ندوة عن «وصف مصر» بمناسبة العام الثقافي المصري ـ الفرنسي

ندوة عن «وصف مصر» بمناسبة العام الثقافي المصري ـ الفرنسي
TT

ندوة عن «وصف مصر» بمناسبة العام الثقافي المصري ـ الفرنسي

ندوة عن «وصف مصر» بمناسبة العام الثقافي المصري ـ الفرنسي

تنظم مكتبة الإسكندرية ندوة موسعة يوم الثلاثاء المقبل 22 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي بعنوان «وصف مصر... قراءة عبر الزمان والمكان». تأتي الندوة في سياق الإعلان المشترك الصادر عن الرئيسين عبد الفتاح السيسي وإيمانويل ماكرون باعتبار 2019 العام الثقافي المصري - الفرنسي.
يفتتح الندوة الدكتور مصطفى الفقي مدير المكتبة، ويكرم خلالها اسم الكاتب الصحافي الراحل زهير الشايب والسيدة كريمته الدكتورة منى الشايب الأستاذ المساعد بكلية الآثار بجامعة القاهرة لقيامهما بترجمة العمل الموسوعي الفرنسي الضخم «وصف مصر» إلى العربية، بما يتيح للقارئ المصري والعربي الاطلاع على تلك الموسوعة المتفردة التي أعدها نخبة من العلماء الفرنسيين، حرص نابليون بونابرت أن يرافقوه خلال حملته على مصر.
وقد صدرت أجزاء هذا العمل الموسوعي تباعاً من عام 1809 إلى 1828. محتضنة كماً هائلاً من الدراسات والأبحاث والمعلومات حول مصر، جغرافياً وطوبوغرافياً وحضارة وتاريخاً وآثاراً وثقافة وعادات وتقاليد اجتماعية.
يشارك في الندوة الكاتب الصحافي شريف الشوباشي، والدكتور أيمن فؤاد سيد أستاذ التاريخ الإسلامي ورئيس الجمعية المصرية التاريخية، والدكتورة رانيا عز العرب الأستاذ المساعد للحضارة الفرنسية في جامعة الإسكندرية، وماري دومينيك نينا مديرة معهد الدراسات السكندرية، وأفيليكس مونسرات الباحث في المركز الفرنسي للآثار الشرقية.
وتسلط الندوة الضوء على الإسهام السخي لهذا الكتاب الموسوعي، ودوره الثقافي والمعرفي في اطلاع أوروبا والعالم على مدى ما تتمتع به مصر من خصوصية الموقع وتفرد الحضارة وعمق التاريخ. ومدى تأثر الواقع المصري آنذاك بالتيار العلمي - الثقافي الذي صاحب علماء الحملة الفرنسية في أثناء وجودهم بالبلاد في أول احتكاك ثقافي - حضاري بين مصر والعالم الغربي في العصر الحديث، حيث نجحت مصر في استثمار تلك الصحوة نحو الانطلاق تدريجياً على دروب الانفتاح الحضاري والاستنارة، إيذاناً بميلاد عصر تنويري جديد ارتسمت معالمه عبر البعثات التعليمية التي أوفدها محمد علي إلى فرنسا لتتوالى تباعاً خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر الذي شهد طفرة حضارية تنويرية تاريخية، تخللها بناء قنوات حوار ثقافي مصري - فرنسي متواصلة ممتدة حتى يومنا هذا.



صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي
TT

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

إذا كان الاحتفاء بالجمال بوجوهه وتعبيراته المختلفة سمة مشتركة بين الشعوب والحضارات، فلم يكن العرب الأقدمون بعيدين عن هذا الاحتفاء أو بمنأى عنه. لا بل إن ظروف حياتهم القاسية، واتساع المكان الصحراوي المفتقر إلى الماء، جعلاهم يرون في الجمال الأنثوي المياه الرمزية التي تعصمهم من العطش، والواحة الظليلة التي ترد عنهم وحشة المتاهات ووطأة الشموس الحارقة.

وفي ظل الشروط القاسية للحياة الصحراوية القائمة على الترحل وفقدان الأمان والصراع من أجل البقاء، كان من الصعب على الجاهلي أن يبتكر للجمال نماذجه وتصاميمه العليا، كما كان حال الحضارة اليونانية المدينية، بل بدا النموذج الجاهلي للجمال متصلاً بالمنفعة والحياة العملية، أكثر من اتصاله بمعايير الجسد المثالي والمتناغم الأجزاء.

وقد عكس الشعر الجاهلي في الكثير من نصوصه أشكال التضافر الخلاق بين الجغرافيا الصحراوية وجغرافيا الجسد، بما جعل من الثانية امتداداً الأولى، وإحدى تمثلاتها الحية التي تظهر في طرائق العيش وأنماطه، وفي البحث عن طريقة للتكيف مع البيئة القاسية والمفتقرة إلى الثبات. لذلك فإن مواصفات الصبر والجلد والقدرة على الاحتمال، لم تكن من الأمور التي ينبغي توفرها في الرجال وحدهم، أو في الأنعام بمفردها، بل كان مطلوباً من المرأة أيضاً أن تمتلك صفات مماثلة، تستطيع من خلالها أن تساعد الجماعة القبلية على مواجهة مخاطر العيش ومشقات الترحل وأهوال الحروب.

ولأن مثل هذه المهمات الصعبة لا تنهض بها إلا امرأة صلبة العود ومتينة الجسد، فقد بدا تفضيل الجاهليين للمرأة السمينة وتغزلهم بها، متصلاً بمعايير مركبة، يشكل الجمال البحت جزءاً منها، فيما يشكل العامل النفعي والوظيفي بعدها الآخر. وكان العرب يعتبرون أن «السُّمن نصف الحسن»، ويصفون السمينة بخرساء الأساور، لأن بدانتها تمتد إلى الرسغ فلا ترتطم إسوارة بالأخرى.

كما انتقلت عدوى التغزل بالمرأة السمينة إلى الشعر، فاعتبر طرفة بن العبد أن تعلقه بالحياة يجد مسوغاته في الارتباط بامرأة سمينة، يختلي بها في ظلمة «الخباء المعمد»، وتسهم في تقصير ليله المثقل بالوحشة والخوف. أما امرأة عمرو بن كلثوم فهي من الضخامة بحيث «يضيق الباب عنها». والملاحظ أن معظم المواد التعبيرية التي تم توظيفها للتغزل بجمال المرأة المعشوقة كانت منتزعة من العالم المشترك الذي يتضافر لإحيائه البشر والبهائم والطير ونباتات الصحراء. ومع أن ثمة وجوهاً عديدة للتقاطع بين البيئتين الحضرية والبدوية، من حيث الفضاء التخييلي، فإن النصوص التي قدمها الشعراء الحضريون، كانت أكثر جرأة في التركيز على التفاصيل المختلفة للجسد المشتهى.

لعل قصيدة «سقط النصيف» التي نظمها النابغة الذبياني في وصف المتجردة، زوجة النعمان بن المنذر، هي أحد أكثر النماذج الشعرية تعبيراً عن مواصفات الجمال في تلك الحقبة، فهي كالغصن الطويل تتأود من النعمة، وعيناها الشبيهتان بعيني الغزال جارحتا الألحاظ كالسهام، وشعرها أسود ومدلى كعناقيد العنب، وفمها بارد عذب، ونحرها الأملس مزين بقلائد الذهب. كما أنها «بضة الجسم، ريّا الروادف، وغير واسعة البطن».

على أن طغيان الطابع الحسي على النصوص الجاهلية المتعلقة بالحب والجمال لم يحل دون عثورنا على بعض اللقى الثمينة، التي تتقاطع في غرابتها وعمقها مع كشوفات علم النفس الحديث، كأن يعتبر الشنفرى أن الجمال في مآلاته القصوى، قد لا يتسبب بجنون عشاقه فحسب، بل بجنون حامله في الوقت ذاته، كما في قوله:

فدقّتْ وجلّتْ واسبكرّتْ وأكملتْ

فلو جُنَّ إنسانٌ من الحسن جُنّتِ

وإذا كانت معايير الجمال قد بدأت بالتبدل في العصرين الأموي والعباسي، بحيث باتت متصلة بالرشاقة وطول القوام، والتناسب أو التضاد بين أعضاء الجسد، كاستحسان ضمور الخصر واكتناز الأرداف، فقد كان ذلك التبدل من مفاعيل الحياة الجديدة والاجتماع المديني وتمازج الثقافات.

كما لم تعد معايير الجمال مقتصرة على المفاتن الظاهرة وحدها، بل كان يُراعى فيها الجاذبية وقوة الحضور والدماثة وخفة الظل، بحيث ميز العرب بين الجمال والملاحة والحسن والحلاوة والوسامة والبهاء وغيرها. وقد ذكر أبو الفرج في «الأغاني» أن كلاً من سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وهما من جميلات العرب، كانت تدعي أنها أجمل من الأخرى، وحين احتكمتا إلى عمر بن أبي ربيعة ليبت في الأمر، نظر إليهما ملياً وقال: «أنت يا عائشة أجمل، وأما سكينة فأملح». وإذ عنى عمر بالملاحة الرقة وخفة الروح، فقد أرضى المرأتين في الوقت ذاته.

وإذا كان في القصيدة «اليتيمة» المنسوبة إلى دوقلة المنبجي، ما يتناول الجسد الأنثوي بالوصف المفصل، فلأنه لم يكن باستطاعة المنبجي، الذي لم يكن قد رأى دعداً، أميرته الموعودة، إلا أن يرسم من عندياته تفاصيل النموذج الجمالي المثالي، مستعيناً بالتصورات الأولى التي رسمها الشعراء الجاهليون في مخيلاتهم. ومن بين أبياتها قوله:

فكأنها وسْنى إذا نظرتْ أو مدْنفٌ لمّا يفقْ بعدُ

وتُجيلُ مسواكَ الأراك على ثغرٍ كأنّ رضابهُ الشهدُ

ولها بنانٌ لو أردتَ لهُ عِقْداً بكفكَ أمكن العقدُ

وبخصرها هَيَفٌ يحسّنها فإذا تنوء يكاد ينقدُّ

اللافت أن من سمُّوا بالشعراء الإباحيين في العصر الأموي، لم يعمدوا إلى تناول الجمال الأنثوي على نحو سافر ومتهتك، لا بل إن ما تغزلوا به من ملامح المرأة ومفاتنها لا يتجاوز إلا قليلاً نطاق عمل العذريين ومجالهم الجمالي الحيوي كوصف الثغر والعنق والعينين والشعر والخصر. وقد تكون الفوارق بين الفريقين متمثلة في إلحاح الإباحيين على نقل وقائع غزواتهم العاطفية بتفصيلاتها وحواراتها الساخنة، إضافة إلى تبرمهم بالعلاقة الواحدة وبحثهم عن الجمال في غير نموذج ومثال، وهو ما يعكسه قول عمر:

إني امرؤ موكلٌ بالحسن أتبعهُ

لا حظَّ لي فيه إلا لذة النظرِ

كان من الصعب على الجاهلي أن يبتكر للجمال نماذجه وتصاميمه العليا كما كان حال الحضارة اليونانية المدينية

الأرجح أن مناخات الحرمان والكبت وتعذر الامتلاك قد أسهمت في مضاعفة سلطة الجمال الأنثوي على العاشق العذري، بما جعل الأخير يترنح مصعوقاً تحت ضرباته القاصمة. وقد ورد في غير مصدر تراثي أنه «قيل لامرأة من بني عذرة: لماذا يقتلكم العشق؟ فأجابت: فينا جمال وتعفف، والجمال يحملنا على العفاف، والعفاف يورثنا رقة القلوب، والعشق يُفني آجالنا، وإنا نرى عيوناً لا ترونها».

ولعل تلك العيون بالذات هي التي استطاع العشاق أن ينفذوا من خلالها إلى ما وراء الملامح الظاهرة لمعشوقاتهن، وتزين لهن نوعاً من الجمال مطابقاً للنموذج المثالي الذي ابتكرته مخيلاتهم. وليس أدل على ذلك من سؤال عبد الملك بن مروان لبثينة حين قامت بزيارته: ما الذي رآه فيك جميل حتى أحبك؟ فأجابته قائلة: «يا أمير المؤمنين، لقد كان يراني بعينين ليستا في رأسك». ومع أن الحادثة المذكورة تُروى على غير وجه، فإن ذلك الأمر لا يلغي دلالتها المتلخصة بأن الجمال نسبي وحمال أوجه، وخاضع لذوق الرائي ومشاعره وتهيؤاته.

ومع ما أصابته الحقبة العباسية من تطورات دراماتيكية على مستويات الثقافة والفكر والاجتماع، فقد بدأت الرؤية إلى الجمال تتعدى المتعة والانتشاء الحسي، لتتحول إلى أسئلة فلسفية معقدة تتصل بطبيعة الجمال ومصدره وأسباب سطوته على «ضحاياه». وهو ما يجد شاهده الأمثل في حيرة ابن الرومي إزاء جمال وحيد المغنية، وقوله متسائلاً:

أهي شيءٌ لا تسأم العين منه

أم لها كل ساعةٍ تجديدُ؟

أما أبو الطيب المتنبي فقد بدا لبيته الشهير في وصف امرأته المعشوقة (تناهى سكون الحسن في حركاتها/ فليس لرائي وجهها، لم يمت، عذرُ»، نوعاً من التوأمة الفريدة بين الحيّزين الشعري والفلسفي، حيث الحركات المتناغمة للجسد تصل بالجمال إلى سكونه المطلق، والمقيم على التخوم الفاصلة بين الحياة والموت. وإذ رأى أبو الطيب أن في الأعمار القصيرة للبشر الفانين، ما يوجب اغتنام الحياة كفرصة ثمينة للتمتع بجمال الوجود والوجوه، هتف بحبيبته، الممعنة في جمالها ونأيها على حد سواء:

زوّدينا من حسْن وجهكِ

ما دام فحسْنُ الوجوه حالٌ يحولُ

وصِلينا نصلْكِ في هذه الدنيا

فإنّ المقام فيها قليلُ


3 شواهد قبور من مدافن البحرين الأثرية

ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة
ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة
TT

3 شواهد قبور من مدافن البحرين الأثرية

ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة
ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة

خرجت من مقابر البحرين الأثرية خلال السنوات الأخيرة مجموعة كبيرة من الأنصاب، تتميّز بنقوش تصويرية آدمية. لا نجد ما يماثل هذه الأنصاب في حواضر سواحل الخليج العربي إلى يومنا هذا، ويرى البحاثة أنها رُفعت في الأصل كشواهد للقبور التي رافقتها. بدأ اكتشاف هذه الشواهد في منتصف القرن الماضي، ومنها 3 قطع عُثر عليها في مواقع معزولة، دخلت متحف البحرين الوطني بالمنامة، ضمن مجموعة من المكتشفات التي تمّ العثور عليها خلال الفترة الممتدة من عام 1954 إلى عام 1974.

اختلفت الآراء في تصنيف هذه القطع كما في تحديد هويّتها ووظيفتها خلال تلك الفترة، غير أن الصورة اتّضحت بشكل كبير في مرحلة لاحقة، نتيجة ظهور عدد كبير من القطع المشابهة في سلسلة من المقابر الأثرية تقع اليوم في المحافظة الشمالية، كشفت عنها أعمال المسح والتنقيب المتواصلة في حقبة التسعينات. تحضر هذه القطع الثلاث في كتاب من إعداد مجموعة من البحاثة، صدر في عام 1989، وجاء على شكل كتالوغ حوى مجموعة مختارة من مجموعة محفوظات متحف البحرين الوطني، تعود إلى الحقب التي سبقت ظهور الإسلام. افترض البحاثة يومها أن هذه الأنصاب الآدمية قد تكون مسيحية، ورأوا أنها نُقشت بين القرنين الخامس والسادس للميلاد. ويتّضح في زمننا أن هذه الأنصاب هي شواهد قبور لا تمتّ إلى المسيحية بأي صلة، وهي من نتاج الحقبة التي عُرفت بها البحرين باسم تايلوس، وقد تمّ نقشها بين القرنين الأول والثالث للميلاد.

تتفاوت هذه القطع في الحجم، وهي من الحجر الجيري، وأكبرها قطعة يبلغ طولها 41 سنتيمتراً، وعرضها 23.5 سنتيمتراً، وسماكتها 11 سنتيمتراً، وتمثّل قامة تنتصب بين عمودين يعلوهما قوس. العمودان مجردان من الزينة، ويكلّل كلّاً منهما تاج زُيّن بنقش على شكل حرف «إكس». أما القوس، فتعلوه 3 حزوز متوازية تأخذ شكل 3 أقواس ناتئة، يفصل بين كلّ منها شقّ غائر. وسط هذه المشكاة المتواضعة، تقف قامة آدمية تتبع في بنيتها تكويناً يبتعد عن محاكاة المثال الواقعي الحي. الرأس ضخم للغاية، والكتفان صغيرتان، والجسد قصير، وهو مكوّن من الصدر وأعلى الساقين فحسب. اللباس بسيط، قوامه معطف يلتفّ فوق رداء، وفقاً للزي اليوناني التقليدي. الوجه أنثوي، ويعلوه شريط يغلف الشعر على شكل حجاب. العينان لوزتان كبيرتان، فارغتان، وتخلوان من البؤبؤ. الأنف قصير، وهو على شكل عمود مستطيل بسيط ناتئ. الثغر منمنم، ويتّسم بشق أفقي يفصل بين شفتيه الذائبتين في كتلة الحجر الجيري.

تحجب ثنايا المعطف هذه القامة، وتنسدل بشكل متناسق من الأعلى إلى الأسفل. تنسلّ اليد اليمنى من خلف هذا الرداء، وترتفع كفّها المنبسطة نحو أعلى الصدر، وتظهر أصابعها الخمس المرصوصة والمتلاصقة. في حركة موازية، تخرج اليد اليسرى، وتبدو أصابعها قابضة على حزمة تشكّل كما يبدو طرف المعطف الأيسر. تتتبع هذه الحركة في الواقع تقليداً ثابتاً، يتكرّر في عدد كبير من القامات الأنثوية التي خرجت من مدافن تايلوس الأثرية التي عُرفت بأسماء القرى المجاورة لها، وأبرزها الشاخورة، وأبو صيبع، والحجر.

يظهر هذا التأليف على قطعة أخرى من هذه القطع الثلاث، مع اختلاف جليّ في التفاصيل. يبلغ طول هذا الشاهد 32 سنتيمتراً، وعرضه 21 سنتيمتراً، وسمكه 9 سنتيمترات. وهو على شكل كوّة نصف بيضاوية يحدّها في الأسفل شريط عريض يشكّل جزءاً من إطارها المجرّد من أي نقش تزييني. تقف قامة وسط هذا المحراب في وضعية المواجهة الثابتة، باسطة كفّها اليمنى أمام أعلى صدرها، ممسكة بقبضة يدها اليسرى طرف ردائها. نتوء هذه القامة طفيف، وصورتها أشبه برسم منقوش غابت عنه خصائص النحت البارز. يأخذ هذا الرداء شكل عباءة تلتف حول الهامة، وتتكوّن ثناياه من أربع مساحات مستطيلة متوازية، تقابلها ثلاث مساحات عمودية أصغر حجماً تزيّن طرف العباءة الأيسر. الوجه مهشّم للأسف، وما بقي منه لا يسمح بتحديد ملامحه. حافظت اليدان على تكوينهما بشكل كامل، وأصابعهما محدّدة وفقاً للأسلوب التحويري المتّبع.

نصل إلى القطعة الثالثة، هي أجمل هذه القطع من حيث التنفيذ المتقن، وتتميّز برهافة كبيرة في النقش والصقل. يبلغ طول هذا الشاهد 24 سنتيمتراً، وعرضه 10 سنتيمترات، وسماكته 7 سنتيمترات، يحدّه عمودان يعلوهما القوس التقليدي. يزيّن هذا القوس شق في الوسط، ويزيّن كلاً من العمودين مكعّب محدّد بشريطين يشكّل تاجاً له، ويقابل هذا التاج مكعّب مماثل يشكّل قاعدة لهذا العمود. تحتل القامة وسط هذا المحراب، وتمثّل شاباً فتياً أمرد يحضر كذلك في وضعية المواجهة. الرأس كتلة بيضاوية، وملامح وجهه واضحة. العينان لوزيتان مجرّدتان، يعلوهما حاجبان عريضان مقوّسان. الأنف ناتئ ومستقيم، وهيكله على شكل مساحة مستطيلة مجرّدة غابت عنها فتحتَا المَنْخِر. الأذنان ضخمتان، وقوام كل منهما صيوان عريض يلتف حول جوف القناة. الخدان مكتنزان، الذقن مقوّس، والجبين قصير، يعلوه شعر حدّدت خصلاته على شكل فصوص مستطيلة مرصوصة. الذراعان ملتصقتان بالصدر، واللباس بسيط، قوامه جلباب بسيط، يعلوه حزام عريض ينعقد حول الوسط على شكل شريط أفقي عريض يتدلّى منه شريطان عموديّان متوازيان، يشكّلان طرفي الحزام المعقود.

يقف هذا الفتى محدّقاً في الأفق، باسطاً راحة يده اليمنى عند أعلى صدره، قابضاً بيده اليسرى على شريط عريض يتدلّى من أعلى كتفه إلى وسطه، وفقاً لنموذج تقليدي يُعرف بالفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية الفرثية التي امتدت من الروافد الشمالية للفرات إلى شرق إيران، وتميّزت بنتاجها الفني الذي جمع بين أساليب متعددة في قالب خاص، انتشر انتشاراً واسعاً في القرون الميلادية الأولى. بلغ هذا الأسلوب تايلوس، وطبع هذا الفن الجنائزي، كما تشهد هذه القطع الثلاث التي تمثّل اليوم نتاجاً واسعاً، يتواصل ظهور شواهده مع استمرار حملات المسح في المواقع الأثرية التي خرجت منها.


«الليل»... عالم موازٍ من الأفكار المدهشة عبر الثقافات

«الليل»... عالم موازٍ من الأفكار المدهشة عبر الثقافات
TT

«الليل»... عالم موازٍ من الأفكار المدهشة عبر الثقافات

«الليل»... عالم موازٍ من الأفكار المدهشة عبر الثقافات

عن دار «العربي» بالقاهرة صدر كتاب «الليل...عالم موازٍ»، ترجمة محمد رمضان، والذي يتناول فيها الباحث الألماني بيرند برونر بأسلوب أدبي ولغة تشبه التأملات الفلسفية هذا العالم المثير بأفكاره المدهشة عبر التاريخ والثقافات، ليخلص إلى نتائج شيقة حول علاقة الليل بالبشر والحيوان والنبات.

ويلاحظ المؤلف أن الأصوات في الليل يمكن أن تكون مصدر خوف للبعض أو شيئاً يبعث على الأمان لدى البعض الآخر، وهو ما يحدث عند سماع نباح كلب أو صرير جذع شجرة، أو إغلاق باب بشكل غير متوقع، أو حتى صراخ طفل بشكل مفاجئ.

لا يمكننا الاعتماد في الليل على الأعضاء الحسية الأكثر أهمية في أثناء النهار مثل العين إلا بقدر يسير، بمعنى آخر يأخذ السمع مكان البصر ويوجه المرء نفسه مستعيناً بالأصوات المحيطة بدلاً من الضوء. ولأن الصمت المطبق قد يكون مصدر قلق لدى البعض، فإنهم يبحثون عما يخفف من وطأة أصوات الأمواج المتكسرة على الشاطئ وحفيف مروحة معلقة في سقف الغرفة، أو أن تطن الثلاجة في الخلفية أو يدوي صوت جهاز التكييف على سطح الفندق.

يحلم البعض بقضاء الليل تحت سماء مفتوحة مليئة بالنجوم في ليلة صيفية دافئة، لكن الحقيقة أن أي شخص غير معتاد على ذلك سوف تنشط لديه غرائز البقاء التي تمنعه من النوم العميق. وهذه مشكلة لا يعرفها «الطوارق» وهم شعب من البدو الرحل يتركزون في الصحراء الأفريقية الكبرى وينامون على الحصير في الخارج ويدربون سمعهم على الأصوات، حيث لا يعتمد إيقاع نومهم على الضوء والظلام، بل على حيواناتهم بصورة أكبر.

ويشير المؤلف إلى أنه من بين المخلوقات الليلية الطائرة حقق البوم شهرة واسعة بفضل العيون الواسعة والأذنين المرتفعين، فضلاً عن السمت البشري لوجوهها، فالبومة تصدر أصواتاً في نطاق واسع بشكل مدهش والتي تذكرنا مع قليل من الخيال بالتعبيرات البشرية، كالصراخ والنحيب والأنين والضحك وحتى الصفير والشخير. ومع ذلك يجد بعض الأشخاص أن هذه الأصوات مخيفة، وفي روما القديمة كان يعتقد أن صوت البومة نذير بالموت.

ومع ذلك فإن طيور الليل تمثل أيضاً الحكمة، ويمكن رد هذا إلى اليونان القديمة، إذ ارتبطت البومة الصغيرة بـ«أثينا» إلهة الحكمة. ويشيد أيضاً عالم الطبيعة والفيلسوف والشاعر هنري ديفيد ثورو بالبوم بحماس شديد قائلاً في واحد من مؤلفاته: «يجب أن يكون هناك بوم كثير لعلهم يصرفون الناس عن عويلهم الغبي والجنوني، فالبوم صوته مثالي لتضاريس المستنقعات وغابات الشفق، وإشارة إلى جزء كبير غير متطور من الطبيعة لا يرغب البشر في الاعتراف به، إن البوم يجسد الأفكار التي لدينا جميعاً في داخلنا والتي لا نرغب في الاعتراف بها».

وتتبع النباتات أيضاً إيقاع النهار والليل، ويذهب الكثير منها إلى النوم، إذا جاز التعبير، حين يحل الظلام. وفي بعض الحالات يكون هذا واضحاً، فعلى سبيل المثال تتدلى أوراق الترمس التي تشبه المروحة بحزن في الظلام. وينطبق هذا أيضاً على الأوراق الصغيرة لـ«الحميضة» حيث تنغلق الزهور لتحمي حبوب اللقاح من ندى الصباح. وتحدث المؤلف الروماني «بيلنوس الأكبر» عن «نوم النباتات» كما لاحظ عالم الأحياء السويدي «كارل فون ليني» في القرن الثامن عشر أن الزهور تتفتح وتنغلق حتى عندما تكون في قبو مظلم.

وكتب فيلسوف الطبيعة «فيلهم بولشه» ذات مرة عن نخلة «أليكة» المعروفة أيضاً باسم «زهرة القمر» والتي تنمو في المكسيك وجنوب غرب أميركا قائلاً: «هناك في ضوء القمر أو ضوء النجوم تتألق زهورها الفضية ببريق لامع يظهر من مسافة بعيدة لدرجة أن مسافر الليل قد يعتقد أن ضوءها الأبيض الحليبي يشع منها كأنها من ثريات الطبيعة المضاءة».

في الثقافات القديمة، كان الوقت يُحسب بالليالي. وفي اللغة السنسكريتية تستخدم عبارة «ليلة بعد ليلة» بدلاً من عبارة «يومياً». أما في بلاد ما بين النهرين القديمة، فكانت هناك صلوات ليلية، حيث يتأمل الناس النجوم والكواكب كجزء من التعبد. وفي مصر القديمة، كانت بعض الاحتفالات والطقوس تقام في المساء والليل.

ويصف المعلم الروماني كينتليان الذي عاش في القرن الأول الميلادي العمل الليلي بأنه «أفضل شكل من أشكال العزلة ما دمت تبدأه منتعشاً»، لكنه يشدد على أهمية الحالة الصحية لصاحبه وألا يأتي هذا كنوع من الإكراه. ويخاطب رجل الدولة الروماني كاسيودورس الحراس الليليين قائلاً: «أنتم حفظة النائمين وحماة البيوت وحراس الأبواب ومراقبون خفيون وقضاة صامتون».

وعلى الرغم من أهمية الحراس الليليين في حفظ النظام العام، فإن سمعتهم لم تكن جيدة في كثير من الأحيان. وعلى غرار الجلادين وحفاري القبور وقاطعي الطرق والحلاقين، فإنهم يأتون في الغالب من الطبقات الدنيا ودائماً ما تكون أجورهم هزيلة حتى إن كثيرين منهم استسلموا لإغراء قبول الرشاوى وغض الطرف عن السرقة أو الجرائم المماثلة، كما تكرر على نحو ملحوظ إدانة كثيرين منهم بالفساد. ولا عجب أنهم كانوا قليلي الفائدة كشخصيات معروفة أو حتى أبطال خياليين، ولم يتغير هذا إلا في العصر الرومانسي عندما بدأ الناس يهتمون بشكل متزايد بالجانب المظلم من النفس البشرية والشخصيات الهامشية في المجتمع.