضافة مرتفعة.
وأول انكشاف لهذه الوظائف بدأ عام 2005 مع ظروف مختلفة عما سبقها، وبدأت الشركات العالمية تفقد اهتمامها بلبنان لأسباب أمنية وسياسية. وبدأت تتراجع السياحة المرتفعة، كذلك الاهتمام بعقارات الوسط الفخمة. كل ذلك أدى إلى إفراغ الوسط التجاري من وظيفته الأساسية. وانكشفت إحدى نقاط ضعف (سوليدير) باعتمادها على هذا النشاط، وتحديداً بعد تحول لبنان من مكان لجذب الأعمال إلى مكان للصراع السياسي. وبالتالي إنشاء مشروع على هذا المستوى لم ينفع الوسط ولم يعطِه القدرة على الاستمرارية».
من جهته، يقول النائب السابق قباني إن «إعادة الحياة التجارية وإنعاش الاقتصاد في الوسط يتطلبان إجراءات محفزة، كفتح الطرق إلى شوارعه وساحاته والسماح بمرور السيارات والمارة من دون قيود». ويشير إلى أن «الوضع السياسي المخرب يشلّ تنفيذ أي قرار تنموي، بالإضافة إلى أنه يدفع المستثمرين اللبنانيين والخليجيين إلى تجنب الاستثمار في وسط بيروت خاصة ولبنان عامة، ما يبقي الحالة صعبة من دون الاستثمارات والسياحة الخليجية. كما أن الجمود التجاري في الوسط ينعكس جموداً في علاقة اللبنانيين بعضهم ببعض. فهذا المكان هو مختبر بشري لصهر العلاقات بين اللبنانيين بمختلف مذاهبهم وانتماءاتهم».
ويعتبر سمير عبد الملك، في المقابل، أن «تحول وسط بيروت إلى منطقة ضعيفة اقتصادياً هو نتيجة الظروف السياسية... لأن من استهدف المكان صنّفه بأنه يعبّر عن فئة من اللبنانيين وليس كل اللبنانيين بفعل الفرز السياسي الذي تكرّس في غياب الوعي الحقيقي للقيمين على إدارة سوليدير، مع توافر الإمكانات لديها لتجنب الاستهداف».
ويضيف: «قرار حزب الله السياسي قضى بضرب هذا الشريان الحيوي المحسوب على فريق بعينه.
وأسهمت الرهانات الخاطئة بتسهيل المخطط الذي عدّ من سعى إليه أنه لا يستفيد من الحركة الاقتصادية للوسط، لذا لم يوفره في حربه السياسية من خلال الاعتصام ما أدى إلى إقفال المتاجر وهجرة الأعمال منه، ليوجع أصحابه. ولم تنفع الإجراءات التي اتخذتها سوليدير بعد ذلك لتدارك الأمر».
وسط بيروت ساحة للتخريب خلال الاحتجاجات الشعبية
وسط بيروت ساحة للتخريب خلال الاحتجاجات الشعبية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة