الأكراد السوريون بين رهاناتهم وإخفاقاتهم

أكراد سوريون يرفعون صورة لعبد الله أوجلان في مدينة رأس العين قرب الحدود التركية في 6 أكتوبر الحالي (أ.ف.ب)
أكراد سوريون يرفعون صورة لعبد الله أوجلان في مدينة رأس العين قرب الحدود التركية في 6 أكتوبر الحالي (أ.ف.ب)
TT

الأكراد السوريون بين رهاناتهم وإخفاقاتهم

أكراد سوريون يرفعون صورة لعبد الله أوجلان في مدينة رأس العين قرب الحدود التركية في 6 أكتوبر الحالي (أ.ف.ب)
أكراد سوريون يرفعون صورة لعبد الله أوجلان في مدينة رأس العين قرب الحدود التركية في 6 أكتوبر الحالي (أ.ف.ب)

المؤسف أن أحداً لم يكن ليهتم بالأكراد السوريين، لولا الهجوم التركي المستعر اليوم للنيل من وجودهم، مثلما لم يهتم بهم أحد إلا عندما استدعت الحاجة إليهم، إن من قبل أميركا التي وجدت فيهم قوة مثابرة على الأرض لدحر تنظيم داعش ودولته المزعومة، بعد انتصارهم في كوباني (عين العرب)، وإن من قبل النظام السوري لملء الفراغ بعد سحب سلطته من مدينة الحسكة لتحييد المكون الكردي، وتخفيف الأعباء عن قواته كي تتفرغ لمعارك في ميادين أخرى.
وبين هذا وذاك، تُرك الأكراد السوريون لسنوات طويلة وحيدين يئنون تحت وطأة ظلم وتمييز لم يعرفا حدوداً بفعل تعاقب سلطات مشبعة بالتعصب القومي، ولا مكان في دنياها لقيم التنوع والاختلاف، أو احترام التعددية وحقوق الإنسان، مثلما تُركوا لمصيرهم في مدينة عفرين وأريافها، حيث لم يكتفِ الجيش التركي والجماعات السورية الملحقة به باحتلالها، بل نكلوا وفتكوا بأهلها، وهجروهم إرهاباً من مساكنهم، لتوطين مكون عربي وتركماني مكانهم!
والمؤسف أيضاً أن يقع الأكراد، عموماً، مرة تلو المرة في الحفرة ذاتها، عندما يستمرون في منح ثقتهم ليس للشعوب التي تشاركهم شظف العيش والاضطهاد، بل للأنظمة التي تتلاعب بهم وفق أهوائها ومصالحها، وتوظفهم كورقة تُستخدم حين تفيد، وتُطوى حين ينتهي دورها، أو عندما يكررون الرهان، وأحياناً بسذاجة، على استثمار هوامش ضيقة تفرضها الصراعات بين أنظمة البلدان التي تتقاسم أراضي كردستان التاريخية، وتالياً عندما يهملون الدروس والعبر المستخلصة من الهزائم والإخفاقات التي مني بها نضالهم خلال تاريخ طويل، خصوصاً بعد أن وصلت «اللقمة إلى الفم» في غير لحظة من لحظات تاريخهم.
ولنتذكر إسقاط جمهورية مهاباد في إيران عام 1946، ثم ما حل بمملكة كردستان في عشرينات القرن الماضي، وباتفاق مارس (آذار) عام 1975 في العراق، وبالاستفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق عام 2017. ولنتذكر أيضاً التدمير الذي طال «جمهورية آرارات»، وتمرد أكراد تركيا عام 1924، وكيف يحاصر اليوم «حزب العمال الكردستاني»، حتى بعد أن اقتصرت أهدافه على حكم ذاتي في إطار الدولة المركزية، وقبلها كيف تم ترحيل عبد الله أوجلان من سوريا عام 1998، ثم اعتقاله عام 1999 في نيروبي، وتسليمه إلى سلطات أنقرة!
وإذا كان أمراً مفسراً ومفهوماً أن لا يأخذ الأكراد عموماً بتلك الدروس، ربطاً بشدة قهرهم وعمق معاناتهم، ويتقصدون اغتنام أي فرصة لنصرة مشروعهم القومي، فما ليس مفهوماً ولا مفسراً حين يستهتر بها الأكراد السوريون، وهم الذين تميزهم خصوصية مختلفة، من حيث نسبتهم العددية إلى مجموع السكان، لا تتجاوز في أحسن الأحوال 15 في المائة، عدا عن طابع توزعهم الديموغرافي في مناطق غير مترابطة جغرافياً (مدينة الحسكة وأريافها، وشمال إدلب، وحلب ودمشق)، وتعايشهم تاريخياً مع جماعات تفوقهم في بعض الأماكن عدداً، من عرب وسريان وأرمن وآشوريين وتركمان، الأمر الذي يُضعف الشروط الموضوعية لمشروعهم القومي التي يحوزها أكراد تركيا والعراق وإيران. والأهم من ذلك خصوصية تطور الحراك الكردي في سوريا الذي اتسم تاريخياً بارتباطه وتأثره الشديدين بحراك التجمعات الكردية الكبيرة في بلدان الجوار، وبانزلاق أحزابه، كاتجاه عام، لبناء خطابها السياسي تبعاً لذلك، وليس انطلاقاً من خصوصية الوضع السوري ومعانيه المتميزة. ولا يزال في الأذهان المشهد السياسي الكردي، ودفق المشاعر القومية التي رافقت حركة التطوع الواسعة من أجل دعم البيشمركة في شمال العراق، وأيضاً كيف أذكى الوجود شبه العلني لـ«حزب العمال الكردستاني» في الساحة السورية الروح القومية الكردية، مجنداً غالبية الشباب والفتية الأكراد للقتال في جبال كردستان.
ورغم ذلك، فمن دواعي العدل والإنصاف القول إن تطور الحس القومي لأكراد سوريا لم يأت عموماً على حساب ولائهم لوطنهم. فإذا استثنينا قلة من الأصوات المغالية في التطرف، التي لا تزال تروّج لأفكارها الطفولية عن الانفصال والدولة المستقلة، فإن الحركة السياسية الكردية، وهي أكثر من عشرة أحزاب متفرعة لانقسامات من جذر واحد تأسس أواسط الخمسينات، وهو الحزب الديمقراطي الكردي (البارتي)، تتفق جميعها على شعارات تؤكد على الانتماء السوري، وتدعو إلى تمتين أواصر الأخوة العربية - الكردية، والحريات العامة والديمقراطية، وهو ما أظهروه في برامجهم، وكرسوه عبر أشكال التنسيق السياسية والثقافية مع الفعاليات العربية، وكان دافعهم للمشاركة بحماسة في «إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي»، واللجان المنبثقة عنه، ثم لتشكيل «المجلس الوطني الكردي» عام 2011، للدخول ككتلة موحدة في أول مجلس وطني للمعارضة السورية، قبل أن يعلنوا انسحابهم من تشكيلات المعارضة وائتلافاتها كافة، بسبب ما عدوه إغفالاً لمطالبهم القومية.
وفي المقابل، علينا الاعتراف بأن «حزب الاتحاد الديمقراطي» في سوريا، وهو الامتداد السياسي لـ«حزب العمال الكردستاني»، قد أحرز وزناً لافتاً، وبات الأقوى والأكثر تسليحاً، مستنداً إلى دعم السلطة السورية والهوامش الواسعة التي أتاحتها لنشاطاته، وهو الحزب الذي لم يتردد للحظة في الوقوف بداية ضد ثورة السوريين، ولجم انخراط الأكراد فيها، ومحاصرة ما ظهر من تنسيقيات بينهم داعمة لها، بما في ذلك مضايقة واعتقال أهم الناشطين والكوادر المعارضين له، وأسوأها ما رشح عن مسؤوليته في اغتيال زعيم «حزب المستقبل الكردي»، مشعل تمو، في خريف عام 2011، الذي كان قد انتخب قبل أيام من اغتياله عضواً في المكتب التنفيذي لأول مجلس وطني سوري معارض. كما لم يتردد الحزب، وربما بالتواطؤ مع النظام، في استثمار سيطرته على مناطق انسحابات الجيش السوري أواخر 2012، من شمال شرقي البلاد، لإقامة إدارة ذاتية، وتشكيل مؤسساتها وبرلمانها وجيشها وجهاز أمنها. كما استثمر نجاحه في معركة عين العرب (كوباني) لرفض الآخر، وفرض نفسه كمدافع وحيد عن الحقوق القومية الكردية، مستخدماً أساليب القمع والتمييز والإقصاء والتهجير.
ورغم التضحيات التي قدمها «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«قوات سوريا الديمقراطية»، وانتقالهما من عارضة توازن إلى أخرى بعد تحالفهما مع واشنطن لمواجهة تنظيم داعش، ورغم فشل أكثر من محاولة للسلطة السورية لتطويعهما، وإعادة الأوضاع إلى سابق عهدها، ورغم إلحاحهما المستمر على المشاركة في أي مفاوضات تجري حول المستقبل السوري، فقد بقيت الريبة والشبهة تحيط بعلاقتهما مع السلطة، وما عمقها طلب الحزب تدخل النظام في معارك عفرين، وتنسيقه العسكري اليوم مع قوات النظام لمواجهة التقدم التركي، وإن تم برعاية روسية. وربما ما يخفف منها إدراك «حزب الاتحاد الديمقراطي»، وإن متأخراً، لأهمية تقديم التنازلات، وتجنب النهج التصادمي مع العرب، إن في تأكيده على وحدة الوطن السوري، وتخليه عن اسم فيدرالية «روجافا» أو «غرب كردستان»، وإن بفتح الباب أمام مختلف المكونات غير الكردية للمشاركة في إدارة المؤسسات السياسية والإعلامية والإدارية في منطقة الحكم الذاتي.
ولكن، للأسف، فإن ما يضعف هذا المسار هو مواقف المعارضة السورية، بشقيها السياسي والعسكري، التي ارتهن بعضها لأجندة قوى إقليمية تعادي الأكراد، بينما لا يزال بعضها الآخر يشكك بالنيات الوطنية والتشاركية للأكراد، ويدّعي أنه لا أمان لهم، وأنهم يُظهرون غير ما يبطنون، ويترقبون الوقت المناسب للانفصال، وتنفيذ حلمهم القومي، من دون اعتبار للمصلحة الجامعة، ولمستقبل شركائهم في الوطن. ومن هؤلاء المعارضين من لا يزال متردداً في إظهار تفهمه لحقوق الأكراد القومية، ولم يمتلك جرأة كافية لبناء الثقة معهم، ومنحهم قيمة سياسية خاصة، وتمثيلاً حقيقياً يزيل الإحساس بالظلم الذي تراكم تاريخياً لديهم، بأنهم كانوا دائماً وقوداً لقوى سياسية تناست، عندما حققت أهدافها، ما رفعته من شعارات لرد المظالم وإلغاء التمييز.
فأي فرصة للإفادة من الدور الخاص للأكراد السوريين، ومحاصرة الروح القومية المتطرفة، إذا استمرت سياسة الإنكار والتجاهل لحقوقهم، والأسوأ حين يندفع معارضون، رداً على تطرف «حزب الاتحاد الديمقراطي»، إلى الطعن بدوره في مواجهة التشدد الإسلاموي، وبوطنية الأكراد عموماً!
هل هو قدرهم أم ربما لعنة تطاردهم أن تبقى الهزائم والإخفاقات رفيقة دروبهم، أم هو خطأهم في عدم تمثل دروس تجاربهم وهزائمهم المريرة؟ وألا يكفيهم ما دفع من أثمان وضحايا كي تبادر النخب السورية، العربية والكردية، لتحرير سياساتها مما يشوبها من حسابات ضيقة أنانية، ومن تعصب قومي، وتدرك حقيقة أن الانتصار للوطن الديمقراطي التعددي هو المدخل الصحي الناجع لمعالجة المظالم القومية، ولإزالة مواطن الريبة والشك، وخلق واقع من الثقة والاطمئنان بينهما، مما يقطع الطريق على أطراف دولية وإقليمية ما فتئت تستخدم المسألة الكردية وسيلة في صراعاتها وتسوياتها.



المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

TT

المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

بعد 9 أشهر من الحرب التي شنها قائد «الجيش الوطني الليبي»، المشير خليفة حفتر، على العاصمة الليبية طرابلس، في 4 أبريل (نيسان) 2019، مدعوماً بمقاتلين من مجموعة «فاغنر» الروسية، دفعت أنقرة بمرتزقة ينتمون لمجموعات سورية معارضة، أبرزها فصيل «السلطان مراد»، الذي غالبية عناصره من تركمان سوريا، إلى ليبيا. وبعد اقتتال دام 14 شهراً، نجحت القوات التابعة لحكومة فايز السراج، في إجبار قوات «الجيش الوطني» على التراجع خارج الحدود الإدارية لطرابلس.

وفي تحقيق لـ«الشرق الأوسط» تجري أحداثه بين ليبيا وسوريا والسودان وتشاد ومصر، تكشف شهادات موثقة، كيف انخرط مقاتلون من تلك البلدان في حرب ليست حربهم، لأسباب تتراوح بين «آيديولوجية قتالية»، أو «ترغيب مالي»، وكيف انتهى بعضهم محتجزين في قواعد عسكرية بليبيا، وأضحوا الحلقة الأضعف بعدما كان دورهم محورياً في بداية الصراع.

وفي يناير (كانون الثاني) 2024، قال المرصد السوري لحقوق الإنسان، إن عدد عناصر «المرتزقة السوريين» في طرابلس تجاوز 7 آلاف سابقاً، لكن فرّ منهم نحو 3 آلاف وتحولوا إلى لاجئين في شمال أفريقيا وأوروبا.

مرتزقة الحرب الليبية.. وقود المعارك وعبء الانتصارات والهزائم